قال إسماعيل: وحدَثني عبدُ الله بن واقد قال: حدّثني يزيد بن أبي فَرْوة مولى بني أمية قال: لما أتي يزيدُ برأس الوليد بن يزيد قال لي: انْصِبه للناس قلتُ: لا أفعل إنما ينصب رأسُ الخارج. فحلف ليُنصبنّ ولا يَنصبه غيري. فوُضع على رمح ونصب على دَرج مَسجد دمشق. ثم قال: اذهب فطُف به في مدينة دمشق. خليفة بن خَيّاط قالت: حدِّثني الوليد بن هشام عن أبيه قال: لما أحاطوا بالوليد أخذ المُصْحف وقال: أقتل كما قُتل ابن عمي عثمان. أبو الحسن المدائني قال: كان الوليدُ صاحبَ لهو وصَيْد وشرِاب ولذَّات. فلما وَلي الأمرَ جعل يَكره المواضعَ التي يراه الناسُ فيها فلم يدخل مدينةَ من مدائن الشام حتى قُتل ولم يزل يتنقلِ ويتصيّد حتى ثَقُل على الناس وعلى جُنده. واشتد على بني هشام وأضرّ بهم وضرب سليمانَ بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولِحيته وغرّ به إلى عُمان فلم يزل محبوساً حتى قُتل الوليد. وحَبس يزيد بن هشام وهو الأفقم فرَماه بنو هشام وبنو الوليد. وكان أشدَّهم قولاً فيه يزيدُ بن الوليد وكان الناسُ إلى قوله أميلَ لأنه كان يُظهر النُّسك. ولما دفع الوليدُ خالدَ بن عبد الله القَسريّ إلى يوسف بن عمر فقَتله غَضبت له اليمانية كلها وغيرُهم فأتوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البَيعة وخَلْع الوليد فامتنع عليهم وخاف أن لا تُبايعه الناس ثم لم يزل الناسُ به حتى بايعوه سرًا. ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيدُ بن الوليد خطيباً فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنّي واللهّ ما خرجتً أشراً ولا بطراً ولا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في المُلك وما بي إطرِاء نَفْسي وتزكيةُ عمَلي وإنّي لَظَلوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربي ولكنني خرجتُ غضباَ للهّ ودينه وداعياً إلى كتاب اللهّ وسُنّة نبيّه حين دَرَستْ معالمُ الهدى وطَفِىء نور التقوى وظهر الجبّار العنيد المُستحلّ للحًرمة والرَّاكب للبِدْعة والمُغيّر للسنة فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ أن غَشِيتَكم ظلمة لا تُقلع عنكم على كَثرةٍ من ذنوبكم وقَسوة من قلوبكم وأشفقتُ أن يدعو كثيراً من الناس إلى ما هو عليه فيُجيبه من أجابه منكم فاستخرتُ اللهّ في أمري وسألتهُ أن لا يَكِلَني إلى نفسي ودعوتُ إلى ذلك مَن أجابني من أهلي وأهل ولايتي وهو ابنُ عمّي في نسبي وكُفْئي في حَسبي فأراح الله منه العباد وطَفر منه البلاد ولايةً من الله وعونَاَ بلا حَوْل منّا ولا قُوة ولكنْ بحَوْل الله وقوته وولايته وعَوْنه. أيها الناس: إنّ لكم علي إن وَليت أمورَكم أنْ لا أضعَ لَبِنةً على لبنة وحجراً على حجر ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسُد ثُغَرَه وأقسّم بين أهله ما يَقْوون به فإن فَضل رددتُه إلى أهل البلد الذي يَليه ومَن هو أحوج إليه حتى تستقيمَ المعيشةُ بين المُسلمين وتكونوا فيه سواء ولا أجمركم في بُعوثكم فَتُفْتنوا ويُفْتن أهاليكم فإن أردتُم بَيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به وإن مِلْتُ فلا بيعةَ لي عليكم وإن رأيتم أحداً هو أقوى عليها مني فأردتم بيعتَه فأنا أولُ من بايع ودَخل في طاعته أقوله قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وقال خلفُ ين خليفة في قَتل الوليد بن يزيد: لقتل خالد بن عبد الله: لقد سَكَنتْ كلبٌ وأسيافُ مَذْحج صَدىً كان يَزْقْو ليلَه غيرَ راقدِ ترَكْنَا أميرَ المؤمنين بخالدٍ مُكِبا على خَيْشومه غيرَ ساجدِ فإن تَقطعوا منّا مَناط قِلادةٍ قَطعنا بها منكم مَناط قَلائد وإن تَشغلوه عَن أذان فإنّنا شَغلنا الوليدَ عن غِناء الولائد ولاية يزيد الناقص ثم بُويع يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ستّ وعشرين ومائة. وأمه ابنة يَزْدجرد بن كِسْرى سَباها قُتيبة بن مُسلم بخُراسان وبَعث بها إلى الحجّاج بن يوسف فبعث بها الحجَّاج إلى الوليد بن عبد الملك فاتخذها فولدتْ له يزيدَ الناقص ولم تَلده غيرَه. ومات يزيدُ بن الوليد بدمشق لعشر بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة. وهو ابن خس وثلاثين سنة. وصلّى عليه أخوه إبراهيم بنُ الوليد بن عبد الملك. قال عبدُ العزيز: بُويع وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة ومات ولم يبلغ الأربعين وعلى شُرطته بُكَير بن الشماخ اللَّخْمي. وكاتب الرسائل ابنُ سليمان ابن سعد. وعلى الخراج والجُنْد والخاتَم الصغير والحَرس النَصرُ بن عَمرو من أهل اليمن. وعلى خاتَم الخلافة عبدُ الرحمن بن حًميد الكلْبيّ ويقاد قَطن مولاه. وكتب يزيدُ بنُ الوليد إلى مَروان بن محمد بالجزيرة وبَلغه عنه تلكّأ في بَيعته: أما بعد. فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ والسلام. ثم قَطع إليه البُعوث وأمر لهم بالغطاء. فلم يَنْقُص! عطاؤهم حتى مات يزيد. ولما بلغ مروانَ أنّ يزيد قَطع البعوث إليه كتب ببيعته وبَعث وفداً عليهم سليمانُ بن عُلاثة العُقيلي. ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع العلاء بن يزيد بن سِنان قال: حدثني أبي قال: حضرت يزيدَ بن الوليد حين حضرتْهُ الوفاةُ فأتاه قَطن فقال: أنا رسوِلُ مَن وراءَ بابك يسألونك بحق الله لو ولًيتَ أمرهم أخاك إبراهيمَ بن الوليد. فغضِب وضرب بيده على جَبهته وقال: أنا أوَلّي إبراهيم! ثم قال لي: يا أبا العلاء إلى مَن ترى أن أعهد قلت: أمر نهيتُك عن الدخول قي أوله فلا أشير عليك بالدُّخول في آخره. قال: فأصابتْه إغماءةٌ حتى ظننتُ أنه قد مات ففعَل ذلك غير مرة ثم خرجتُ من عنده. فقعَد قَطن وافتعل عهداً على لسان يزيدَ بن الوليد لإبراهيم بن الوليد ودعا ناساً فأشهدهم عليه. قال: والله ما عَهد إليه يزيدُ شيئاً ولا إلى أحد من الناس. وقال يزيدُ في مرَضه: لو كان سعيدُ بن عبد الملك قريباً مني لرأيتُ فيه رأيي. وفي رواية أبي الحسن المَدائنيّ قال: لما مَرض يزيدُ قيل له: لو بايعتَ لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعدَه فقال له قيسُ بن هانيء العبسي: اتق الله يا أمير المؤمنين وانظُر لنفسك وأرْض الله في عباده فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يَسألني الله عن فلك ولو كان سعيدُ بن عبد الملك منّي قريباً لرأيتُ فيه رأي. وكان يزيدُ يرى رأي القَدَرية ويقول بقَوْل غيلان. لا يَحل لك إهمالُ أمر الأمة فبايعْ لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. ومات يزيدُ لعشرٍ بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة. وكان ولايتهُ خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً. فلما قَدم مروان. نبش يزيدَ من قَبره وصَلبه. وكان يُقرأ في الكتب: يا مُبذّر الكُنوز يا سجّاداً بالأسحار كانت ولايتُك لهم رحمة وعليهم حجة. نَبشوك فَصَلبوك. وبويع إبراهيم بن الوليد وأمه بَرْبَرية فلم يَتم له الأمر وكان يدخل عليه قومٌ فيسلِّمون بالخلافة وقوم يسلّمون بالإمرة وقوم لا يُسلمون بخلافة ولا بإمرة وجماعة تُبايع وجماعة يَأبون أن يبايعوا. فمكث أربعة أشهر حتى قدم مروانُ بن محمد فخَلع إبراهيم وقَتل عبد العزيز بن الحجَّاج ووَلِي الأمر بنفسه. وفي رواية خَليفة بن خَياط قال: لما أتى مروانَ بن محمد وفاةُ يزيدَ بن الوليد دعا قيساً وربيعة ففرَض لستَّة وعشرين ألفاً من قيس وسَبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة ثم خرج يريد الشام واستخلف على الجزيرة أخاه عبدَ العزيز بن محمد بن مَروان فتلقّاه وُجوه قيس: الوثيق بن الهُذَيل بن زُفَر ويزيدُ بن عمر بن هُبيرة الفَزاري وأبو الوَرْد بن الهُذَيل بن زفر وعاصم بن عبد الله بن يزيد الهلاليّ في خمسة آلاف من قَيس. فساروا معه حتى قَدِم حلب وبها بِشر ومَسرور ابنا الوليد بن عبد الملك أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسيرُ مروان بن محمد فالتقوا فانهزم بِشْر ومَسرور من ابن محمد من غير قتال فأخذهما مَروان فحبسهما عنده. ثم سار مَروان حتى أتى حِمْص فدعاهم للمسَير معه والبيعة لوليي العهد: الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما مَحبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق فبايعوه وخرجوا معه حتى أتى عسكر سًليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد. وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سُليمان وهو مُعسكر في ناحية عَيْن الجَرّ فأقبل إلى دمشق وخرج إبراهيمُ بن