الرئيسيةبحث

الصواعق المرسلة/المقدمة


مقدمة المؤلف


الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الموصوف بصفات الجلال المنعوت بنعوت الكمال المنزه عما يضاد كماله من سلب حقائق أسمائه وصفاته المستلزم لوصفه بالنقائص وشبه المخلوقين فنفي حقائق أسمائه متضمن للتعطيل والتشبيه وإثبات حقائقها على وجه الكمال الذي لا يستحقه سواه هو حقيقة التوحيد والتنزيه فالمعطل جاحد لكمال المعبود والممثل. مشبه له بالعبيد والموحد مبين لحقائق أسمائه وكمال أوصافه وذلك قطب رحى التوحيد فالمعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما والموحد يعبد ربا ليس كمثله شيء له الأسماء الحسنى والصفات العلى وسع كل شيء رحمة وعلما وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وحجته على عباده فهو رحمته المهداة إلى العالمين ونعمته التي أتمها على أتباعه من المؤمنين أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب وطموس من السبل وقد استوجب أهل الأرض أن ينزل بساحتهم العذاب وقد نظر الجبار جل جلاله إليهم فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وكانت الأمم إذ ذاك ما بين مشرك بالرحمن عابد للأوثان، وعابد للنيران وعابد للصلبان أو عابد للشمس والقمر والنجوم كافر بالله الحي القيوم أو تائه في بيداء ضلالته حيران قد استهواه الشيطان وسد عليه طريق الهدى والإيمان فالمعروف عنده ما وافق إرادته ورضاه والمنكر ما خالف هواه قد تخلى عنه الرحمن وقارنه الخذلان يسمع ويبصر بهواه لا بمولاه ويبطش ويمشي بنفسه وشيطانه لا بالله فباب الهدى دونه مسدود وهو عن الوصول إلى معرفة ربه واتباع مرضاته مصدود فأهل الأرض بين تائه حيران وعبد للدنيا فهو عليها لهفان ومنقاد للشيطان جاهل أو جاحد أو مشرك بالرحمن فالأرض قد غشيتها ظلمة الكفر والشرك والجهل والعناد وقد استولى عليها أئمة الكفر وعساكر الفساد وقد استند كل قوم إلى ظلمات آرائهم وحكموا على الله بين عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم فسوق الباطل نافقة لها القيام وسوق الحق كاسدة لا تقام فالأرض قد صالت جيوش الباطل في أقطارها ونواحيها وظنت أن تلك الدولة تدوم لها وأنه لا مطمع بجند الله وحزبه فيها فبعث الله رسوله وأهل الأرض أحوج إلى رسالته من غيث السماء ومن نور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس الظلمات فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات وضرورتهم إليها مقدمة على جميع الضرورات فإنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ويكون أحب إليها مما سواه ويكون سعيها في ما يقربها إليه ويدنيها من مرضاته ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين ولمن أجابهم مبشرين ومن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها وإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود.

ولما كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الرب تعالى قال أفضل الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر باقي الحديث وهو في الصحيحين وهذا اللفظ لمسلم

فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان

أحدهما: تعريف الطريق الموصلة إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه

الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفد وقرة العين التي لا تنقطع

وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول ومبنيان عليه فأعرف الناس بالله أتبعبهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه ولهذا سمى الله سبحانه ما أنزل على رسوله روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه ونورا لتوقف الهداية عليه قال الله تبارك وتعالى: { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [1] في موضعين من كتابه وقال عز وجل { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [2]

فلا روح إلا فيما جاء به ولا نور إلا في الاستضاءة به فهو الحياة والنور والعصمة والشفاء والنجاة والأمن والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به ولا يقبل الله من أحد دينا يدينه به إلا أن يكون موافقا لدينه وقد نزه سبحانه وتعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون فقال: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ } [3]قال غير واحد من السلف هم الرسل وقال الله سبحانه وتعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فنزه نفسه عما يصفه به الخلق ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد

ومن ها هنا أخذ إمام أهل السنة محمد بن إدريس الشافعي قدس الله روحه ونور ضريحه خطبة كتابه حيث قال: الحمد لله الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. فأثبت في هذه الكلمة أن صفاته إنما تتلقى بالسمع لا بآراء الخلق وأن أوصافه فوق ما يصفه به الخلق. فتضمنت هذه الكلمة إثبات صفات الكمال الذي أثبته لنفسه وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل وأن ما وصف به نفسه فهو الذي يوصف به لا ما وصفه به الخلق ثم قال: والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدى شكر ماضي نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. فأثبت في هذا القدر أن فعل الشكر إنما هو بنعمته على الشاكر وهذا يدل على أنه رحمه الله مثبت للصفات والقدر وعلى ذلك درج بزل الإسلام والرعيل الأول ثم فرق على أثرهم التابعون وتبعهم على منهاجهم اللاحقون يوصي بها الأول الآخر ويقتدي فيه اللاحق بالسابق وهم في ذلك بنبيهم مقتدون وعلى منهاجه سالكون. قال الله تعالى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [4] فمن اتبعني إن كان عطفا على الضمير في أدعو إلى الله فهو دليل أن أتباعه هم الدعاة إلى الله وإن كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم. والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله وقد شهد سبحانه لمن يرى أن ما جاء به من عند الله هو الحق لا آراء الرجال بالعلم فقال تعالى { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [5] وقال تعالى { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [6] فمن تعارض عنده حقائق ما جاء به وآراء الرجال فقدمها عليه أو توقف فيه أو قدحت في كمال معرفته وإيمانه به لم يكن من الذين شهد الله لهم بالعلم ولا يجوز أن يسمى بأنه من أهل العلم فكيف يكون الداعي إلى الله على بصيرة الذي وصفه الله بأنه سراج منير وبأنه هاد إلى صراط مستقيم وبأن من اتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح لا غيره وأن من لم يحكمه في كل ما ينازع فيه المتنازعون وينقاد لحكمه ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمن لأن الرسول عنده قد أخبر الأمة عن الله وأسمائه وصفاته بما الحق في خلاف ظاهره والهدى في إخراجه عن حقائقه وحمله على وحشي اللغات ومستكرهات التأويل وأن حقائقه ضلال وتشبيه وإلحاد والهدى والعلم في مجازه وإخراجه عن حقائقه وإحالة الأمه فيه على آراء المتحيرين وعقول المتهوكين فيقول إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيء فلا تعتقدوا حقيقته وخذوا معرفة مرادي به من آراء الرجال ومعقولها فإن الهدى والعلم فيه والدين إذا أحيل على تأويلات المتأولين انتقضت عراه كلها ولا تشاء طائفة من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلا وجدت السبيل إليه وقالت لمن فتح لها باب التأويل إنا تأولنا كما تأولتم والنصوص أخبرت بما تأولناه كما أخبرت بما تأولتموه فما الذي جعلكم في تأويلكم مأجورين وجعلنا عليه مأزورين والذي قادكم إلى التأويل ما تقولون إنه معقول فمعنا نظيره أو أقوى منه أو دونه وسيأتي تمام هذا في بيان عجز المتأولين عن الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ

والمقصود أن الله سبحانه قد أخبر أنه أكمل له ولأمته به دينهم وأتم عليهم به نعمته ومحال مع هذا أن يدع أهم ما خلق له الخلق وأرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب ونصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ملتبسا مشتبها حقه بباطله لم يتكلم فيه بما هو الحق بل تكلم بما ظاهره الباطل والحق في إخراجه عن ظاهره وكيف يكون أفضل الرسل وأجل الكتب غير واف بتعريف ذلك على أتم الوجود مبين له بأكمل البيان موضح له غاية الإيضاح مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس وأجل ما حصلته القلوب ومن أبين المحال أن يكون أفضل الرسل قد علم أمته آداب البول قبله وبعده ومعه وآداب الوطء وآداب الطعام والشراب ويترك أن يعلمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف والوصول إليه أجل المطالب وعبادته وحده لا شريك له أقرب الوسائل ويخبرهم فيه بما ظاهره باطل وإلحاد ويحيلهم في فهم ما أخبرهم به على مستكرهات التأويلات ومستنكرات المجازات ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم وتوجبه أراؤهم هذا وهو القائل: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وهو القائل "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل على أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"

وقال أبو ذر لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما. وقال عمر بن الخطاب قام فينا رسول الله مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه ذكره البخاري. وصلى بهم رسول الله صلاة الظهر ثم خطبهم حتى حضرت العصر فصلى العصر ثم خطب بهم حتى غربت الشمس فلم يدع شيئا كان ولا يكون من خلق آدم إلى قيام الساعة حتى أخبرهم به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه.

