باب في رواة الشعر
قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب. وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده. قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه: طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة فدخلتُ المسجد الجامع فتصفَحت الحَلَق فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي فجلستُ إليه فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر بل أنت أشعرُ منه حيث يقول: رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو: إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ لخلَف الأحمر وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى فقال: وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد قلت: من قائله أصلح الله الأمير قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول: لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير. الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء فقال: ما جاء بكم قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو. وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين. وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً. وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر قال: الذي أريده لا أجده والذي أجده منه لا أريده. وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر بما كان في الهِمَّة دفيناً أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة وقلتُ في ذلك: وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب وساع ما تَضِيق به المَعاني تجاذبه المواهبُ عن إباء ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان وأيّ فتى أناف على سُموّ مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان بغير توسُّع في الصَّدرماض على العَزمات كالعَضْب اليَماني فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت: الله أكبر رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي ثم قال: ادخل إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً والفضلُ بن يحيى إلى جانبه والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً ثم أقدمتُ فقلت: يا أمير المؤمنين إضاءة كَرمك وبَهاء مجدك مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له أيسألني أمير المؤمنين فأجيب أم أبتدئ فأصيب بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار وأسهلّ به المُفاتحة وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق بأيديهم الأسورةُ وفي أعناقهم الأطواق تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها ثم قال: اسْمعني: ارقني طارقُ هّم طَرَقا فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه تَهْدِرُ بها أشداقي حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله. قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد قلت: بل عن عمد تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت هي التي أخرجتْك من دارك وأَزعجتك من قَرارك وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك الله لو قلتَ: وأستغفر الله قلتَ صواباً وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك: عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها فقال الفضل: يا أمير المؤمنين ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد حتى إذا بلغتُ إلى قوله: تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها فاستوى جالساً ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي: تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً فقال جرير: قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها فما رجع الجواب حتى قال عديّ: فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: ولقد أراد الله إذ ولاكها من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال. قال: فماذا صَنع قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء الله. قال: أحسبك وَهمت قلت: يا أمير المؤمنين أنت أولى بالهِداية فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله: ولقد أراد الله إذ ولاّكها من أُمة إصلاحَها ورشادَها ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله: وقال: وكان من خَبرهم ماذا قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت قال: بلى والله وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين لا يُحسنِ عديّ أن يقول: شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد: لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال: أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك ثم قال: الحمد لله على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان وما كان هذا عليك ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة فإن وَقع عن عِرْفانك شيء فلا ضيق عليك بذلك عِندي فما ذا أراد بقوله: مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه ثم تواشجت عُروقه من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين هذا كثير في كلامهم ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه: إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج قلت: يا أمير المؤمنين هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه قلت: الرائيّة وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً أَرِحْ قليلاً واجلس فقد أمتعتَ مُنشداً ووجدناك مُحسناً في أدبك مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل فقال: لكَلام هؤلاء ومَن تقدّم من الشعراء دِيباجُ الكلام الخُسْرواني يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب وَعَته الأسماع ولَذّ في القلوب ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال: أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر أفرأيت ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها ثم التفت إليّ فقال: أجدُ ملالة ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه فأقِم معه مُسامراً له ثم نَهض. فتبادر الخدم فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه ثم قُدّمت النعل فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم ما أحكم صَنعتهم لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك ثم قال: يا غلام عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء الله. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي: يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه وقال أيضاً: إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ومَن يقال له والبيتُ لم يَمُتِ باب مَن استعدى عليه من الشعراء لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه: دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه فبعث إلى شاعر مثله وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدَّموك لها لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً. ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم قالوا: قال: إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل قال عمر: هذا رجل دعا فإن كان مظلوماً استُجيب له وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا: قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا: ولا يَردون الماءَ إلا عشية إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا: وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم فما أرى بهذا بأساً. ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ: لا يَصرم الله اليمينَ التي لها بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال فأنشده: وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال قال قال: وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب. والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين قال قال: مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ أكلتُم أرضَنا وجَردتموها فهل من قاَئم أو من حَصِيد فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا وليس لنا ولا لك مِن خُلود ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا وتأميرَ الأرازل والعَبيد قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه قال: أو خَيْر من ذلك قال: استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده: دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا ثم لحق بَسعيد بن العاص وهو والي المدينة فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه: إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي فقد قُلنا لشاعركم وقَالا ترى الغُر السوابق من قريش إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا قِياماً يَنْظرون إلى سعيد كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار وقال فيهم: ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه كالجَحش بين حِمارة وحِمار فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية ثم حَسر العِمامة عن رأسه وقال: يا معاوية هل تَرى من لؤم قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم: ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها واللؤمُ تحت عمائم الأنصار قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال: مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له. ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم: وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها قال: يقول: هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ قال: صدق. قال: ويقول: إذا ما نسبتها لم تَجِدْها في سَناء من المَكارم دونِ قال: صدق أيضاً. قال: ويقول: تجعل المسك واليَلَنْجو ج صِلاءً لها على الكانون قال: وصدق. قال: فإنه يقول: ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض راء تَمشي في مَرمر مَسْنون قُبّة من مَراجل ضربوها عند بَرْد الشتاء في قَيْطون قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد اضرب عن هذا صفحا واطودونه كَشْحا. ومن قول عبد الله بن قيس المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية: أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة. تحدَثت الرواة أن الحَجاج رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال: وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني فقال له: لا عليك فوالله إن قُلتَ إلا خيراً إنما قلت هذا الشعرَ: يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ ولكن اخبرني عن قولك: ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات في كم كنت قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف: ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ به زينب في نسْوة خَفِرات ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه: يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه الله قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه.