→ العشر التاسعة عشر | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر العشرون ابن قيم الجوزية |
العشر الحادية والعشرون ← |
الوجه الحادي والتسعون بعد المائة: وهو أنه قد علم بالاضطرار أن الله سبحانه له ذات مخصوصة يقال ذات الله كما قال خبيب
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ولفظ ذات في الأصل تأنيث ذو أي ذات كذا وذو كذا والذي يضاف إليه ذو نوعان وصف ويضاف إليه إضافة الموصوف إلى صفته كقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ } [1] وقوله { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } [2] فالفضل وصفه وفعله وكان النبي يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. والثاني إضافته إلى مخلوق منفصل كقوله تعالى { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [3] فإذا أطلقوا لفظ الذات من غير تقييدها بإضافة معين دلت على ماهية لها صفات تقوم بها فكأنهم قالوا صاحبة الصفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية فدلوا بلفظ الذات على الحقيقة وصفاتها القائمة بها ومحال أن يصح وجود ذات لا صفات لها ولا قدر وإن فرضها الذهن فرضا لا وجود لمتعلقه في الخارج إلا كما يفرض سائر الممتنعات فالذات هي قابلة للصفات والموصوفة بالصفات القائمة بها ومنه ذات الصدور أي ما فيها من خير وشر. وقال ابن الأنباري معناه عليم بحقيقة القلوب من المضمرات فتأنيث ذات لهذا المعنى كما قال { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَة ِ تَكُونُ لَكُمْ } [4] فأنث لمعنى الطائفة كما يقال لقيته ذات يوم لأن قصدهم لقيته مرة في يوم.
وقال الواحدي ذات الصدور يحتمل معنيين
أحدهما أن يكون نفس الصدور لأن ذات الشيء نفسه وعينه يقال فهمت ذات كلامك كما يقال فهمت كلامك.
قال تطوف بذات البيت والحر طاهر.
وقال وفيه معنى التأكيد فيكون المعنى والله عليم بالصدور.
والثاني أن ذات الصدور الأشياء التي في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها فيها تحلها وتصاحبها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته قلت أكثر استعمالهم ذات الشيء بمعنى السبيل والطريق الموصلة إليه كقول خبيب وذلك في ذات الإله وكذلك الجنب كقوله { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [5] فليست الذات والجنب هنا هي نفس الحقيقة ومنه قوله { فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ } [6] وقول النبي ﷺ: "ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد". وأما استعمالهم ذات الشيء بمعنى عينه ونفسه فلا يكاد يظفر به وكذلك قوله { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ليس المراد به عليما بمجرد الصدور فإن هذا ليس فيه كبير أمر وهو بمنزلة أن يقال عليم بالرؤوس والظهور والأيدي والأرجل وإنما المراد به عليم بما تضمره الصدور من خير وشر أي بالأسرار التي في الصدور وصاحبة الصدور فأضافها إليها بلفظ يعم جميع ما في الصدور من خير وشر.
وأما استعمال لفظ ذات في حقيقة الشيء الخارجية فأظنه استعمالا مولدا وهو من العربية المولدة لا العربية العرباء ولما ولدوا هذا الاستعمال أدخلوا عليها الألف واللام وهو من العربية المولدة أيضا فقالوا الذات والعرب لا تستعملها إلا مضافة وقد تنازع فيها أهل العربية فكثير منهم يغلط أصحاب هذا الاستعمال ويقول هو خلاف لغة العرب وبعضهم يجعله قياس اللغة وإن لم ينطقوا به والصواب أنه من العربية المولدة كما قالوا الكل والبعض والكافة والعرب لا تستعملها إلا مضافة.
وقريب من هذا لفظ الماهية والكمية والكيفية والآنية ونحوها فإن العرب لم تنطق بها فهي عربية مولدة ويشبه هذا قولهم الدمعزة والطلبقة لقولهم دام عزك وطال بقاؤك وهذا لم ينطق به العرب وإن نطقت بنظيره كالبسملة والحوقلة والحيعلة ولما استعملوا الذات بمعنى النفس قالوا جاء بذاته ومنه قول أهل السنة استوى على عرشه بذاته أي ذاته فوق العرش عالية عليه وقد غلط بعضهم من قال جاء بذاته وجاء بنفسه وقال الصواب جاء زيد ذاته ونفسه ونازعهم في ذلك آخرون وجوزوا هذا الاستعمال والمقصود أن إثبات الذات ونفي قدرها وصفاتها جمع بين النقيضين فإنه إثبات للشيء ونفي لما يستلزم نفيه فإن أبين لوازم الذات تمييزها بحقيقتها وماهيتها عن غيرها ومباينتها له ولو بالتعيين فمن أنكر مباينة الرب لخلقه وصفاته التي وصف بها نفسه فقد جحد ذاته وأنكرها وإن أقر بها لفظا.