الوليد من دمشق ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال ومعه الأموال على العجل ودعا الناس فخَذلوه. وأقبل عبدُ العزيز بن الحجاج وسُليمان بن الوليد فدَخلا مدينة دمشق يُريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن. وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القَسري فدخل السجن فقَتل يوسف بن عمر والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما الحَمَلان وأتاهم رسولُ إبراهيمُ فتوجّه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليُخرج عياله فثار به أهل دمشق فقَتلوه واحتزّوا رأسه فأتوا به أبا محمد بن عبد الله بن يزيد ابن معاوية وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قُيوده ورأسُ عبد العزيز بين يديه وحلّوا قُيوده. فخطبهم وبايع لمروان وشَتمٍ يزيد وإبراهيم ابني الوليد وأمر بجُثة عبد العزيز فصُلبت على باب الجابية منكوسا وبعث برأسه إلى مروان بن محمد. واستأمن أبو محمد لأهل دمشق فأمنهم مروان ورضي عنهم. وبلغ إبراهيمَ فخرج هارباً حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه فقَبِل منه وأمنه فسار إبراهيمُ فنزل الرّقة على شاطىء الفرات ثم أتاه كتابُ سليمان بن هشام يَستأمنه فأمّنه فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد. وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهراً. قال أبو الحسن: شَهرين ونصفاً. ولاية مروان بن محمد بن مروان ثم بويع مَروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر. واسم الخَبّاز رُزبا وقال بعضهم: كان رُزبا عبداً لمسلم بن عمرو الباهلي. وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحِمار الجزيرة وابن أمة النخع ابنَ عم رسول الله ﷺ وابنَ عبد المطلب. وكان مروان بن محمد أحزَم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر ألا فِتْيَانَ من مُضرٍ فَيحْمُوا أسارى في الحديد مُكَبلينا أتذهبُ عامر بدمي ومُلْكي فلا غَثا أصبتُ ولا سَمينا فإن أهلك أنا ووليّ عَهدي فمروانٌ أميرُ المؤمنينا فأرِّثْ لا عدمتُك حربَ قيس فتُخرجَ منهمُ الداءَ الدًفينا ألا من مُبلغ مروانَ عني وعمي الغَمْرَ طال بدا حَنينا بأني قد ظُلمت وطال حَبْسي لدى البَخْراء في لِحِفِ مَهينا وقُتل مروانُ ببُوصير من أرض مصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الوليد بن هشام عن أبيه وعبد الله بن المُغيرة عن أبيه وأبو اليَقْظان قالوا: وُلد مَروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين وقُتل بقَرية من قُرى مِصر يقال لها بوصير يومَ الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايتهُ خمسَ سنين وستة أشهر وعشرة أيام وأم مَروان أمة لمُصعب ابن الزبير. وقُتل وهو ابنُ ستين سنة. ولد مروان عبدُ الملك ومحمد وعبد العزيز وعُبيد الله وعبد الله وأبان ويزيد ومحمد الأصغر وأبو عثمان. وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لُؤي وكان معلَماً وكان على القضاء سُليمان بن عبد الله بن عًلاثة وعلى شُرطته الكوثر بن عُتبة وأبو الأسود الغَنوي. وكان للحرس نُوب في كل ثلاثة أيام نوبة يلي ذلك صاحبُ النَوبة. وعلى حِجابته صقلا ومقْلاص. وعلى الخام الصغير عبدُ الأعلى ابن ميمون بن مِهران وعلى ديوان الجُند عمْران بن صالح مولى بني هذيل. مقتل مروان بن محمد بن مروان قالوا: والتقى مروانُ وعامرُ بن إسماعيل ببوِصِيرَ من أرض مِصر فقاتلوهم ليلاً وعبدُ الله وعبيدُ الله ابنا مروان واقفان ناحيةَ في جَمع من أهل الشام فحمل عليهم أهل خُراسان فأزالوهم عن مَراكزهم ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردُوهم إلى عَسْكرهم ورَجعوا إلى موِقفهم. ثم إنّ أهلَ الشام بدَأوهم فحملوا على أهل خراسان فكُشفوا كَشْفاً قَبيحاَ ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مَضى عبيدُ الله وعبدُ الله فلم يروا أحداً من أصحابهم فمَضوا على وجوههم وذلك في السحر. وقُتل مروان وانهزم الناسُ وأخذوا عسكر مَروان وما كان فيه وأصبحوا فاتّبعوا الفَلّ وتفرق الناس فجلعوا يَقتلون من قَدروا عليه ورجع أهلُ خراسان عنهم. فلما كان الغدً لَحِق الناسُ بعبد الله وعُبيد الله ابني مروان