→ العشر الرابعة عشر | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر الخامسة عشر ابن قيم الجوزية |
العشر السادسة عشر ← |
الوجه الحادي والأربعون بعد المائة: وهو أن هؤلاء المعارضين ردوا حكم العقل الصريح المبني على المقدمات الضرورية الفطرية ونسبوه إلى البطلان وحينئذ فلا يمكنهم أن يقيموا معقولا صحيحا على خلاف ما دل عليه السمع البتة لأن حكم العقل الذي ردوه وأبطلوه أظهر وأبين وأصدق من حكم العقل الذي قدموه على كلام الله ورسوله بما لا نسبة بينهما فصاروا في ذلك بمثابة حاكم فاسق ظالم رد شهادة العدول المبرزين في العدالة وقبل شهادة المجهولين والمعروفين بالكذب والزور والفسق ثم لم يكفه ذلك حتى عارض شهادة أولئك العدول الصادقين بشهادة هؤلاء الفسقة الكاذبين ثم قدمها عليها وطعن في أولئك العدول فارتكب أنواعا من الجهل والظلم جمع فيها بين إبطال الحق وتحقيق الباطل وتزكية شهود الزور والطعن في شهادة العدول فتوهوا العقول الصحيحة والنصوص الصريحة وضيقوها واستدعوا العقول الفاسدة والأقوال الكاذبة فولوها مكانها واستعملوها كما قال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعري وأصحابه في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في الكتاب المذكور في باب القول في الاستواء وهذا لفظه ورسول الله ﷺ وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين وبقوله ويستصوب قول القائل إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك.
وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأكان رسول الله ﷺ أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فهو قسمان إنه عز وجل محدود في مكان دون مكان ولكن قولي إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت كلا لقد أجازه رسول الله ﷺ مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له قال ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس الله في الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد لا بل لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أومأ بيده وأشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول في كل مكان كما يقولون وهم يزعمون أنهم أفضل الخلق كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه نعوذ بالله من الخذلان ومعضلات الفتن ثم ألزمهم ابن كلاب بمذهب الدهرية الملاحدة وأن يكونوا وهم بمنزلة واحدة فقال في هذا الكتاب يقال للجهمية أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم عنه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له فإذا قالوا نعم قيل لهم صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم هل تجدون بينكم وبينه فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به وقد قلتم إنه غير مفارق العالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل في العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم كفروا لأنهم قالوا واحد منفرد بأين فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيهة منهم إذا زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وأخرج من العقل والخبر من قال إنه سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه لأنه نفاه نفيا مستويا وألزم الجهمية في موضع آخر منه مفارقة صريح المعقول حيث زعموا بأنه سبحانه فعل الأشياء لا بائنة عنه ولا قائمة به حالة فيه وهذا لا يثبته عقل عاقل وأخذ هذا من حجة الإمام أحمد وأئمة السنة على هؤلاء المعطلة الجهمية.
قال الإمام أحمد في كتابه الذي خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية وذكره الخلال في الجامع والقاضي أبو يعلى وسائر أصحاب أحمد قال في باب ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء فإن قال خلقهم خارجا من نفسه ولم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع.
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة إما أن يكون هو في العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها تكون قائمة بغيرها فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وكذلك قول من يقول لا هو مباين ولا محايث لما كان صريح العقل يدل على بطلانه لم يدخله في التقسيم والمقصود أن أئمة الكلام وأئمة السنة متفقون على ان قول الجهمية مخالف لصريح العقل والنقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده وأنه لا يمكن أحدا أن يقول بقولهم حتى يتوه العقل والسمع ويفارق حكمهما.
الوجه الثاني والأربعون بعد المائة: أن فحول الكلام وأئمة النظر والبحث الذين سبروا المقالات وتبحروا في المعقولات قد شهدوا لطريقة النفاة المعطلة بمناقضتها للسمع والعقل وأن السمع والعقل إنما يقتضيان الإثبات وعلو الرب على جميع المخلوقات واستواءه على عرشه فوق سبع سماوات.