الوجه الثاني والتسعون بعد المائة: إن كل من عارض الوحي بالرأي والعقل فهو من خصماء الله لأنه قد خاصم الله في الوحي الذي أنزله على رسوله واحتج على بطلانه ويكفي العبد خذلانا وجهلا وعمى أن يكون خصم ربه تبارك وتعالى ولهذا أخبر تعالى عن هؤلاء المعارضين للكتاب بعقولهم بذلك قال تعالى { أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } [7]. ثم ذكر سبحانه مخاصمته لربه فيما ضربه من المثل قال { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [8] وفي الصحيح قال كان المشركون يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر فنزلت { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [9] فهؤلاء إنما كانت خصومتهم خصومة معارضة للوحي بعقولهم وآرائهم كخصومة من خاصم في المعاد وكذلك مجادلتهم في الله وآياته كذا كانت جدال معارضة للوحي بالرأي والعقل فهؤلاء خصماء الله حقيقة وفي الاثر ينادي مناد يوم القيامة ألا ليقم خصماء الله فيذهب بهم إلى النار فخصماء الله حقيقة هم المعارضون لكتابه وما بعث به رسله بعقولهم وآرائهم وإن لم يكن هؤلاء خصماء الله فمن هم خصماؤه غيرهم وقد حكم الله سبحانه بين خصمائه وبين من خاصمهم فيه أحسن الحكومة وأعدلها وهي حكومة يحمده عليها الفريقان كما يحمده عليها أهل السماوات والأرض فقال تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [10] ثم حكم لخصومهم الذين خاصموا به وله فقال { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [11] ولا يستوي من خاصم بكتاب الله وحاكم إليه وعول فيما يثبته لله وينفيه عنه عليه كمن خاصم كتاب الله وحاكم إلى منطق يونان وكلام أرسطو وابن سينا والجهم بن صفوان وشيعتهم وعول فيما يثبته وينفيه على أقوالهم وآرائهم وكان النبي يقول في استفتاح صلاة الليل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فالرسل إنما خاصموا قومهم بالوحي وإليه حاكموهم به كانت لهم عليهم الحجة البالغة وكيف يعارض من يقول قال لي ربي كذا وكذا بقول من يقول قال لي عقلي أو قلبي أو قال فلان فهذا هو المخصوم الداحضة حجته في الدنيا والآخرة الذي لا يمكنه تنفيذ ضلاله وباطله إلا بالعقوبة والتهديد والوعيد أو بالرغبة العاجلة في الدنيا وزخرفها كما فعل المنافقون بنو عبيد حين أظهروا دعوتهم فإنهم استولوا على النفوس الصغيرة الجاهلة المبطلة بالرغبة والرهبة العاجلة من نوع شبهة وإذا انضاف الهوى إلى الشبهة ترحل العقل والإيمان وتمكن الهوى والشيطان والنفس موكلة بحب العاجل بدون شبهة تدعوها إليه فكيف إذا قويت الشبهة وأظلم ليلها وغابت شمس الهدى والإيمان وحيل بين القلوب وبين حقائق القرآن بتلك الطواغيت التي عزلوه بها عن إفادة الإيقان يوضحه.
الوجه الثالث والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء النفاة المعطلة إذا غلبوا مع أهل الإثبات وقامت حجتهم عليهم عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل وتارة يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها فلا تقبل أقوالهم إلا برغبة أو رهبة والناس إلا القليل منهم عبيد رغبة أو رهبة وبهذه الطريقة أخذ إمام المعطلة فرعون قومه حين قال للسحرة لما ظهرت حجة موسى عليه وصحت دعوته وصحت نبوته وألقى السحرة ساجدين إيمانا بالله وتصديقا برسوله { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [12] ولما تمكن الإيمان من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاء وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظم وأنفع وأكثر بقاء.
فهذه العقول التي قدموا بها خير الآخرة على خير الدنيا وعقوبة الدنيا وألمها المنقضي على عقوبة الآخرة وألمها الدائم هي العقول التي أثبتوا بها صانع العالم وصفاته وعلوه على عرشه وتكليمه لموسى وغضبه ورضاه ومحبته ورحمته وسمعه وبصره ومجيئه وإتيانه وأفعاله وأما إمام المعطلة النفاة وقومه فإنهم بالعقول التي قدموا بها عاجل الدنيا وزينتها وزخرفها على آجل الآخرة وباعوا بها الذهب الباقي بالخزف الفاني وآثروا بها خسران الدنيا والآخرة على العبودية والانقياد لموسى والإيمان بالله وحده هي العقول التي نفوا بها مباينة الله لخلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لموسى ونفوا بها صفات كماله من السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة بل نفى بها شيخهم وإمامهم نفس الذات فقال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [13] فهذه العقول التي دلتهم في النفي والتعطيل هي تلك العقول التي آثروا بها الدنيا على الآخرة ففاتتهم الدنيا والآخرة بل آثروا بها العقوبة العاجلة وأسبابها على العافية والنعمة فمن الذي يتخير بعد ذلك تقديم ما حكمت به هذه العقول السخيفة من التعطيل والنفي على ما جاءت به الرسل من الإثبات المفصل.
والمقصود أن هؤلاء إنما يأخذون الناس بالرغبة والرهبة لا بالحجة والبيان ولهذا لما علم إمامهم فرعون أنه لا يقاوم بها موسى عدل معه إلى الوعيد بالسجن فقال { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [14]. وكذلك فعل أصحاب الأخدود مع المؤمنين وكان ذنبهم عند ربهم أن آمنوا بالله وصفاته ورسله وكتبه ولقائه وكذلك فعلت الجهمية بأولياء رسول الله ﷺ وخلفائه في أمته أهل السنة والحديث والنقل من الضرب والحبس ما فعلوه بأحمد بن حنبل وأمثاله وكان ذنبهم عند ربهم أن أثبتوا لله صفات كماله ونعوت جلاله ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله من غير تجاوز ولا تقصير ولما لم يقم لهم عليهم حجة نقلية ولا عقلية وفي المحال أن تقوم حجة صحيحة على نقيض ما أخبرت به الرسل عن الله عدلوا معهم إلى العقوبة وتوصلوا بالتدليس والتلبيس على أولياء الأمر والجهال فأوقعوا في نفوسهم أن هؤلاء مشبهة مجسمة و { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [15] { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [16]
الوجه الرابع والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم في الأصل صنفان صنف مباينون للرسل محادون لهم مكذبون لهم في أصل الرسالة كالفلاسفة الصابئين والمجوس وعباد الأوثان والسحرة وأتباعهم وصنف منتسبون إلى الرسل في الأصل غير مكذبين لهم في أصل الرسالة وهم الجهمية والمعطلة لهم في أصل الرسالة وهم الجهمية والمعطلة ومن سلك سبيلهم ووافقهم على بعض باطلهم وخالفهم في بعضه وقد تقدم أن الصنف الأول يستطيلون على الصنف الثاني بما وافقوهم فيه من التعطيل ويجرونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه والجهمية المغل يستطيلون على الجهمية المخانيث بما وافقوهم فيه من النفي ويجرونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه وهؤلاء المخانيث يستطيلون على أهل السنة والحديث أيضا بالقدر الذي وافقوهم فيه ويدعونهم به إلى موافقتهم في الباقي فلم يستطل المبطل على المحق من حيث خالفه وإنما استطال عليه من حيث وافقه فما أصيب المحق إلا بطاعته للمبطل في بعض أمره وأصول هؤلاء يكرهون ما أنزل الله مما هو بخلاف عقولهم وآرائهم وقواعدهم فمن أطاعهم في بعض أمرهم كان من الذين قال الله عز وجل فيهم { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [17] ولهذا تجد هؤلاء المبطلين إنما يصولون على من وافقهم في بعض باطلهم فيعلقون له برهانا يطالبونه وأما أتباع الرسل المصدقون لهم في كل ما جاءوا به المثبتون لحقائقه لست أعني المقرين بمجرد ألفاظه مع اعتقادهم فيها التخييل والتحريف والتأويل أو التجهيل فليس للمبطلين عليهم سبيل البتة لكن بالافتراء والتلبيس