وجعلوا يأتونهما مُتقطّعين العشرةَ والعشرين وأكثرَ وأقلَّ فيقولان: كيف أميرُ المؤمنين فيقول بعضُهم: تركناه يُقاتلهم ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قومٌ ولا ينْعونه حتى أتوا الحَرونَ فقال: كنت معه أنا ومولىً له فصُرع فجرَرتُ برجله فقالت: أوجعتَني. فقاتلت أنا ومولاه عنه وعلموا أنه مروان فألحّوا عليه فتركتُه ولحقتُ بكم. فبكى عبدُ الله. فقال له أخوه عبيدُ الله: يا ألأمَ الناس! فررتَ عنه وتبكي عليه! ومَضوا. فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف! وقال بعضُهم كانوا ألفين. فأتوا بلادَ النوبَة فأجرى عليهم ملكُ النوبة ما يُصلحهم ومعهم أمُّ خالد بنت يزيد وأمُّ الحكم بنت عًبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مَرْوان حين انهزموا فدَفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مَروان على أن يَأتيا اليمن وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوِّدة فنتحصن في حُصونها ونَدْعو الناس. فقال لهم صاحب النُّوبة: لا تفعلوا إنكم في بلاد السًودان وهم في عدد كَثير ولا آمن عليكم فأقيموا فأبَوْا. قال: فاكتُبوا إلي كتاباً فكتبوِا له: إنا قَدِمنا بلادَك فأحسنتَ مَثْوانا وأشرت علينا أن لا نَخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرَيْن راضيَيْن شاكرَيْن لك بطيبِ أنْفُسنا. وخرجوا فأخذوا في بلاد العدوّ. فكانوا ربما عَرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاحَ وأكثرَ من ذلك لا يعرضون له. حتى أتوا بعضَ بلادهم فتلقّاهم عظيمُهم فاحتبسهم فطلبوا الماء فمَنعهم ولم يُقاتلهم ولم يُخلّهم وعطًشهم وكان يبيعهم القِرْبة بخمسين درهماً حتى أخذ منهم مالا عظيماً. ثم خَرجوا فساروا حتى عَرض لهم جبلٌ عظيم بين طريقين فسلك عبدُ الله أحدَهما في طائفة وسلك عبيدُ الله الآخر في طائفة أخرى وظنُوا أن للجبل غايةً يَقطعونها ثم يَجْتمعون عند آخرها فلم يلتقوا. وعَرض قومٌ من العدوّ لعُبيد الله وأصحابه فقاتلوهم فقُتل عبيد الله وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية وقُتل رجلٌ من أصحابه وكَفُوا عن الباقين وأخذوا سلاحَهم. وتقطع الجيشُ فجعلوا يتنكّبون العُمران فيأتون الماء فيُقيمون عليه الأيامَ فتَمْضي طائفة وتُقيم الأخرى حتى بلغ العطشُ منهم فكانوا يَنْحرون الدابّة فيَقْطعون أكراشها فيشربونه حتى وَصلوا إلى البحر بحيال المندب ووافاهم عبدُ الله وعليه مِقْرمة قد جاء بها. فكانوا جميعاً خمسين أو أربعين رجلاً فيهم الحجاجُ بن قُتيبة بن مسلم الحَرون وعفْان مولِى بني هاشم فعبّر التجار السُّفن فعبروا بهم إلى المندب فأقاموا بها شهراً فلم تحملهم فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعْلِم بهم العاملُ فخرجوا مع الحُجاج عليهم ثيابٌ غِلاظ وجِباب الأكرياء حتى وافَوْا جَدّة وقد تقطعت أرجلهم من المشي. فمروا بقوم فرقُّوا لهم فحملوهم. وفارق الحُجاج عبد الله بجدة. ثم حجّوا وخرجوا من مكة إلى تَبَالة. وكان على عبد اللهّ فصّ أحمر كان قد غيّبه حين عَبَر إلى المَندب فلما أمِن استخرجه وكانت قيمتُه ألفَ دينار وكان يقول وهو يمشي: ليتَ به دابّة. حتى صار في مِقْرَمة تكون عليه بالنهار وَبلْبسها بالليل. فقالوا: ما رأينا مثلَ عبد اللهّ قاتلوا فكان أشدَّ الناس ومَشَوا فكان أقواهم وجاعُوا فكان أصبرهم وعَرُوا فكان أحسنهم عُرياً. وَبعَث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أمَّ الحكم بنتَ أخيه عُبيد الله ففداها وردّها إليه فكانت معه. ثم أخذ عبدُ الله فقُدم به على المهديّ فجاءت امرأتُه بنت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم فكلّمت العباسَ بن يعقوب كاتِب عيسى بن عليّ وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى: فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ وأراد المهديُّ أن يقتله فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بَيعة وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم فحَبسه المهديُ. وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان وكانت في الحبس فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة فأقامت بها وقدم عبدُ الله بن مروان سًّراً فتزوّجها. وقال مولى مروان: كنتُ مع مَروان وهو هارب فقال لي يوماً: أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا! ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ. وقال: بعض آل مروان ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد: لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء إذ ذَكر مروانَ وانهزامه فقال: شهدتَ القتالَ قلت: نعم أصلح اللهّ الأمير وقال لي مروان: احزُر القوم فقلت: إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشرَ ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتُهب بيت المال الصغير فانصرفَ يُريد بيتَ المال. فقيل له: قد انتُهب بيتُ المال الأكبر انتهبه أهلُ الشام. وقال أبو الجارود السُّلميّ: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقِينا مروانَ على الزاب فحمَل علينا أهلُ الشام كأنّهم جبالُ حديد فجَثونا على الرّكَب وأشْرعنا الرماح فزالوا عنّا كأنهم سَحابةٌ ومَنَحنا الله أكتافَهم وانقطع الجسْر مما يليهم حين عَبروا فبقي عليه رجلٌ من أهل الشام فخرج إليه رجلٌ منّا فَقتَله الشاميُّ. ثمِ خرج إليه آخر فقَتله حتى والَى بين ثلاثة. فقال رجل منَّا: اطلُبوا إليَّ سيفاً قاطعاً وتُرساً صلبا فأعطيناه ومشى إِليه فضَر به بالشافي فأتقاه بالتُّرس وضَرب رجلَه فقَطعها وقَتله ورجع فحملناه وكَبَّرنا فإِذا هو عُبيد الله الكابُلي. سَمَر المنصورُ ذاتَ ليلة فذَكر خُلفاء بني أمية وسيرَهم. وأنهم لم يَزالوا على استقامة حتى أفضى أمرُهم إلى أبنائهم المُترفين وكانت هِمتهم مع عِظم شأن المُلك وجَلالة قَدْره قَصْدَ الشهوات وإِيثارَ اللذات والدخولَ في معاصي الله ومساخطه جهلاً باستدراج اللهّ وأمْنا لمَكْره فسَلبهم الله العزَ ونَقل عنهم النِّعمة. فقال له صالح بن عليّ: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن مَروان لما دخل النّوبة هارباً فيمن تَبعه سأل ملكُ النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبد الله فكلّمه بكلام عَجيب في هذا النَّحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده فإِن رأى أمير المؤمنين أن يَدْعو به من الحَبس بحَضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك فأمر المنصورً بإحضاره وسأله عن القصة. فقال: يا أمير المؤمنين قَدمنا أرض النوبة وقد خُبِّر المَلِك بأمرنا فدخل عليّ رجلٌ أقنى الأنف طُوالٌ حسنُ الوجه فقَعد على الأرض ولم يَقْرُب الثياب. فقلت: ما يَمنعك أن تَقعد على ثيابنا قال: لأنّي ملك ويحقّ على الملك أن يتواضع لعَظمة الله إذ رَفعه الله. ثم قال: لأي شيء تَشْربون الخمر وهي مُحرمة عليكم قلتُ: اجترأ على ذلك عبيدُنا وغِلْماننا وأتباعنا لأنّ المُلك قد زال عنا. قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفسادُ مُحرّم عليكم في كتابكم قلت: يَفعل ذلك عبيدُنا وأتباعُنا بجَهلهم. قال: فلِم تَلبَسُون الدِّيباج والحَرير وتَسْتعملون الذهبَ والفِضة وذلك مُحَرم عليكم قلت: ذهب الملكُ عنّا وقَل أنصارُنا فانتصرنا بقوم منِ العَجم دخلوا في دِيننا فلبَسوا ذلك على الكُرْه منَا. قال: فأطرَق مليا وجَعلً يقلَب يدَه ويَنْكُث الأرض ويقول: عبيدُنا وأتباعنا وقومٌ دخلوا في دِيننا وزال المُلك عنا! يردّد مراراً. ثم قال: ليس ذلك كذلك رب أشتم قومٌ قد استحلَلْتم ما حَرم الله ورَكِبتم ما نهاكم عنه وظَلمتم من مَلَكْتم فَسَلَبكم الله العز وألبسكم الذّل بذُنوبكم وللّه فيكم نِقْمة لم تَبْلغ غايتَها وأخاف أن يَحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيُصيبني معكم وإنما الضيافةُ ثلاثة أيام فتزوّدوا ما احَتجتم أخبار الدولة العباسية الهيثم بن عديّ قال: حدّثني ابن عيّاش قال: حدثني بُكير أبو هاشم مولى مَسْلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعةُ سرّ ودَعْوَة باطنة منذ قتل الْحُسين بن عليِّ بن أبي طالب ولم نزل نَسمع بخروج الرايات السُّود من خُراسان وزوال مُلك بني أمية حتى صار ذلك. وقيل لبعض بني أمية: ما كان سببُ زوال مُلْككم قال: اختلافنا فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا. الهيثم بن عدىّ قال: حدثني