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة والموجز والمقالات وهذا لفظه في كتاب الموجز إذ هو من أجل كتبه المتوسطات: إن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [1] وقد قال { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [2] وقال { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [3] وقال { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [4] وقال حكاية عن فرعون { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [5] كذب موسى في قوله أن الله عز وجل فوق السماوات وقال عز وجل { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } [6] والسماوات فوقها العرش الذي هو فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال أأمنتم من في السماء يعني جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى أن الله سبحانه ذكر السماوات فقال { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } [7] ولم يرد أن القمر ملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل مستو على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقال قائلون من الجهمية والمعتزلة والحرورية إن معنى قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [8] إنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة قال ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها كان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء ومستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها قال وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى عن قولهم ثم قال ودليل آخر وهو قوله سبحانه { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } [9] فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس هو من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول وما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكمله الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
ومقصود الأشعري بهذا الكلام أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب من جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحدا أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون بعض دليل على نقيض قولهم وذلك أن نفاة المباينة يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لامتناع قبول الذات لها لا لمانع منفصل يمنعها من حجاب منفصل عن المحجوب وإذا كانت الذات غير قابلة للرؤية بل حجابها عدم قبولها لتعلق الرؤية بها كان هذا الحجاب إلى جميع المخلوقات واحدا ولم يختص به البشر دون غيرهم فلما أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دل على أنه قد يكلم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب كما قال النبي ﷺ لجابر بن عبد الله: "إن الله ما كلم أحدا إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحا" وكما في الحديث "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان" فلا يناقض هذا ما دلت عليه الآية فإن هذا في الدنيا وما دلت عليه السنة في دار الآخرة وتكليم عبد الله بن حرام والد جابر كان بعد الموت لم يكن في الدنيا قال الأشعري دليل آخر قال الله عز وجل { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } [10] وقال تعالى { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } [11] وقال { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [12] وقال تعالى { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } [13] قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل. ووجه استدلاله بهذه النصوص أنها صريحة في المباينة والمقابلة والوقوف بين يديه ولو كان غير داخل في العالم ولا خارجه لم يصح شيء من ذلك فهذه النصوص صريحة في مباينة العالم ومقابلته للواقف بين يديه حتى يكون ناكس الرأس قدامه فلو لم يكن فوق العرش بطلت هذه النصوص جملة.
قال الأشعري وروت العلماء عن ابن عباس أنه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك.
وهذا الحديث قد رواه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة من حديث عبد الوهاب الوراق ثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق" ذلك ثم قال عبد الوهاب الرجل الصالح العالم الذي سئل الإمام أحمد من يسأل بعدك؟ فقال سلوا عبد الوهاب الوراق.
قال من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة.
قال الأشعري ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله ﷺ من أحاديث النزول كقوله ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له حتى يطلع الفجر. قال ودليل آخر قال تعالى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [14] وقال تعالى { تَعْرُجُ الْمَلائِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [15] وقال { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [16] وقال { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [17] وقال { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } [18] وكل ذلك يدل على أنه في السماء مستو على عرشه قال ودليل آخر قوله عز وجل { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [19] وقال تعالى { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَة ُ } [20] وقال تعالى { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } [21] وقال تعالى لعيسى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [22] وقال { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء. قال الأشعري ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أن يقولوا جميعا يا ساكن العرش لا والذي احتجب بسبع سماوات.
فقد حكى أبو الحسن الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات وهذا مناقض لقول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا وقال لسان المتكلمين القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب الإبانة والتمهيد وغيرهما فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [23] وقال { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [24] وقال { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } [25] ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفي المواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا أبطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
وقد ذكرنا في كتاب اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصا صريحا عنهم نقله أصحابهم وغيرهم وأئمة التفسير وأئمة اللغة وأئمة النحو وأئمة الفقه وسادات الصوفية وشعراء الجاهلية والإسلام مما في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته ومن طبع الله على قلبه فإن آيات الله تتلى عليه وكلام رسوله ولا يزيده ذلك إلا مرضا على مرضه والله الموفق للصواب لا إله غيره ولا رب سواه.
الوجه الثالث والأربعون بعد المائة: إن هؤلاء لم يكفهم أن سدوا على أنفسهم باب الرد على أعداء الإسلام بما وافقوهم فيه من النفي والتعطيل حتى فتحوا لهم الباب وطرقوا لهم الطريق إلى محاربة القرآن والسنة فلما دخلوا من بابهم وسلكوا من طريقهم تحيزوا معهم وصاروا جميعا حربا للوحي وادعوا أن العقل يخالفه ولا يمكن الرد على أهل الباطل إلا مع أتباع السنة من كل وجه وإلا فإذا وافقها الرجل من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسنة ومن تدبر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتهم إنما تقوى على من ترك شيئا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه فيكون ما تركه من الحق أعظم حجة للمبطل عليهم ويجد كثيرا من أهل الكلام يوافقون خصومهم على الباطل تارة ويخالفونهم في الحق تارة فيتسلطون عليهم بما وافقوهم فيه من الباطل وبما خالفوهم من الحق وليس لمبطل بحمد الله حجة ولا سبيل بوجه من الوجوه على من وافق السنة ولم يخرج عنها حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السنة فالسنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه من الواصلين وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين فمن وافق مبطلا على شيء من باطله جره بما وافقه منه إلى نفي باطله.
وقد ضرب بعض أهل العلم لذلك مثلا مطابقا فقال مثل الحق مثل طريق مستقيم واسع وعلى جنبيه قطاع ولصوص وعندهم خواطئ قد ألبسوهن الحلي والحلل وزينوهن للناظرين فيمر الرجل بالطريق فيتعرضن له فإن التفت إليهن طمعن في حديثه فألقين إليه الكلام فإن راجعهن وأجابهن دعينه إلى الذبح فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرا أو قتيلا فكيف يحارب قوما من هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم بل يصير هذا عونا من أعوانهم قاطعا من قطاع الطريق ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلا من عرف الطريق المستقيم وقطاع الطريق ومكرهم وحيلهم وبالله التوفيق وهو المستعان.
وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس من فوقه إلى الجنة ونصب بجانبيه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلوكه والمعصوم من عصمه الله.