فكيف يتوهم من لله ولرسوله ودينه في قلبه وقار أن يكون رسول الله قد أمسك عن بيان هذا الأمر العظيم ولم يتكلم فيه بالصواب بل تكلم بما ظاهره خلاف الصواب بل لا يتم الإيمان إلا باعتقاد أن بيان ذلك قد وقع من الرسول على أتم الوجوه وأوضحه غاية الإيضاح ولم يدع بعده لقائل مقالا ولا لمتأول تأويلا ثم من المحال أن يكون خير الأمة وأفضلها وأعلمها وأسبقها إلى كل فضل وهدى ومعرفة قصروا في هذا الباب فجفوا عنه أو تجاوزوا فغلوا فيه وإنما ابتلي من خرج عن منهاجهم بهذين الداءين وهدوا لأحد الإنحرافين وبزل الإسلام وعصابة الإيمان وحماة الدين هم الذين كانوا في هذا الباب قائلين بالحق معتقدين له داعين إليه فإن قيل القوم كانوا عن هذا الباب معرضين وبالزهد والعبادة والجهاد مشتغلين لم يكن هذا الباب من همتهم ولا عنايتهم به قيل هذا من أبين المحال وأبطل الباطل بل كانت عنايتهم بهذا الباب فوق كل عناية واهتمامهم به فوق كل اهتمام وذلك بحسب حياة قلوبهم ومحبتهم لمعبودهم ومنافستهم في القرب منه فمن في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه فكيف يمكن مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه أثره في خيار الأمة وسادات أهل العلم والإيمان الذين هممهم أشرف الهمم ومطالبهم أجل المطالب ونفوسهم أزكى النفوس فكيف يظن بهم الإعراض عن مثل هذا الأمر العظيم أو الغفلة عنه أو التكلم بخلاف الصواب فيه واعتقاد الباطل ومن المحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثة الصابئين وأفراخ اليونان الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب وأشهدوا الله وملائكته عليهم به وشهد به عليهم الأشهاد من أتباع الرسل أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان وفضلهم على من سبقهم ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة ما خلا النبيين والمرسلين وهل يقول هذا إلا غبي جاهل لم يقدر قدر السلف ولا عرف الله ورسوله وما جاء به.

قال شيخنا وإنما أتي هؤلاء المبتدعة الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها واعتقدوا أنهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيّ } [7] وأن طريقة المتأخرين هي استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف

وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص فلما اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصفات في نفس الأمر ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وضع له إلى ما لم يوضع له ولا دل عليه بأنواع من المجازات والتكلفات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان والهدى كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله

وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والجهل بالسمع فلا سمع ولا عقل فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهات فاسدة ظنوها معقولات صحيحة فحرفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الذين هم أعلم الأمة بالله وصفاته واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين البله الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصب السبق واستولوا على الغاية وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأولين

فكيف يتوهم من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أن هؤلاء المتحيرين الذين كثر في باب العلم بالله اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول لعمري.

لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم

ويقول الآخر

نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وقال الآخر

لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي

وقال آخر أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام. وقال آخر منهم عند موته أشهدوا علي أني أموت وما عرفت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئا

وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة فلم يغث قال ثم استغثت برب الجهمية فلم يغثني ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني قال فاستغثت برب العامة فأغاثني.

قال شيخنا وكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ومصابيح الدجى وأعلام الهدى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جمعت حكمة من عداهم وعلومهم إليه لاستحى من يطلب المقابلة ثم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان اه.

فصل فهذه مقدمة بين يدي جواب السؤال المذكور وإنما تتبين حقيقة الجواب بفصول

الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا

الفصل الثاني: في انقسام التأويل إلى صحيح وباطل

الفصل الثالث: أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء.

الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول يمتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما.

الفصل السادس: في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ.

الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.

الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأول التي لا يقبل منه تأويله إلا بها.

الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص.

الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد.

الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه.

الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره.

الفصل الرابع عشر: في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال

الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل.

الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله.

الفصل السابع عشر: في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام إن سلط عليه ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه.

الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تمثيل وأصحاب تجهيل وأصحاب سواء السبيل.

الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله.

الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا.

الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل.

الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم.

الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله.

الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان وهي قولهم إن كلام الله وكلام رسوله أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يحصل منها يقين. وقولهم إن آيات الصفات وأحاديث الصفات مجازات لا حقيقة لها. وقولهم إن أخبار رسول الله الصحيحة لا تفيد العلم وغايتها أن تفيد الظن. وقولهم إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي.

والله المسؤول أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلا ويعيننا على اجتنابه وأن لا يجعلنا ممن يتقدم بين يديه ويدي رسوله ولا ممن يقدم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي وهو المسؤول أن يوفقنا لما طلبناه وأن يجعله خالصا لوجهه مدنيا من رضاه إنه خير مسؤول وأكرم مأمول وبه المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هامش

  1. [غافر15]
  2. [الشورى52]
  3. [الصافات 160]
  4. [يوسف108]
  5. [سبأ6]
  6. [الرعد19]
  7. [البقرة 78]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة