→ الفصل الثالث عشر | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال ابن قيم الجوزية |
الفصل الخامس عشر ← |
لما جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضه إلى بعض فلا يمكن لإنسان أن يعيش وحده بل لا بد له من مشارك ومعاون من بني جنسه كما قيل الإنسان مدني بالطبع وكان لا يعرف كل منهم ما يريد صاحبه من الأفعال والتروك إلا بعلامة تدل على ذلك وتلك العلامة إما تحريك جسم من الأجسام المنفصلة عنه أو تحريك بعض أعضائه فيجعل لكل معنى حركة خاصة ومعلوم أن في الأول من العسر والمشقة وعدم الإحاطة بالتعريف ما يمنع وضعه فكان تحريك الأعضاء أسهل وأدل وأعم وكانت حركة الأعضاء نوعين نوع للبصر ونوع للأذن والذي للأذن أعم والإنسان إليه أحوج وكان أولى هذه الأعضاء بأن يجعل حركاتها دالة معرفة هو اللسان لأن حركته أخف وأسهل وتنوعها أعظم وأكثر من تنوع حركة غيره وترجمته عما في القلب أظهر من ترجمة غيره ويتمكن المعرف بحركاته من حركات مفردة ومؤلفة يحصل بها من الفرق والتمييز ما لا يحصل بغيره كان أقرب الطرق إلى هذا المقصد هو الكلام الذي جعله الله سبحانه في اللسان وجعله دليلا على ما في الجنان وجعل ذلك من دلائل ربوبيته ووحدانيته وكمال علمه وحكمته.
قال الله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [1] وقال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [2]
وقال الشاعر
إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
هكذا قال الشاعر هذا البيت وهكذا هو في ديوانه. قال أبو البيان أنا رأيته في ديوانه كذلك فحرفه عليه بعض النفاة وقالوا:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا
والمقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير صاحبه إلا بالألفاظ الدالة على ذلك فإذا حمل السامع كلام المتكلم على خلاف ماوضع له وخلاف ما يفهم منه عند التخاطب عاد على مقصود اللغات بالإبطال ولم يحصل مقصود المتكلم ولا مصلحة المخاطب وكان ذلك أقبح من تعطيل اللسان عن كلامه. فإن غاية ذلك أن تفوت مصلحة البيان وإذا حمل على ضد مقصوده فوت مصلحة البيان وأوقع في ضد المقصود ولهذا قال بعض العقلاء اللسان الكذوب شر من لسان الأخرس لأن لسان الأخرس قد تعطلت منفعته ولم يحدث منه فساد ولسان الكذوب قد تعطلت منفعته وزاد بمفسدة الكذب فالمتكلم بما ظاهره وحقيقته ووضعه باطل وضلال وهو يريد به أن يفهم منه خلاف وضعه وحقيقته أضر على المخاطب ولسان الأخرس أقل مفسدة منه فترك وضع اللغات أنفع للناس من تعريضها للتأويل المخالف لمفهومها وحقائقها وهكذا كل عضو خلق لمنفعة إذا لم يحصل منه إلا ضد تلك المنفعة كان عدمه خيرا من وجوده.
يوضح ذلك أن المتكلم بكلام له حقيقة وظاهر لا يفهم منه غيره مريد بكلامه خلاف حقيقته وما يدل عليه ويفهم منه فإذا ادعى أني أردت بكلامي خلاف ظاهره وما يفهم منه كان كاذبا إما في دعوى إرادة ذلك أو في دعوى إرادة البيان والإفهام فحمل كلامه على التأويل الباطل تكذيب له في أحد الأمرين ولا بد. ولهذا كان التأويل الباطل فتحا لباب الزندقة والإلحاد وتطريقا لأعداء الدين على نقضه وبيانه بذكر.
هامش