والكذب والألقاب الذين هم أحق بها وأهلها دونهم وما رتبوا على ذلك من الأذى الذي يبلغونه منهم وذلك مما يحقق ميراثهم من إمامهم ومتبوعهم الذي أوذي في الله هو وأصحابه وقال له ورقة بن نوفل لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي فكل من دعا إلى نفس ما جاء به الرسول فهو من أتباعه فلا بد أن يناله من الأذى من أتباع الشيطان بحسب حاله وحالهم والله المستعان والمقصود أن المبطلين لا سبيل لهم على أتباع الرسول البتة قال تعالى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [18] قيل بالحجة والبرهان فإن حجتهم داحضة عند ربهم وقيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى وقيل لا يجعل لهم عليهم سبيلا مستقرة بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم ويستقر النصر لأتباع الرسول وقيل بل الآية على ظاهرها وعمومها ولا إشكال فيها بحمد الله فإن الله سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا فحيث كانت لهم سبيل ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به أو ارتكاب بعض ما نهوا عنه فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله في ما أوجب تسلط عدوهم عليهم من هذه الثغرة التي أخلوها كما أخلى الصحابة يوم أحد الثغرة التي أمرهم رسول الله ﷺ بلزومها وحفظها فوجد العدو منها طريقا إليهم فدخلوا منها قال تعالى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [19] فذكر السبب الذي أصيبوا به وذكر القدرة التي هي مناط الجزاء فذكر عدله فيهم بما ارتكبوه من السبب وقدرته عليهم بما نالهم به من المكروه وقال تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [20] وفي الحديث الصحيح الإلهي "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
الوجه الخامس والتسعون بعد المائة: إنه كيف يكون النفاة المعطلة من الجهمية ومن تبعهم أولى بالصواب والحق في معرفة الله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه وشهداء الله في أرضه من جميع أقطار الأرض يشهدون عليهم بالضلالة والحيرة والكذب على الله ورسوله وكتابه ويرمونهم بالعظائم ويشهدون عليهم بالكفر والإلحاد في أسماء الله وصفاته وقد قال النبي ﷺ: "أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار" فكيف إذا كان الشهداء على هؤلاء قد شهد لهم بأنهم أولو العلم وعدلهم من جعله الله شهيدا عليهم وهو رسوله كما قال النبي ﷺ معدلا لهؤلاء الشهود: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" فاسمع الآن بعض شهادات هؤلاء العدول على أهل النفي والتعطيل
قال إمام أهل السنة والحديث محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب خلق الأفعال حدثنا أبو نعيم سليمان الفارسي سمعت سفيان الثوري قال قال لي حماد بن أبي سليمان أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه، وكان يقول إن القرآن مخلوق. وذكر عن خالد بن عبد الله القسري أنه خطبهم بواسط في يوم أضحى وقال ارجعوا فضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه. أخبرنا محمد بن عبد الله أبو جعفر البغدادي قال سمعت أبا زكريا يحيى بن يوسف قال كنت عند عبد الله بن إدريس فجاء رجل فقال يا أبا محمد ما تقول في قوم يقولون القرآن مخلوق قال أمن اليهود قال لا قال أفمن النصارى قال لا قال أفمن المجوس قال لا قال فممن قال من أهل التوحيد قال ليس هؤلاء من أهل التوحيد هؤلاء الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق يقول الله عز وجل { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فالله لا يكون مخلوقا والرحمن لا يكون مخلوقا والرحيم لا يكون مخلوقا فهذا أصل الزندقة من قال هذا فعليه لعنة الله لا تجالسوهم ولا تناكحوهم. قال البخاري وقال وهب بن جرير: الجهمية زنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى. قال البخاري: وحلف يزيد بن هارون بالله الذي لا إله إلا هو من قال القرآن مخلوق زنديق يستتاب فإن تاب وإلا قتل. قال وقيل لأبي بكر بن عياش إن قوما ببغداد يقولون إنه مخلوق فقال ويلك من قال هذا على من قال إن القرآن مخلوق لعنة الله وهو كافر زنديق لا تجالسوهم. قال وقال الثوري من قال القرآن مخلوق فهو كافر. وقال حماد بن زيد: القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله. قال وقال ابن مقاتل: سمعت ابن المبارك يقول: من قال { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي } مخلوق فقد كفر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك وقال ابن المبارك:
ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى عن بريته رب العباد وولي الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تجبره فرعون موسى ولا فرعون هامانا
ومن شعره أيضا فيه ولم يذكره البخاري
عجبت لشيطان دعى الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
قال البخاري قال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية أنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سماواته على عرشه وقال رجل لرجل منهم أبطنك خال منه فبهت الآخر وقال من قال { لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا } مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال وقال سعيد بن عامر: للجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى قد أجمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش وقالوا هم ليس على العرش قال وقال ضمرة عن ابن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك خاصمه بعض السمنية فأقام أربعين يوما لا يصلي قال ضمرة وقد رآه ابن شوذب. قال البخاري وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون: كلام جهم صفة بلا معنى بناء بلا أساس ولم يُعد قط من أهل العلم قال ولقد سئل جهم عن رجل طلق امرأته قبل الدخول فقال عليها العدة. قال وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا إن لله ولدا بأكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم، وقال: احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزنادقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت أن في السماء إلها. قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بنحو هذا فرارا من هذا الكلام قال وقال علي بن الحسن: سمعت أبا مصعب يقول كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله، وقال أبلغوا الجهمية أنهم كفار وأن نساءهم طوالق، قال وقال عفان من قال { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مخلوق فهو كافر. قال وقال علي بن عبد الله القرآن كلام الله من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه قال وقال وكيع من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي فهو جهمي فاحذروه - قلت يريد حديث الرؤية - قال وقال أبو الوليد هو الطيالسي من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو كافر خارج عن الإسلام وقال أبو عبيد نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم من الجهمية وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم قال وقال عبد الرحمن بن عفان سمعت سفيان بن عيينة يقول ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حتى ذكر منصورا والأعمش ومسعر بن كدام فما يعرف القرآن إلا كلام الله فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله ما أشبه هذا القول بقول النصارى لا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم.
قال البخاري وحدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة حدثنا سفيان بن عيينة قال أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله ليس بمخلوق قال وقال الحميدي حدثنا سفيان ثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن بشر بن شكل عن عبد الله قال ما خلق الله من أرض ولا سماء ولا جنة ولا نار أعظم من { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [21] قال سفيان تفسيره أن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق والقرآن كلام الله قال وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار.
وقال جرير بن عبد الحميد: جهم كافر بالله العظيم وقال وقال وكيع أحدث هؤلاء المرجئة الجهمية والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمهم كيف كفروا قال يكفيك المعرفة وهذا كفر والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا عمل وهذا بدعة ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وقال وكيع على المريسي لعنه الله يهودي أو نصراني فقال له رجل كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع وعلى أصحابه لعنة الله القرآن كلام الله وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى فقال هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قال البخاري وقال يزيد بن هارون لقد حرضت أهل بغداد على قتله جهدي ولقد أخبرت من كلامه بشيء وجدت وجعه في صلبي بعد ثلاث وقال علي بن عبد الله إنما كان غايته أن يدخل الناس في كفره وقال عبيدالله بن عائشة: لا يصلى خلف من قال القرآن مخلوق ولا كرامة له وقال سليمان بن داود الهاشمي وسهل بن مزاحم: من صلى خلف من يقول القرآن مخلوق أعاد الصلاة وقال ابن أبي الأسود سمعت ابن مهدي يقول ليحيى بن سعيد لو أن جهميا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئا. وقال ابن مهدي لو رأيت رجلا على الجسر وبيدي سيف يقول القرآن مخلوق لضربت عنقه وقال يزيد بن هارون: المريسي أضر من سحالي. قال أبو عبد الله البخاري ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان الجهمية والرافضة قال شيخ الإسلام وهذا الكلام الذي قاله الإمام عبد الرحمن بن مهدي قد قاله غيره وهو كلام عظيم فإن هاتين الفرقتين هما أعظم الفرق فسادا في الدين وأصلهما من الزنادقة المنافقين ليستا من ابتداع المتأولين مثل قول الخوارج والمرجئة والقدرية فإن هذه الآراء ابتدعها قوم مسلمون بجهلهم قصدوا بها طاعة الله فوقعوا في معصيته ولم يقصدوا بها مخالفة الرسول ولا محادته بخلاف الرفض والتجهم فإن مبدأهما من قوم منافقين مكذبين لما جاء به الرسول مبغضين له لكن التبس أمر كثير منهم على كثير من المسلمين الذين ليسوا بمنافقين ولا زنادقة فدخلوا في أشياء من الأقوال والأفعال التي ابتدعها الزنادقة والمنافقون ولبسوا الحق بالباطل وفي المسلمين سماعون للمنافقين كما قال الله تعالى { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [22] أي قابلون مستجيبون لهم فإذا كان جيل القرآن كان بينهم منافقون وفيهم سماعون لهم فما الظن بمن بعدهم فلا يزال المنافقون في الأرض ولا يزال في المؤمنين سماعون لهم لجهلهم بحقيقة أمرهم وعدم معرفتهم بغور كلامهم وأما الرفض فإن الذي ابتدعه زنديق منافق وهو عبد الله بن سبأ الذي أظهر الإسلام وكان يبطن الكفر وقصده فساد الإسلام والتجهم مأخوذ في الأصل عن الصابئين والمشركين وهم أعظم من الرفض ولهذا تأخر دخوله في الأمة فهاتان الملتان يناقضان أصلي الإسلام وهما شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ﷺ أما التجهم فإنه نقض التوحيد وإن سمى أصحابه أنفسهم موحدين ولهذا كان السلف يترجمون الرد على الجهمية بالتوحيد والرد على الزنادقة والجهمية كما ترجم البخاري آخر كتاب الجامع بكتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة وكذلك ابن خزيمة سمى كتابه التوحيد وهو في الرد على الجهمية وأما الرافضة فقدحهم وطعنهم في الأصل الثاني وهو شهادة أن محمدا رسول الله ﷺ وإن كانوا يظهرون موالاة أهل بيت الرسول ومحبتهم. قال طائفة من أهل العلم منهم مالك بن أنس وغيره: هؤلاء قوم أرادوا الطعن في رسول الله ﷺ فلم يمكنهم ذلك فطعنوا في الصحابة ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين، والرافضة المتقدمون لم يكونوا جهمية معطلة وأما المتأخرون منهم من حدود أواخر المائة الثالثة فضموا إلى بدعة الرفض التجهم والقدر فتغلظ أمرهم وظهر منهم حينئذ القرامطة والباطنية واشتهرت الزندقة الغليظة والنفاق الأعظم في أمرائهم وعلمائهم وعامتهم وأخذوا من دين المجوس والصابئة والمشركين ما خلطوه في الإسلام وهم أعظم الطوائف نفورا عن سنة النبي وحديثه وآثار أصحابه لمضادة ذلك لبدعتهم كنفور الجهمية عن آيات الصفات وأخبارها. قال البخاري وقيل لأبي عبيد القاسم بن سلام إن المريسي سئل عن ابتداء خلق الأشياء وقول الله { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [23] فقال هذا كلام صلة أي هو مثل قوله قالت السماء وقال الجدار يعني أن الله لم يتكلم قال أبو عبيد أما تشبيهه قول الله { إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } بقالت السماء وقال الجدار وبين بطلان قوله ثم قال ومن قال هذا فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه ومن قال هذا فقد قال على الله مالم يقله اليهودي والنصراني ومذهبه التعطيل للخالق. قال البخاري قال علي وسمعت بشر بن المفضل وذكر بعض الجهمية بالبصرة فقال هو كافر وسئل وكيع عن مثنى الأنماطي فقال هو كافر وقال عبد الله بن داود لو كان لي على مثنى الأنماطي سبيل لنزعت لسانه من قفاه وكان جهميا وقال سليمان بن داود الهاشمي من قال القرآن مخلوق فهو كافر قال وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول من مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء قال وقال ابن علية ومعاذ بن معاذ وحجاج بن محمد ويزيد بن هارون وهاشم بن القاسم والربيع بن نافع الحلبي ومحمد بن يوسف وعاصم بن علي ويحيى بن يحيى وأهل العلم: من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر. وقال محمد بن يوسف من قال إن الله ليس على عرشه فهو كافر قال وقيل لأحمد بن يونس أدركت الناس فهل سمعت أحدا يقول القرآن مخلوق فقال الشيطان تكلم بهذا، فمن تكلم بهذا فهو جهمي والجهمي كافر. وذكر عن وكيع قال لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل. قال وحدثني أبو جعفر سمعت الحسن بن يونس الأشيب وذكر الجهمية فنال منهم ثم قال أدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له شمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هما اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه وصلبه قال وحدثني أبو جعفر حدثني يحيى بن أيوب قال سمعت أبا نعيم شجاعا البلخي يقول كان رجل من أهل مرو صديقا لجهم ثم قطعه وجفاه فقيل له لم جفوته قال جاء منه مالا يحتمل قرأت يوما آية كذا وكذا نسيها يحيى فقال ما كان أظرف محمدا حين قالها واحتملتها ثم قرأ سورة طه فلما بلغ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال أما والله لو وجدت سبيلا إلى حكها لحككتها من المصحف فاحتملتها ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى قال ما هذا ذكر قصة في موضع فلم يتمها ثم ذكرها هنا فلم يتمها ثم رمى المصحف من حجره برجليه فوثبت عليه. حدثني أبو جعفر سمعت يحيى بن أيوب قال كنا ذات يوم عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه فقال إن لم تحدثني به فأنت جهمي فقال مروان يقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه. حدثني أبو جعفر حدثني هارون بن معروف ويحيى بن أيوب قائلا قال ابن المبارك كل قوم يعرفون من يعبدون إلا الجهمية. حدثنا أبو جعفر سمعت يزيد بن هارون حدثنا حديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي ﷺ "أنكم ترون ربكم" قال يزيد من كذب بهذا فقد برئ من الله ورسوله. حدثنا أبو جعفر حدثنا أحمد بن خلاد سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم. وقال عبد الرحمن بن مهدي من زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وقال يزيد بن هارون والله الذي لا إله إلا هو ما هم إلا زنادقة أو قال مشركون. وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال: لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرض أو عدل فصل خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة. وسئل حفص بن غياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس، قيل فالجهمية قال لا أعرفهم قيل له قوم يقولون القرآن مخلوق قال لا جزاك الله خيرا أوردت على قلبي مالم يسمع به قط، قلت فإنهم يقولونه قال هؤلاء لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم. وسئل ابن عيينة فقال نحو ذلك قال فأتيت وكيعا فوجدته من أعلمهم بهم فقال يكفرون من وجه كذا ويكفرون من وجه كذا حتى أكفرهم من كذا وكذا وجها وقال وكيع: الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الأصناف قال الله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [24] ويقولون لم يكلمه ويقولون الإيمان بالقلب قال البخاري يقال سلم ابن أحوز الذي قتل جهما.
فصل قال البخاري حدثنا محمد بن كثير حدثنا إسرائيل ثنا عثمان بن المغيرة عن سالم عن جابر قال كان النبي ﷺ يعرض نفسه بالموقف فقال: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي".
وقال أنس بن مالك لما أسري بالنبي من مسجد الكعبة فإذا موسى في السماء السابعة بتفضيل كلام الله عز وجل. وقال أبو ذر قال النبي ﷺ: " قال الله عز وجل عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون".
قال وقال عبد الله بن أنيس سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله يحشر العباد يوم القيامة فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ".
وقال أبو هريرة عن النبي ﷺ "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان { إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [25]
وقال خباب بن الأرت تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه.
وقال نيار بن مكرم الأسلمي لما نزلت { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ } [26] خرج أبو بكر يصيح كلام ربي كلام ربي وكانت أسماء بنت أبي بكر إذا سمعت القراءة قالت كلام ربي.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرب على خلقه.
وقال أبو ذر قلت يا رسول الله ﷺ من أول الأنبياء قال "آدم قلت إنه لنبي قال نعم مكلم".
وقال ابن عباس لما كلم الله موسى كان النداء في السماء وكان الله في السماء ثم ذكر حديث عبد الله.
قال ابن مسعود أصدق الحديث كلام الله. قال وقال أبو بكر عن النبي وذكر الشفاعة قال يقول نوح انطلقوا إلى موسى فإن الله كلمه تكليما وقال أبو هريرة وابن عمر عن النبي ﷺ: "إن الله اصطفى موسى بكلامه ورسالته".
وقال عدي بن حاتم قال رسول الله ﷺ: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم من عمله فينظر عن يساره فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة ".
وقال جابر بن عبد الله قال النبي ﷺ: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك إن الله كلم أباك من غير حجاب فقال له عبدي سلني قال يا رب ردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك قال إني قد قضيت عليهم أن لا يرجعون قال فأبلغهم عنا فأنزل الله { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [27]. قال أبو عبد الله وهو عبد الله بن عمرو بن حرام قتل يوم أحد شهيدا
وقال جبير بن مطعم عن النبي ﷺ: "إن الله عز وجل على عرشه فوق سماواته وسمواته فوق أراضيه مثل القبة ".