الوجه الرابع والأربعون بعد المائة: أن يقال لهذه الفرقة المعارضة بين النقل والعقل أتدعون هذه المعارضة بين العقل وجميع النقل أو بعضه والأول لا يقوله مسلم بل ولا عاقل ولا أحد من بني آدم فلا حاجة إلى الكلام على تقريره وإذا ادعيتم أن التعارض واقع بين العقل وبين بعض المنقول قيل لكم المنقول أنواع متعددة نوع يتعلق بالأمر والنهي والإباحة ونوع يتعلق بمبدأ الخليقة وتخليق العالم ومادته ومبدئه ونوع يتعلق بالمعاد وحشر الأجساد وطي العالم وخرابه وإنشاء الخلق نشأة أخرى ونوع يتعلق بالإخبار عن الأمم السالفة والقرون الماضية وأحوالهم وما أصابهم من نعمة ونقمة ونوع يتعلق بالإخبار عن عجائب المخلوقات وبدائع الآيات في الأرض والسماء ونوع يتعلق بأسماء الرب وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه فأي هذه الأنواع تدعون معارضة العقل لها حتى يقع الكلام معكم فيه ومعلوم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا وقد عارضه طائفة من شياطين الإنس بآرائهم وعقولهم وقد قدمنا معارضة شيخ القوم للأمر بمعقوله وأن العقل يقتضي أن لا يسجد الفاضل للمفضول وبينا سريان تلك المعارضة في تلامذته وأتباعه حتى إن منهم من عارض الأمر كله بعقله وذكروا وجوها عقلية تدفع الأمر والنهي والله يعلم أن الوجوه العقلية التي ذكرها المعطلة النفاة لدفع علو الرب واستوائه على عرشه وصفات كماله أوهى منها أو من جنسها وطائفة أخرى عارضت نصوص المبدأ والمعاد بمعقولات هي من جنس معقولات نفاة الصفاة فهل يوافقون هؤلاء في صحة هذه المعارضة أم يخالفونهم وفي أي الأنواع تدعون المعارضة فإن قصرتموه على نوع الأسماء والصفات قيل لكم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين سائر هذا النوع أم بينه وبين بعضه ولا ضابط لفرقة منكم في دعوى هذه المناقضة أصلا بل كل من نفى شيئا مما أثبته الرسول قال قد عارضه صريح العقل فإمامكم الذي تقدمون نصوص إشاراته على نصوص القرآن والسنة عنده إن صريح العقل معارض لنصوص المعاد وحدوث العالم وإثبات الصفات والقدرية المجوسية عندهم أن صريح العقل معارض للنصوص المثبتة للقدر والجهمية المعطلة عندهم أن العقل الصريح معارض لنصوص الرؤية والعلو والاستواء على العرش وصفة التكلم والتكليم وغير ذلك من الصفات فمع من أنتم من أرباب هذه المعارضات وأهل هذه المعقولات هل تصوبون جميعهم أم بعضهم ومن البعض المصيب ومن المخطئ وفي أي شيء اصاب هؤلاء وأخطأ هؤلاء ولقد صدق القائل إنكم لا ترجعون في الحقيقة إلى شيء وإن منتهاكم الشك والحيرة وبالله التوفيق. وحينئذ فنقول في
الوجه الخامس والأربعين بعد المائة: إن نهاية أمر هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بالرأي انتهاؤهم إلى الشك والتشكيك والحيرة في أمرهم فتجدهم يشكون في أوضح الواضحات وفيما يجزم عوام الناس به ويتعجبون ممن يشك فيه ولا تعطيك كتبهم وبحوثهم إلا الشك والتشكيك والحيرة والإشكالات وكلما ازددت فيها إمعانا ازددت حيرة وشكا حتى يؤول بك الأمر إلى الشك في الواضحات واعتبر هذا بإمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم وكتبه تجده شاكا في الزمان والمكان لم يعرف حقيقته وماهيته وشاكا في وجود الرب تعالى هل هو عين ماهيته أو زائد عليها وهل الوجود مقول على الواجب والممكن بالتواطؤ أو بالاشتراك اللفظي وهل الوجود الواجب وجود محض لا يقارن شيئا من الماهيات أم وجود مقارن لماهية غير معلومة للبشر وشاكا في الرب سبحانه هل كان معطلا في الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا تجدد أمر حصل في الفاعل كما يقوله المتكلمون أو لم يزل فعله مقارنا له كما يقوله الفلاسفة وهو حائر بين هذين القولين معارض أدلة كل منهما بأدلة الآخر وتارة يرجح أدلة المتكلمين في كتبه الكلامية وتارة يرجح أدلة الفلاسفة في كتبه الفلسفية وتارة يصف الجيشين ويلقي الحرب بينهما ولا يتحيز إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما في كتبه الجامعة بين الطريقتين.
وشاكا في الجوهر الفرد فمرة يثبته ويوقف الإيمان بالمبدأ والمعاد عليه وتارة ينفيه ويبطله.
وشاكا في تماثل الأجسام فتارة يثبته ويحتج عليه وتارة ينفيه.