غيرُ واحد ممن أدركت من المَشايخ أنّ علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحَسن فأصاره إلى مُعاوية وكَره ذلك الحسينُ ومحمد بن الحنفية. فلما قُتل الحسينُ بن عليّ صار أمرُ الشَيعة إلى محمد بن الحنفيّة - وقال بعضُهم: إلى عليّ بن الحسين - ثم إلى محمد بن عليّ ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أنّ محمدَ بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبدِ اللهّ بن محمد بن الحنفيّة. فلم يزل قائماً بأمر الشِّيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويُؤدُّون إليه الخِراج حتى استُخلف سليمانُ بن عبد الملك فأتاه وافداً ومعه عِدّة من الشيعة فلما كلمه سليمان قال: ما كلمتُ قط قرشيّاً يُشبه هذا وما نَظن الذي كنا نُحدَّث عنه إلا حقاً فأجازه وقَضى ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللَبن المَسموم فكلَما مرّ بقوم قالوا: هَلْ لكمِ في الشراب قال: جُزيتم خيراً ثم بآخرين فعَرضوا عليه فقال: هاتوا فلما شرب واستقر بجوفه قال لأصحابه: إني ميّت فانظُروا مَن القوم فنظروا فإِذا هم قَوًضوا أبنيَتهم وذَهبوا. فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي وما أحسبني أدركه. فأسرعوا السير حتى أتوا الحُمَيْمَة من أرض الشَراة وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فنزل به فقال: يا بنَ عمَي إني ميّت وقد صرتُ إِليك وأنت صاحبُ هذا الأمر وولدُك القائم بِه ثم أخوه مِن بعده والله ليتمّن الله هذا الأمرَ حتى تَخرج الراياتُ السود من قَعْر خُراسان ثم ليَغْلِبُنّ على ما بين حَضرموت وأقصى إِفريقية وما بين الهِنْد وأقصى فَرْغانة. فعليك بهؤلاء الشيعة واستَوْص بهم خيراً فهم دعاتُك وأنصارُك. ولتكن دَعوتُك خُراسان ولا تَعْدها لا سيما مَرْو واستَبْطن هذا الحيً من اليمن فإِن كل مُلْك لا يقوم به فمصيره إِلى انتقاض وانظُر هذا الحيَّ من رَبيعة فألحقهم بهم فإِنهم معهم في كل أمر وانظُرْ هذا الحي من قَيس وتميم فأقْصهم إلا مَن عصم الله منهم وذلك قليل ثم مرُهم أن يَرْجعوا فَلْيجعلوا اثني عشرَ نقيباً وبعدهم سبعين نقيباً فإن الله لم يُصلح أمرَ بني إِسرائيل إلا بهم وقد فعل ذلك النبيّ ﷺ فإذا مضت سنة الحِمَار فوجِّه رُسلك في خُراسان منهم من يُقتل ومنهم مَن ينجو حتى يُظهر الله دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم وما سَنة الحِمَار قال: إِنه لم تمض مائةُ سنة من نُبَوّةِ قط إِلا انتَقَض أمرها لقول الله عز وجل: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنى يحي هذه الله بعد موتها. فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله: " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ". واعلم أن صاحب هذا الأمر مِن ولدك عبدُ الله بن الحارثية ثم عبدُ الله أخوه. ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولدٌ يسمى عبد الله فوُلد من الحارثيّة ولدان سَمّىِ كل واحد منهما عبدَ الله وكنى الأكبر أبا العباس والأصغر أبا جعفر فوَليا جميعاَ الخلافة. ثم مات أبو هشام وقام محمدُ بن علي بالأمر بَعده فاختلفت الشيعةُ إِليه. فلما وُلد أبو العباس أخرجه إليهم في خِرقة وقال لهم: هذا صاحبُكم فجعلوا يَلْحسون أطرافَه ووُلد أبو العبّاس في أيام عمرَ بن عبد العزيز. ثم قدم الشيعةُ على محمد بن عليً فأخبروه أنهم حًبسوا بخُراسان في السجن وكان يَخْدُمهم فيه غلام من السًراجين ما رأوا قطُّ مثلَ عقله وظَرْفه ومحبّته في أهل بيت رسول الله ﷺ يقال له: أبو مسلم. قال: أحر أم عبد قال: أمّا عيسى فيزعم أنه عَبد وأما هو فيزعم أنه حُر. قال: فاشتَرُوه واعتقوه واجعلوه بينكم إِذ رَضيتموه. وأعْطَوْا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم. فلما انقضت المائةُ السنة بعثَ محمدً بن علي رُسلَه إِلى خراسان فغرسوا بها غَرْساً وأبو المُقدًم عليهم وثارت الفِتنة في خراسان بين المُضرية واليمانية فتمكًن أبو مُسلم وفَرّق رُسله في كُوَرِ خُراسان يدعو الناس إلى آل الرسول فأجابوه. ونَصْر بنُ سيار عاملُ خًراسان لهشام بن عبد الملك فكان يَكتب لهشام بخَبرهم وتمضي كتبه إِلى ابن هُبيرة صاحب العراق ليُنفذها إلى أمير المؤمنين فكان