وقال ابن مسعود في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [28] قال العرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه.
وقال قتادة في قوله { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } [29]. قال يعبد في السماء ويعبد في الأرض.
وقال ابن عباس في قوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [30] قال من أيام السنة وقال تعالى { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [31]
وقال عمران بن حصين قال رسول الله ﷺ لأبي: "كم تعبد اليوم قال سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء قال أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك فلما أسلم الحصين قال يا رسول الله ﷺ علمني الكلمتين اللتين وعدتني قال قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي".
قال البخاري وقال بعض أهل العلم إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم ولا يبصر وقالوا إن اسم الله مخلوق. ولقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض معطلتهم فقضى باليمين على المسلم فقال اليهودي حلفه فقال المخاصم له احلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال اليهودي حلفه بالخالق لا بالمخلوق فإن هذا من القرآن وزعمت أن القرآن مخلوق فحلفه بالخالق فبهت الآخر وقال قوما حتى أنظر في أمركما وخسر هنالك المبطلون.
وفي تاريخ الخطيب في ترجمة بشر المريسي عن إسحاق بن أحمد بن منيع قال: كان بشر المريسي يقول صنف من الزنادقة سماهم صنف كذا وكذا يقولون ليس بشيء وذكر فيه عن علي بن عاصم قال كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت يا أبت يدخل عليك مثل هذا فقال يا بني فما قال قلت إنه يقول إن القرآن مخلوق وإن الله عز وجل معه في الأرض وإن الجنة والنار لم يخلقا وإن منكرا ونكيرا باطل وإن الصراط باطل وإن الميزان باطل وإن الشفاعة باطلة مع كلام كثير قال فأدخله علي قال فأدخلته عليه قال فقال يا بشر ادن ويلك يا بشر ادن مرتين أو ثلاثا فلم يزل يدنيه حتى قرب منه قال ويلك يا بشر من تعبد وأين ربك قال فقال وما ذاك يا أبا الحسن قال أخبرت عنك أنك تقول إن القرآن مخلوق وإن الله معك في الأرض مع كلام كثير ولم أر شيئا أشد على أبي من قول القرآن مخلوق وإن الله معه في الأرض فقال يا أبا الحسن لم أجئ لهذا وإنما جئت في كتاب خالد لتقرأه علي فقال له ولا كرامة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك ويلك قال أو تعفيني قال ما كنت لأعفيك قال أما إذا أبيت فإن ربي نور في نور قال فجعل يزحف إليه ويقول ويحكم اقتلوه فإنه والله زنديق وقد كلمت هذا الصنف بخراسان.
وذكر فيه أيضا عن أبي يوسف القاضي أنه قال لبشر المريسي طلب العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم وإذا صار رأسا في الكلام قيل زنديق أو يرمى بالزندقة يا بشر بلغني أنك تتكلم في القرآن إن أقررت أن لله علما خصمت وإن جحدت العلم كفرت.
وذكر عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وإن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
وذكر أيضا عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شر قولا من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء.
فهذا وأضعافه قليل من كثير من شهادة شهداء الله في أرضه الذين استشهدهم على توحيده وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وعدلهم رسوله ﷺ بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، وهؤلاء شهداء الله على الناس يوم القيامة كما قال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [32] فإنهم قاموا بشروط الشهادة وهي العلم والعدل فإن الشاهد لا يكون مقبولا حتى يكون عالما بما يشهد له عدلا في نفسه ولم يكن الله سبحانه ليجمع شهادة هؤلاء الذين هم ورثة رسوله وأنصار دينه ولهم لسان الصدق في الأمة على باطل وزور وتكون شهادة اتباع أهل الفلسفة الصابئين والمشركين وشهادة الجهمية الجاحدين لصفات رب العالمين وكلامه وعلوه على خلقه وأوقاح المعتزلة وأفراخ المجوس وأمثالهم هي المقبولة عند الله وهي شهادة الحق بل هؤلاء هم المشهود عليهم بين يدي الله فإنهم خصماؤه وخصماء وحيه ورسوله حيث نسبوا كلامه وكلام رسوله إلى ما لا يليق به وظنوا به أسوأ الظن واعتقدوا أن ظاهره باطل ومحال وتشبيه وضلال فكيف يقبل أحكم الحاكمين وأعدل العادلين شهادة هؤلاء المتهوكين المتجبرين على حزبه وأنصاره وأنصار كتابه وسنة رسوله الذين قدموا كتابه وسنة رسوله على كل ما خالفهما ولم يقدموا ما خالفهما عليهما وتركوا الآراء الباطلة والمعقولات السخيفة لهما ولم يتركوهما لأجلها وقرروا بالعقل الصريح صحة ما جاء به الرسول ولم يقروا بالعقل الفاسد بطلان ما جاء به وأنه مخالف للعقل الصريح ورأوا أن اليقين كل اليقين مستفاد من كلام الله ورسوله ولم يقولوا إنه لا يستفاد منه علم ولا يقين ورأوا أن ما أخبر به عن أسمائه وصفاته وأفعاله حقيقة ولم يقولوا إنه مجاز لا حقيقة له فأي الفريقين أحق بالعلم والعدالة وقبول الشهادة عند الله وعند ملائكته وعند جميع المؤمنين وأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
الوجه السادس والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء أصلوا أصولا جعلوها أساسا لبنائهم وسموها قواطع عقلية وسموا أدلتها براهين يقينية فجاءت فروع تلك الأصول ولوازمها والبناء الذي ارتفع عليها من أبطل الفروع وأفسد اللوازم وأضعف البناء وأوهاه وذلك بين لكل ذي عقل سليم وفطرة صحيحة لم تفسد بالتقليد ولم تعم بالهوى والتعصب عن فساد تلك الأصول ومناقضتها للمعقول والمنقول وهذا موضع يستدعي عدة أسفار لكن نذكر منه أدنى تنبيه على طريق الاختصار يكون منبها على ما وراءه مثال ذلك أن المتفلسفة لما أصلوا أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بني على ذلك من اللوازم الباطلة في المصدر والصادر ما هو متضمن لأعظم أنواع الباطل.