وشاكا في مسألة حلول الحوادث فتارة ينفيها وتارة يقول بها ويقوي أمرها ويلزمها جميع الطوائف.
وشاكا في النبوات هل هي ثابتة على طريق الفلاسفة أو على طريق المعتزلة أم على طريق الأشعرية.
وشاكا في مسألة التحسين والتقبيح فتارة يسلك فيها مسلك النفاة وتارة مسلك المثبتين.
وشاكا في إثبات الصفات ففي كتبه الفلسفية ينفيها وفي الكتب الكلامية يثبتها إثباتا لا حقيقة له بل هو لفظ بلا معنى.
وشاكا في الإنسان هل هو هذا البدن المشهود أم أمر آخر وراءه وهو الروح أم مجموع الأمرين
وشاكا في الروح وحقيقتها وماهيتها وهل هي جسم أو جوهر مجرد لا داخل العالم ولا خارجه أو عرض من أعراض البدن
وشاكا في مسألة الكلام والرؤية فمرة يقوي فيها قول المعتزلة ومرة قول الأشعرية إلى أضعاف ما ذكرنا من المسائل ولهذا تجد أتباعه أكثر الناس شكا وتشكيكا.
والفاضل عندهم الشاك وكلما كان الرجل أعظم شكا كان عندهم أفضل فهذا شكهم في الدنيا وأما عند الموت فقد قال العارف بحقيقة أمرهم أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام.
وقد أقروا على أنفسهم بالشك وعدم اليقين في كتبهم وعند موتهم كما تقدم حكاية ذلك عن أفاضلهم ورؤوسهم حتى قال بعضهم عند موته والله ما أدري على ماذا أموت عليه ثم قال اشهدوا على أني على عقيدة أمي وقال الآخر اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا مسألة واحدة وهي أن الممكن مفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار أمر عدمي بل أموت وما عرفت شيئا.
وقال الآخر أضع الإزار على وجهي ثم أقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولا يتبين لي منها شيء.
ويقول الآخر لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [26] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [27] واقرأ في النفي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [28] { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [29] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وقد حكينا كلامه فيما تقدم.
وقال الآخر لعمري
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
وهذا باب طويل من أراد الوقوف عليه فليطالع أخبار القوم وسيرتهم وما أقروا به على أنفسهم وحينئذ فنقول في
الوجه السادس والأربعين بعد المائة: إن أئمة الإسلام وملوك السنة لما عرفوا أن طرق المتكلمين إنما تنتهي إلى هذا وما هو شر منه تنوعوا في ذمها والطعن فيها وعيب أهلها والحكم بعقوبتهم وإشهارهم والتحذير منهم.
قال أبو القاسم بن عساكر وقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى ثم ذكر بإسناده إلى الفريابي حدثني بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غرائب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس. قال البيهقي وروي هذا الكلام عن مالك بن أنس، ثم ذكر ابن عساكر عن الشافعي أنه قال لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من أن يبتلى بالكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقوله.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن أصرم المزني قال قال أبو ثور سمعت الشافعي يقول ما تردى أحد بالكلام فأفلح وقال حدثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا.
وذكر أيضا عن ابن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول جئت الشافعي بعدما كلم حفصا الفرد فقال غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام. وقال الإمام أحمد علماء الكلام زنادقة.
قال شيخنا والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وذم أصحابه والنهي عنه وتجهيل أربابه وتبديعهم وتضليلهم وهو هذه الطرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصفات والعلو والاستواء على العرش وجعلوا بها القرآن مخلوقا ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن وتكليمه لعباده ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فإنهم سلكوا فيه طرقا غير مستقيمة واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصريح المعقول وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ورسائلهم وأحكامهم ودلائلهم.
وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من ذلك بعضه لكن كثيرا من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة وقد أفرد الناس في ذلك مصنفات مثل أبي عبد الرحمن السلمي ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري وسمى كتابه ذم الكلام وأهله وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك أبو حامد الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال فيه فإن قلت فعلم الكلام والجدل مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن الناس في هذا غلوا وإسرافا في الطرفين فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب فرض إما على الكفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف ثم ذكر بعض نصوص الشافعي التي تقدمت. قال وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل قال وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي قال وقال الإمام أحمد أيضا علماء الكلام زنادقة.
قال وقال مالك أرأيت إن جاء رجل أجدل من رجل يدع الرجل دينه كل يوم لدين جديد قال وقال مالك لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع قال بعض أصحابه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا وهذا الذي حكى عنه أبو حامد تأويل قول مالك هو محمد بن خويز منداد البصري المالكي.
قال إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام قال وكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه أشعريا كان أو غير أشعري هكذا ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم ثم ذكر أبو حامد كلام أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق قال وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر عنهم ما نقل من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد عنه ولذلك قال النبي ﷺ: "هلك المتنطعون هلك المتنطعون" أي المتعمقون في البحث والاستقصاء.
قال واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى حفظ الفرائض ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استمر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة إلى أن قال وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. قال ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على سبيل الندور في أمور جليلة تكاد تفهم قبل التعمق في صناعة الكلام قل بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة ثم قال وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون صاحبه كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر أن لا يضعه إلا في موضعه وعلى قدر الحاجة وقال إن فيه من المضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وفيه مضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ويمكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجهل.
فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول أمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول معارضا للكتاب والسنة وما كان معارضا لهما فهو من الكلام الباطل المردود المرذول الذي لا ينازع في ذمه أحد من أهل الإسلام لا من السلف ولا من أتباعهم من الخلف هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من العقليات والجدل والكلام مبتدعا وإن قصد به نصر السنة فكيف ذمهم لمن عارض السنة بالبدعة والوحي بالرأي وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق وهذا الذم من أبي حامد للكلام وأهله ذم متوسط بحسب ما اطلع عليه من غوائله وآفاته وبحسب ما بلغه من السلف ولم يكن جزمه بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول كجزمه بما سلكه من طريق الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره فإن ما ذكره من أن مضرته في إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلوماته فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك.
وأما السلف فلم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك إما لهدى مسترشد وأما لقطع مبطل بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن القوم كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وأوصله إلى المقصود بأقرب الطرق وهو كلام الله وكانوا ينظرون في آيات الله تعالى الأفقية والنفسية فيرون منها من الأدلة ما يبين أن القرآن حق فيتطابق عندهم السمع والعقل ويتصادق الوحي والفطرة كما قال تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [30] وقال { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ } [31] والإنسان له حالتان إما أن يكون ناظرا وإما أن يكون مناظرا والناظر له حالتان أحدهما يحمد فيها والثانية يذم فيها والمناظر له حالتان أيضا قال تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة ٍ } [32] فأشار بقيامهم إثنين إثنين إلى المناظرة وفرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى محمود ومذموم فالنظر المحمود النظر في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحق والنظر المذموم نوعان
أحدهما: النظر في الطريق الباطل وإن قصد به التوصل إلى الحق فإن الطريق الباطل لا يفضي إلى الحق.
والثاني: النظر والفكر الذي يقصد به رد قول خصمه مطلقا حقا كان أو باطلا فهو ينظر نظرا يرد به قول من يبغضه ويعاديه بأي وجه كان.
فأما المناظرة فتقسم إلى محمودة ومذمومة والمحمودة نوعان والمذمومة نوعان وبيان ذلك أن المناظر إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له وهذا الثالث هو المذموم وأما الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته التي تحمد أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق أو تقطعه أو تكسره إن كان معاندا غير طالب للحق ولا متبع له أو توقفه وتبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه على الحق وقصده الحق.
قال تعالى { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [33] فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إما أن يكون طالبا للحق راغبا فيه محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال وإما أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان
أحدهما: أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق
الثانية: أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهانا وأبعد من كل شبهة وتشكيك.
وأما طريق المتكلمين وأرباب الجدل فهي كما قال الخبير بها
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وأخص أوصافها أنها تعطيك مناقضة الخصوم واضطراب أقوالهم وأما أن تعطيك علما وهدى
فإذا بعثت إلىالسباخ برائد تبغي الرياض فقد ظلمت الرائدا
وإذا كان هذا حالها وهي خير من طريق الفلاسفة وأقرب إلى الحق فكيف يعارض الوحي بهذه الطرق وهذه ثم تقدم عليه.
الوجه السابع والأربعون بعد المائة: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره لو تركت وأيدها بعقول تفرق بين الحق والباطل وكملها بشرعة تفصل لها ما هو مستقر في الفطرة وأدركه العقل مجملا فالفطرة قابلة والعقل مزك والشرع مبصر مفصل لما هو مركوز في الفطرة مشهود أصله دون تفاصيله بالعقل فاتفقت فطرة الله المستقيمة والعقل الصريح والوحي المبصر المكمل على الإقرار بموجود فطر هذا العالم بجميع ما فيه عاليه وسافله وما بينهما وشهدت الفطر والعقول والشرائع المنزلة كلها بأنه ليس من جنس العالم ولا مماثلا له وأنه مباين له غير ممتزج به ولا متحد به ولا حال فيه وأنه فوق جميع العالم عال عليه بجميع أنواع العلو ذاتا وقهرا وعظمة وأنه موصوف بجميع الكمال المقدس من لوازم ذاته فتوهم رفعه عنه كتوهم عدم ذاته ومن لم يكن هذا الأصل معلوما عنده علما لا يشك فيه ولا يرتاب بل هو لقلبه كالمشاهدات لبصره وإلا اضطرب عليه باب معرفة الله ووحدانيته وتصديق رسله فلا يجوز أن يقدح في مقدمات هذا الأصل التي هي في أعلى مراتب الضروريات بمقدمات يدعي أربابها أنها نظريات ومن خالفهم فيها يقول إنها غير صحيحة بل معلومة الفساد إما بضرورة العقل أو بالنظر الصحيح المفضي إلى الضرورة.
ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع علوه سبحانه فوق جميع العالم فإن الله فطر على هذا الخليقة حتى الحيوان البهيم ومن أنكر هذا فهو في جانب والفطر السليمة والعقول المستقيمة وجميع الكتب السماوية ومن أرسل بها في جانب. قال الشيخ عبد القادر الكيلاني المتفق على كراماته وآياته وولايته المقبول عند جميع الفرق أن كون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وصدق قدس الله روحه فإن الرسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلاف في أسماء الرب وصفاته وأفعاله وإن تنوعت شرائعهم العملية بحسب المصلحة فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات وإن كان في الكتابين اللذين لم ينزل من السماء كتاب أهدى منهما من ذلك ما ليس في غيرهما حتى زعمت أئمة المعطلة أنهما كتابا تشبيه ومن جاء بهما إماما المشبهة وقال بعض من تتبع النصوص النبوية في ذلك والآثار السلفية إنه وجدها تزيد على ألف وقال غيره إنها تزيد على مائة ألف ولا تنافي بينهما فإن الأول أراد ما يدل على نصوص العلو والاستواء والثاني أراد ما يدل على المباينة وأن الله سبحانه بائن من خلقه.
وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا منها
الطريق الأول (وهو الوجه الثامن والأربعون بعد المائة ) [34]: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مبائن للمخلوقات وثبت أن العالم كرى كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان العلو والسفل فقط فإذا كان الرب تعالى مباينا للعالم امتنع أن يكون في السفل فوجب قطعا أن يكون في العلو فإذا كان العالم كريا وقد ثبت بالضرورة أنه إما مداخل له وإما مباين له وليس بمداخل قطعا ثبت أنه مباين قطعا وإذا كان مباينا فإما أن يكون تحته أو فوقه قطعا وليس تحته بالضرورة وجب أن يكون فوقه بالضرورة ولا جواب عن هذا البتة إلا بنفي النقيضين وهو أنه لا مباين ولا مداخل وهذا حقيقة العدم المحض ونفيهما بطريقي العدم والحدوث عنه وأن يقال ليس بقديم ولا حادث فإن القدم والحدوث من مقولة متى وهي ممتنعة عليه كما أن المباينة والمداخلة من مقولة أين وهي ممتنعة عليه فالشبه والأدلة التي تنفي وجود الصانع من جنس الشبه التي تنفي مباينته للعالم وعلوه عليه لا فرق بينهما البتة.
الطريق الثاني (الوجه التاسع والأربعون بعد المائة ): أن يقال علوه سبحانه على العالم وأنه فوق السماوات كلها وأنه فوق عرشه أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارا بذلك وتصديقا من غير تواطؤ منهم على ذلك ولا تشاعر وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلا من تلقاه منهم وأما العامة من جميع الأمم ففطرهم جميعهم مقرة بأن الله فوق العالم وإذا قيل لهم لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايث ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء ولا يحجب العباد عنه حجاب منفصل ولا ترفع إليه الأيدي ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو أنكرت فطرهم ذلك غاية الإنكار ودفعته غاية الدفع.
قال أبو الحسن الأشعري في كتبه ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض هذا لفظه في أجل كتبه وأكبرها وهو الموجز وفي أشهرها وهو الإبانة التي اعتمد عليها أبصر الناس له وأعظمهم ذبا عنه من أهل الحديث أبو القاسم ابن عساكر فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب تبيين كذب المفتري ثم قال في كتابه ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون يا ساكن العرش ويقولون لا والذي احتجب بسبع سماوات.
وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب في كتاب الصفات وقد ذكر مسألة الاستواء وقد تقدم حكاية لفظه قال ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد لأنك لا تسأل أحدا عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أومأ بيده أو اشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء وقال ابن عبد البر إمام أهل السنة ببلاد المغرب في التمهيد لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قال الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى وذكر عدة آيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وهذا قليل من كثير من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية وأما من نقل إجماع الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فأكثر من أن يذكر ولكن ننبه على اليسير منه.
قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له: وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء وأبو نصر هذا كان مقيما بمكة في أثناء المائة الخامسة. وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي أحد أئمة وقته بالأندلس في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على معنى قوله { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [35] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضا قال أهل السنة في قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز. وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي الشيخ المشهور في كتابه الحجة له إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فاذكر مذاهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن بلغني قوله من غيرهم فذكر جل اعتقاد أهل السنة وفيه أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه { أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [36] { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [37]. وقال قبله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المشهور صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه.
وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله وقرأها على الناس وجمع الناس عليها وأقر بها طوائف أهل السنة وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من الملاحدة قد انتشر أمرهم فكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيضم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيضم فرجح ذلك ويقال إنه قال لابن فورك فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا وقال فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما ومن الناس من يقول إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه وغزا المشركين بالهند وهذه العقيدة مشهورة وفيها كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه خلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجة إليه فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استواء راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين والقادر بقدرة والعالم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر يعرف صفتهما من نفسه ولا يبلغ كنههما أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها نبيه فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز.
وقال أبو عمر أيضا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَة ٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [38] هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا على الحقيقة ويزعم أن من أقر بها مثبتة وهم عند من أقر بها نافون للمعبود يلاشون أي يقولون لا شيء والحق فيها ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ وهم أئمة الجماعة.
وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة.
وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها وإن الله مستو على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وإنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وإن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر. ونزول الرب إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا وكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته إلى أن قالوا إن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما.
وقال الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته أبو محمد موفق الدين بن قدامة المقدسي إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون بذلك بألسنتهم ولا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته. قال وأنا ذاكر في هذا الجزء ما بلغني في ذلك عن رسول الله ﷺ وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم ويعلم تواتر الرواية بوجوده منهم ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانا ويثبته من خفي عليه ذلك حتى يصير كالمشاهد له عيانا.
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي في شرح الأسماء الحسنى لما ذكر اختلاف الناس في تفسير الاستواء قال: وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار وقاله الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات. وقال أيضا في كتابه في التفسير لما تكلم على آية الاستواء قال هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وقد بينا أقوال العلماء في شرح الأسماء الحسنى وذكرنا فيها أربعة عشر قولا وذكر قول النفاة المعطلين فقال وإنهم يقولون إذا وجب تنزيه الرب عن الجهة والحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه تنزيه الرب عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون ويلزم من ذلك التغير والحدوث قال وكان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه مستو على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء.
وقال أبو بكر النقاش حدثنا أبو العباس السراج قال سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا المروزي حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا سليمان بن داود الخفاف قال قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فهو فوق سماواته على عرشه ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي قعر البحار وفي رؤوس الأكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب قد عرف ذلك وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره.
وفي كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكتاب الرد على الجهمية لعبد الرحمن ابن أبي حاتم عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شر قولا من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم ليس عليه شيء. ورويا أيضا في هذين الكتابين عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور قال أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن عباد بن العوام الواسطي من طبقة عبد الرحمن بن مهدي وذويه قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وقال علي بن عاصم شيخ البخاري ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربا ذكره عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم.
وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يجادلون أن يقولوا ليس في السماء شيء. وروى عن أبيه: حدثنا شريح بن النعمان قال سمعت عبد الله بن نافع الصانع قال سمعت مالك بن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان.
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا نحن والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى فوق عرشه نؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين الذين كان فيهم مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم من أئمة أهل الحجاز والليث بن سعد ونحوه من أئمة مصر والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم من أئمة أهل الكوفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة ونحوهم من أئمة أهل البصرة فهؤلاء وأمثالهم أئمة الإسلام شرقا وغربا في ذلك الزمان وقد حكى الأوزاعي شهرة القول بأن الله فوق عرشه في زمن التابعين وقال أبو حنيفة من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وعرشه فوق سبع سماوات قال أبو مطيع قلت فإن قال إنه على العرش وقال لا أدري العرش في السماء أم في الأرض قال هو كافر لأنه أنكر أن يكون الله في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وهو يدعي من أعلى لا من أسفل وفي لفظ آخر قال أبو مطيع سألت أبا حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض قال قد كفر لأن الله يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وعرشه فوق سبع سماوات قال فإنه يقول على العرش استوى ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ذكره البيهقي وغيره.
وروى عبد الله بن أحمد وغيره عن عبد الله بن المبارك بأسانيد صحيحة بأنه سئل بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية بأنه هاهنا في الأرض وهكذا قال الإمام أحمد فيما حكاه الخلال عنه في الجامع قال في رواية ابنه عبد الله باب ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش وقد قال جل ثناؤه { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [39] وقال { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [40] ثم قال وقد أخبرنا أنه في السماء فقال { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } [41] وقال جل ثناؤه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [42] وقال { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ } [43] وقال { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [44] وقال { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } [45] وقال { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [46] وقال { ذِي الْمَعَارِجِ } [47] وقال { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [48] وقال { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [49] وقد أخبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذموما يقول جل ثناؤه { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [50] إلى أن قال ومعنى قول الله عز وجل { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } [51] يقول هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو الله على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ونصوص أحمد في ذلك كثيرة جدا مذكورة في غير هذا الموضع.
وأما الشافعي فقد صرح في خطبة الرسالة بأن الله سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وصرح بأن خلافة الصديق حق قضاها الله فوق سماواته وجمع عليها قلوب عباده وصرح في باب الكفارة في حديث الجارية وقول النبي لها أين الله قال الشافعي فلما وصفت الإيمان قال أعتقها فإنها مؤمنة فجعل إقرارها بأن الله في السماء إيمانا.
وذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن وهب بن جرير أحد أئمة الإسلام قال: الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى، وعن حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله.
وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على عرشه وقال لرجل من الجهمية أبطنك خال منه فبهت الآخر.
وذكر البخاري في هذا الكتاب أيضا قول سعيد بن عامر وقد تقدم وقال عن شيخه علي بن عاصم: احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد [52] الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت أن في السماء إلها. وقال يزيد بن هارون من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي. وقال صدقة سمعت سليمان التيمي يقول لو سئلت أين الله تعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا أعلم.