يَحْبسها ولا يُنْفذها لئلا يقوم لنَصر بن سيّار قائمة عند الخليفة. وكان في ابن هُبيرة حسد شديد. فلما طال بنَصر بن سيّار ذلك ولم يأته جوابٌ من عند هشام كتب كتاباً وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هُبيرة وفي جَوف الكتاب هذه الأبياتُ مُدْرَجة يقول فيها: أرَى خَلَل الرماد وميضَ جَمْرٍ فيُوشِكُ أنْ يكون لها ضِرَام فإنّ النارَ بالعُودين تُذْكَى وإن الحربَ أولًها الكلام فإِنْ لم تُطْفئوها تَجْن حَربا مُشَمِّرة يَشيب لها الغُلام فقلتُ من التعجّب ليتَ شِعرِي أأيقاظُ أمَيّة أم نِيام فإن كانوا لحينهمُ نياماً فقُل قوموا فقد حان القِيام فِفِري عن رِحالك ثم قُولي على الإسلام والعَرب السلام فكتب إِليه هشام: أنِ احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم. قال نصر: وكيف لنا بحَسمه! وقال نَصْر بن سيّار يُخاطب المضرية واليمانية ويُحذِّرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله: أبْلغ ربيعةَ في مَرْوٍ وإخْوَتهم فلَيْغضبوا قبل أن لا يَنْفع الغَضَبُ وَلْينصبوا الحربَ إن القومَ قد نَصَبوا حرباً يُحرَّق في حافاتها الحَطب ما بالُكم تَلقَحون الحربَ بَينكم كأنّ أهل الحِجا عن فِعْلكم غَيَب وتَتْركون عدوًّا أظلِّكم مما تَأشب لا دِينٌ ولا حَسَب قِدْماً يدينون ديناً ما سمعتُ به عن الرَّسول ولم تَنزل به الكُتب فمن يَكن سائلاً عن أصْل دِينهم فإنّ دينَهم أنْ تُقْتل العرب ومات محمد بن عليّ في أيام الوليد بن يزيد وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد فقام بأمر الشِّيعة. وقَدَّم عليهم أبا مسلمِ السرَّاج وسُليمان بن كَثير وقال لأبي مُسلم: إن استطعت أن لا تَدع بخُراسان لساناً عربياً فافعل ومَن شَكَكت في أمره فاقتُلْه. فلما استَعْلى أمرُ أبي مُسلم بخُراسان وأجابته الكُور كلها كتب نصرُ بن سيّار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكَثرة مَن تَبعه وانّه قد خاف أن يَسْتولي على خُراسان وأن يَدْعو إِلى إِبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتابُ مَروان وقد أتاه رسول لأبي مُسلم بجوابِ إِبراهيم إلى أبي مُسلم. فكتب مروانُ إلى الوليد بن مُعاوية بن عبد الملك بن مروان وهو عامله على دمشق: أن أكتُب إلى عاملك بالبَلقاء ليسير إلى الْحُميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشدّه وَثاقاً ثم يَبْعث به إِليك ثم وجهْه إليّ. فحمُل إِلى مَروان وتبعه من أهله عبدُ الله بن علي وعيسى بن موسى فأدخل على مروان فأمر به إلى الحبس. وقال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة قال: كنتُ آتيه في السجن ومعه فيه سعيدُ بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز فواللهّ إني ذاتَ ليلة في سَقيفة السجن بين النائم واليقظان إذ بمَوْلى لمَروان قد استفتح البابَ ومعه عشرون رجلاً من موالي مروان الأعاجم ومعهم صاحب السجن فأصبحنا وسعيدٌ وعبدُ الله وإِبراهيم قد ماتوا. قال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة قال: حدثني وصيفُ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمُه في الحَبس: إِنه غَمّ عبدَ الله مولاه بِمرْفقه. وإِبراهيمَ بن محمد بجراب نُورة وسعيدُ بن عبد الملك أخرجه صاحبُ السجن فلقيه بعضُ حَرس مروان في ظُلمة الليل فوَطئته الخيلُ وهم لا يعرفون من هو فمات. ثم استولى أبو مُسلم على خُراسان كُلها فأرسل إلى نصر بن سيّار فهَرَب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الرَّيْ فمات نصرُ بن سيّار بساوَة وتفرّق أصحابه ولَحِق داود بالكُوفة وولدُه جميعاً. واستعمل أبو مُسلم عُمّاله على خُراسان ومَرْو وسَمَرقند وأحوازها ثم أخرج الراياتِ السود وقَطع البعوث وجَهَّز الخيل والرجال عليهم قحطبةُ بن شَبيب وعامر بن إسماعيل ومُحرز بن إِبراهيم في عِدّة من القُوّاد فَلَقُوا مَن بطُوس فانهزموا ومَن مات في الزِّحام أكثرُ ممن قُتل فبلغ القتلَى بضعةَ عشرَ ألفاً. ثم مَضى قَحْطبة إلى العِراق فبدأ بجُرجان وعليها نُباتة بن حَنْظلة الكِلابيّ. وكان قَحْطبة يقول لأصحابه: والله ليُقْتلن عامرُ بن ضُبارة ويَنْهزمنّ ابنُ هُبيرة ولكني أخافُ أن أموتَ قبل أن أبلغ ثأري وأخاف أن أكون الذي يَغْرق في الفرات فإِن الإمام محمدَ بن عليّ قال لي ذلك. قال الهيْثمُ: فقَدِم قحطبةُ جُرجانَ فقَتل ابنَ نُباتة ودخل جُرجان فانتهبها وقسّم ما أصاب بين أصحابه ثم سار إلى عامر بن ضُبارة بأصْبهان فلقيه فقُتل ابنُ ضُبارة وقتل أصحابه ولم يَنجُ منهم إِلا الشّرَيد ولَحق فَلُهم بابن هُبيرة. وقال قَحْطبة لما قُتل ابن ضُبَارة: ما شيءٌ رأيتُه ولا عدوٌ قتلتُه إلّا وقد حَدّثني به الإمام صلواتُ الله عليه إلا أنه حدّثني أني لا أعْبُر الفُرات. وسار قَحطبةُ حتى نزل بحلوان ووجّه أبا عون في نحو ثلاثين ألفاً إلى مَروان بن محمد فأخذ على شهر زور حتى أن الزَّاب وذلك برَأي أبي مُسلم. فحدّث أبو عون عبدُ الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بُكَير بن ماهان: أنت والله الذي تسير إلى مرْوان ولتَبْعثنّ إليه غُلاماً مِن مَذْحِج يقال له عامر فلَيقتلنّه. فأمْضيت والله عامرَ بن إسماعيل على مُقدَمتي فلقي مروان فقتله. ثم سار قَحطبة من حُلوان إلى ابن هُبيرة بالعراق فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلامُ وقُتل قَحطبة في المَعركة وهو لا يُعرف. فقال بعضُهم: غَرِق في الفُرات. ثم انهزم ابنً هُبيرة حتى لحق بواسط وأصبح المُسوِّدة وقد فَقدوا أميرَهم فقدَموا الحسنَ بن قَحطبة. ولما بلِغ مروانَ قتلُ قَحطبة وهَزيمةُ ابن هُبيرة قال: هذا والله الإدبار وإلا فمتى رأيتُم ميِّتاً هَزم حَيًّاً! وأقام ابن هُبيرة بواسط وغلبت المُسوَدة على العراق وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجهَ عَمَّة عَبدَ اللهّ بن علي لقتال مَروان وأهل الشام وقدّمه على أبي عَون وأصحابه. ووجه أخاه أبا جَعفر إلى واسط لقتال ابن هُبيرة. وأقام أبو العباس بالكُوفة حتى جاءته هَزيمةُ مَرْوان بالزاب وأمضى عبد الله بن علي أبا عون في طَلبه وأقام على دِمَشق ومدائن الشام يأخذ بَيعتها لأبي العباس. وكان أبو سَلمة الخلّال واسمه حَفْص بن سليمان يدعى وزيرَ آل محمد وكان أبو مُسلم يدعى أمينَ آل محمد. فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلاّل واتهمه بحُب بني فاطمة وأنه كان يَحْطِب في حِبالهم. وقتل أبو جعفر أبا مسلم وكان أبو مُسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تُكلموا الناسَ إِلا رَمْزا ولا تَلحظوهم إلا شزرا لتمتلىء صدورُهم من هَيبتكم. مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك كَتب يوسف بن عُمر إلى هشام بن عبد الملك: إنّ خالدَ بن عبد الله أوْدع زيدَ بن عليّ بن حُسين بن عليّ بن أبي طالب مالاً كثيراً. فبعث هشامٌ إلى زَيد فقَدِم عليه فسأله عن ذلك فأنكر فاستحلفه فحلف له فخلّى سبيله وأقام عند هشام بعد ذلك سنة. ثم دخل عليه في بعض الأيام فقال له هشام: بَلغني أنك تحدِّث نفسَك بالْخِلافة ولا تَصْلح لها لأنك ابنُ أمة. قال: أمّا قولكُ إني ابن أمة فهذا إسماعيل ﷺ ابنُ أمة أخرج الله من صُلبه خيرَ البشر محمداً ﷺ وإِسحاقُ ابن حُرة أخرج الله من صُلبه القِردَة والخنازير وعَبدة الطاغوت. وخرج زيد مُغضباً. فقال زيد: ما أَحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذل قال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وخرج زيدٌ حتى قَدم الكوفة فقال: شرَده الخوْفُ وأزْرَى به كذاك مَن يَكره حَرّ الجلادْ مُحتفي الرَّجلين يَشْكو الوجَى تَنْكُبه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد قد كان في المَوْت له راحة والموتُ حَتْم في رِقاب العِبادْ ثم خَرج بخُراسان فوجّه يوسف بنُ عمر إِليه الخيلَ وخرج في إثرها حتى لقيه فقاتَله فرُمي زيدٌ في آخر النهار بنشّابة في نَحْره فمات فدَفنه أصحابهُ في حمأة كانت قريبةً منهم. وتتبع يوسف أصحابَ زيد فانهزم من انهزم وقُتل من قُتل. ثم أتي يوسفَ فقيل له: إن زيداً دُفن في حَمأة. فاستخرجه وبَعث برأسه إلى هشام ثم صَلبه في سُوق الكُنَاسة. فقال في ذلك أعورُ كلب وكان مع يوسف في جَيش أهل الشام: نَصبنا لكم زيداً على جِذْع نخلةٍ وما كان مَهْدي على الجذْع يُنصبُ الشَيباني قال: لما نزل عبدُ الله بن علي نهر أبي فُطرس حضر الناسُ بابَه للإذن وحَضر اثنان وثمانون رجلاً من بني أمية فخَرج الآذن فقال: يا أهل خراسان قُوموا.