أما المصدر فإنهم التزموا أن لا يكون فيه معنيان متغايران أصلا فنفوا عنه جميع الصفات إذ لو ثبت له صفة وجودية لم يكن عندهم واحدا وقد فرضوه واحدا من كل وجه فنفوا علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه واختياره ومشيئته وأن يكون فاعلا باختياره لشيء من العالم ونفوا علوه على خلقه ومباينته للعالم واستواءه على عرشه ولو ثبت له ذلك لكان جسما والأجسام مركبة فلم يكن واحدا من كل جهة.
ولزمهم من ذلك نفي ماهيته وذاته وأن يقولوا إنه لا ماهية له سوى الوجود المطلق إما بغير شرط أو بشرط الإطلاق ومن المعلوم أن المطلق لا وجود له في الخارج ولا سيما إذا أخذ بشرط الإطلاق.
فلزمهم من هذا الأصل نفي وجود الخالق سبحانه في الخارج وأن يكون وجوده ذهنيا لا خارجيا.
ولزمهم عنه لو صح لهم إثباته أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يميت ولا يحيي ولا يعلم شيئا ولا يرسل رسولا ولا يأمر ولا ينهى ولا يبعث من في القبور.
ولزمهم منه أن يكون هذا العالم قد وجد من غير خالق أو أنه لم يزل موجودا قديما أزليا ولما كان اللازم الأول أشنع وأظهر فسادا لكل عاقل التزموا الثاني.
وأما الباطل الذي لزمهم في جانب الصادر فهو أن يكون واحدا من كل وجه ولا يكون فيه كثرة بوجه ما ليس مصدره واحد كذلك فالصادر عنه أيضا يجب أن يكون كذلك وهلم جرا والحس يكذبه ولا ينفعهم الجواب بأن الصادر له وجوه واعتبارات لأجلها تعدد الصادر عنه فإن تلك الوجوه إن كانت وجودية لزم صدور الكثرة عن الوحدة وبطل أصلهم وإن كانت عدمية لم يكن مصدرا للموجود وهذا قاطع.
فصل ولما أصلوا هم وأتباعهم من الجهمية أن المختص بصفة أو حقيقة أو قدر لا بد له من تخصيص منفصل لزمهم من هذا الأصل إنكار حقيقته وذاته وصفاته إذ لو أثبتوا له ذلك بزعمهم لزم أن يكون له مخصص غيره خصصه بتلك الماهية والصفات والقدر فلزم أيضا من هذا الأصل الباطل ما لزم من الأصل الذي قبله وهم طردوا هذا الأصل وجحدوا حقيقة الرب وصفاته وإخوانهم من الجهمية لما لم يمكنهم أن يصرحوا به بين أظهر المسلمين صرحوا بالأصل وبما أمكنهم أن يصرحوا به من اللوازم كنفي الصفات ونفي العلو والمباينة والكلام والوجه واليدين والاستواء والنزول ولما أصلوا ذلك لزمهم القول بأنه في كل مكان بذاته وأنه تعالى في الأجواف والأمكنة التي يتعالى عنها فلما صاح عليهم أهل العلم والإيمان من كل قطر من أقطار الأرض قالوا نقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العرش ولا تحته فلما رأى عبادهم ومتصوفوهم أن الإرادة والعبادة والطلب لا تعلق بمعبود هذا شأنه وأن القلوب لا تعرفه والألسنة لا تعرفه فروا إلى أن قالوا فهو عين هذا العالم لا غيره وكل هذه اللوازم أسست على ذلك الأصل الفاسد.
ولما أصلوا أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بأجسام لزمهم إنكارها رأسا ومن أثبت منهم صفة ونفى غيرها أضحك أهل العقل والنقل على عقله ولما أصلوا هذا الأصل لزمهم عنه أن الله لم يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه ولم ينزل له إلى الأرض كلام تكلم به وإنما خلق أصواتا وحروفا في الريح سميت كلامه مجازا لا حقيقة فلما فهم سفهاؤهم هذا وأنه ليس لله في الأرض كلام وأنه ليس في المصحف إلا صفة المخلوقين ومدادهم وما عملت أيديهم صار فيهم من يكتب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } بما يستحي من ذكره ومنهم من يلقي المصحف في المكان الذي يرغب عن ذكره ويقول إنما ألقيت كاغدا ومدادا ومنهم من يجعله كرسيا له يضعه تحت رجليه ويرقى عليه ويتناول به حاجته ومنهم من يكون له وعاء يضع فيه المصحف ونعله وغيره ومنهم من يتوسده إلى غير ذلك من الأنواع التي فيها من الاستخفاف بالمصحف والإهانة له ما يدل على براءة فاعله من الله ورسوله وكتابه ودينه.
وأما إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة فهم لا يتحاشون منها بل يصرحون بقولهم أي شيء في المصحف سوى المداد والورق ويقولون ليس في المصحف كلام الله ولم ينزل إلى الأرض لله كلام وهذا الذي يقرأه المسلمون ليس بكلام الله حقيقة وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدة وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل.
كما أنهم لما أصلوا تعطيل الرب من صفة العلو وتعطيل العرش من استواء ربه عليه لزمهم التكذيب بما لا يحصى من الآيات والأحاديث وإن أقروا بألفاظها ولزمهم الطعن في خيار الأمة وساداتها وأئمة الإسلام وأهل السنة الحديث ولزمهم إنكار نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وإنكار مجيئه وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وإن أقروا بذلك أقروا به مجازا لا حقيقة ولزمهم من ذلك التكذيب بمعراج رسول الله ﷺ إلى ربه ودنوه منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى وتردده بين موسى وبين ربه مرارا كل ذلك لا حقيقة له عندهم كما صرح به أفضل متأخريهم وملك مناظريهم في كلامه على المعراج وجعله خيالا لا حقيقة له.