وفي مسائل جرت لأحمد وإسحاق إن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغيرها فمما وصف به نفسه من ذلك قوله تعالى { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } [53] وقوله: { وَتَرَى الْمَلائِكَة َ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } [54] وآيات مثلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [55] وذكر عن خارجة بن مصعب قال الجهمية كفار لا تنكحوا إليهم ولا تنكحوهم ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم وبلغوا نساءهم أنهن طوالق وأنهن لا يبحن لأزواجهن وقرأ طه إلى قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [56] ثم قال وهل يكون الاستواء إلا الجلوس وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من لم يقل بأن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ذكره عنه أبو عبد الله الحاكم في كتاب علوم الحديث له وفي كتاب تاريخ نيسابور وذكره أبو عثمان النيسابوري في رسالته المشهورة وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق. وقد روي هذا الكلام عن الإمام مالك من وجوه متعددة وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عبيدالله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.
وروي أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم قال لا حتى يقول الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه.
وروي أيضا عن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم وإنما يجادلون أن يقولوا ليس في السماء إله.
وقال أبو الوليد بن رشد في كتاب مناهج الأدلة: القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله حتى نفتها المعتزلة وتبعهم على ذلك متأخرو الأشعرية وساق أدلة القرآن عليها إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي حتى قرب من سدرة المنتهى. قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، ثم قرر ذلك بالدليل العقلي وبين بطلان شبهة المعطلة وهذه النقول التي حكيناها قليل من كثير وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية وهي تبين كذب من قال إنه لم يقل بذلك إلا الكرامية والحنبلية وفريته وجهله والمقصود بأن علو الخالق على المخلوقات كلها وكونه فوق العالم أمر مستقر في فطر العباد معلوم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم من غير تواطؤ وتشاعر بخلاف النفي والتعطيل فإنه يتلقاه بعضهم عن بعض كسائر المقالات الباطلة المخالفة لصريح العقل والنقل.
فصل ومما ينصرف إلى ذلك أن العباد كلهم مضطرون إلى دعاء الرب سبحانه وسؤاله وقصده والافتقار إليه كما قال الله تعالى { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [57] وهم مضطرون إلى توجيه قلوبهم إلى العلو كما أنهم مضطرون إلى دعائه وقصده وسؤاله كما أنهم يضطرون إلى الإقرار به وأنه ربهم وخالقهم ومليكهم ولا يجدون فرقا بين هذا الاضطرار وهذا فكما لا تتوجه قلوبهم غلى رب غيره ولا إلى إله سواه فكذلك لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى غير العلو بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى قصد جهة العلو دون سائر الجهات وهذا يتضمن اضطرارهم إلى قصده سبحانه في العلو وإقرارهم وإيمانهم بذلك.
فصل الطريق الثالث (الوجه الخمسون بعد المائة ): إنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمى والسمع والصمم والغنى والفقر ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول وإذا كان مباينا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود العالم إلا عاليا عليه ضرورة ولا يكون سبحانه إلا فوق المخلوقات كلها ولا تكون المخلوقات محيطة به أصلا وإذا قابلت بين هذه المقدمات ومقدمات شبه المعطلة ظهر لك الحق من الباطل.
هامش
- ↑ [طه5]
- ↑ [فاطر10]
- ↑ [النساء158]
- ↑ [السجدة 5]
- ↑ [غافر37، 36]
- ↑ [الملك16]
- ↑ [نوح16]
- ↑ [طه5]
- ↑ [الشورى51]
- ↑ [الأنعام62]
- ↑ [الأنعام30]
- ↑ [السجدة 12]
- ↑ [الكهف48]
- ↑ [النحل50]
- ↑ [المعارج4]
- ↑ [فصلت11]
- ↑ [الفرقان59]
- ↑ [السجدة 4]
- ↑ [الفجر22]
- ↑ [البقرة 210]
- ↑ [النجم12-8]
- ↑ [آل عمران55]
- ↑ [طه5]
- ↑ [فاطر10]
- ↑ [الملك16]
- ↑ [طه5]
- ↑ [فاطر10]
- ↑ [الشورى11]
- ↑ [طه110]
- ↑ [فصلت53]
- ↑ [سبأ6]
- ↑ [سبأ46]
- ↑ [النحل125]
- ↑ ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثين طريقا ثم قال بعد بعد نهاية الطريق الثلاثين ص 1340: " فهذه ثلاثون طريقا مضافة الى الوجه السابع والاربعون بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل" ثم ذكر بعد ذلك الطريق الثامن والسبعون بعد المائة. وعلى هذا يكون الطريق الأول هو الوجه الثامن والاربعون بعد المائة.
- ↑ [الحديد4]
- ↑ [الطلاق12]
- ↑ [الجن28]
- ↑ [المجادلة 7]
- ↑ [طه5]
- ↑ [الحديد4]
- ↑ [الملك17]
- ↑ [فاطر10]
- ↑ [آل عمران55]
- ↑ [النساء158]
- ↑ [الأنبياء19]
- ↑ [النحل50]
- ↑ [المعارج3]
- ↑ [الأنعام18]
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [النساء145]
- ↑ [الأنعام3]
- ↑ أو ابن جد، أو يستجلي
- ↑ [البقرة 210]
- ↑ [الزمر75]
- ↑ [طه5]
- ↑ [طه5]
- ↑ [الرحمن29]