ولما أصلوا أنه سبحانه لا تقوم به الأفعال الاختيارية وسموا ذلك حلول الحوادث لزمهم عنه أنه لا يفعل شيئا البتة فإنه لا يتكلم بمشيئته وأن يكون بمنزلة الجمادات التي لا تفعل شيئا فإنهم جعلوا المفعول عين الفعل ومن المعلوم أن مفعولا بلا فعل أبلغ في الاستحالة والبطلان من مفعول بلا فاعل أو هما سواء فلزمهم من هذا الأصل مخالفة صريح المعقول والمنقول والفطرة والتكذيب بما لا يحصى من النصوص.
ولما أصلت القدرية أن الله سبحانه لو شاء أفعال عباده وقدر عليها وخلقها ثم كلفهم بها وعاقبهم عليها لكان ذلك ظلما ينافي العدل.
لزمهم عن هذا الأصل لوازم مخالفة للعقل والشرع منها التكذيب بقدر الله وتكذيب غلاتهم بعلمه السابق وإنكار كمال قدرته ونسبته إلى أن يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وإخراج أشرف ما في ملكه عن أن يكون قادرا عليه أو خالقا له وهو طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه وأن تكون أفعالهم حدثت من غير خالق محدث أو يكونوا هم الخالقين المحدثين لها وأن تكون إرادتهم مشيآت حادثة بلا محدث ولزمهم تكذيبهم بنصوص القدر كله والطعن في نقلة أخبارها وتحريفها عن مواضعها بالتأويلات التي هي كذب على اللغة وعلى الله وعلى رسوله إلى أضعاف ذلك من اللوازم الباطلة ولزم هؤلاء كلهم أن الكتاب والسنة جاءا بما يخالف العقل الصريح وأنه إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل وأطرح النقل فهذه الأصول الرديئة الخبيثة تولدت عنها هذه الأولاد المناسبة لها ومن أشبه أباه فما ظلم فإذا قابلت بين أصول أهل الإثبات وما تولد عنها وبين أصول المعطلة النفاة وما تولد عنها تبين لك الفرق بين هذه الأصول وفروعها وهذه الأصول وفروعها والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه السابع والتسعون بعد المائة: إن من تأمل أقوال هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم وآرائهم وجدها قد جمعت أمرين كل منهما يدل على بطلانها.
أحدهما اختلافها في نفسها واضطرابها وتهافتها وهذا يدل على أنها ليست من عند الله كما قال تعالى { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [33] فيكفيك من فساد القول اختلافه واضطرابه وتناقضه.
الثاني أن مصدرها الخرص والظن والتخمين ليست صادرة عن وحي علمت عصمته ولا عن فطرة وعقل اشترك العقلاء فيما أثبته ونفاه.
وقد أخبر سبحانه عن حقيقة أقوال المخالفين لكتابه وسنة رسوله بهذين الأمرين في قوله { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَة ٍ سَاهُونَ } [34] فأقسم سبحانه بمخلوقاته طبقا بعد طبق فأقسم أولا بالرياح الذاريات ثم بما فوقها وهي السحاب الحاملات وقرا ثم بما فوقها وهي النجوم الجاريات يسرا ثم بما فوقها وهي الملائكة المقسمات أمرا ثم أقسم بالسماء ذات الحبك وهي الطرائق التي هي كطرائق الماء حين تحركه الرياح ومنه في وصف الدجال شعره حبك أي فيه تجعد وتثن ومنه قوله في السماء موج مكفوف وهذا يتضمن حسنها وبهجتها وكمال خلقها. فأقسم بذلك على أن الرادين لما بعث به رسوله المعارضين له بعقولهم في قول مختلف ولهذا نجدهم دائما في قول مختلف لا يثبت لهم قدم على شيء يعولون عليه فتأمل أي مسألة أردت من مسائلهم ودلائلهم تجدهم مختلفين فيها غاية الاختلاف يقول هذا قولا وينقضه الآخر فيجيء الثالث فيقول قولا غير ذينك القولين وينقضهما ويبطل أدلتهما ولا تجد لهم مسألة واحدة إلا وقد اضطربوا فيها حكما ودليلا فهم أعظم الناس اختلافا حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدعي أنه قطعي ثم يقول خلافه ويبطله ويدعي أنه قطعي ثم أخبر سبحانه أن ذلك القول المختلف يؤفك عنه من أفك أي يصرف بشبه عن الحق من صرف فلما كان انصرافه عن الحق بشبه صار كأنه منفصل عنه وإفكه صادر عنه ثم قال تعالى { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } [35] وأصل الخرص القول بلا علم بل بالظن والتخمين والقذف بالكلام من غير برهان على صحته ومنه سمي الكاذب خارصا وصاحب الظن والتخمين خارصا وهذا الوصف منطبق على هؤلاء أتم انطباق فليس معهم إلا الخرص واتباع الظن كما قال تعالى في وصف سلفهم المعارضين لشرعه بالقدر { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [36] وهذا بخلاف متبع الوحي فإنه يتبع قولا يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض لا اختلاف فيه ولا اضطراب متصلا برب العالمين قوله ووحيه الذي نزله على رسوله قمصدره منه سبحانه ومظهره على لسان رسوله فعليه سبحانه البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم وقد فعل سبحانه ما عليه وفعل رسوله ما عليه فماذا نشأ بعد ذلك إلا أن نأتي بما علينا وبالله التوفيق.
الوجه الثامن والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء النفاة المعطلة لا بد لهم من أصل يقررون به قولهم الذي ابتدعوه وأصل ينفون به ما أخبرت به الرسل وهذا حال كل من وضع رأيا أو نصب مذهبا لا بد له من أصل يقرر به رأيه وأصل يبطل به قول مخالفه.
وعلى هذين الأصلين بنوا مذاهبهم الفاسدة فكلامهم كله يدور على هاتين القاعدتين فإذا تكلموا في توحيدهم الذي هو غاية الإلحاد والتعطيل والتشبيه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم كما قال حافظ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب خلق الأفعال وهو من أجل كتبه الصغار وهذا لفظه وقال بعض أهل العلم إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم لا يبصر نفسه والمقصود أن توحيدهم غاية التعطيل والتشبيه فإذا تكلموا فيه قرروه بالأصل الأول فإذا جاءوا إلى الكتاب والسنة قرروا نفي دلالتهما بوجوه أحدها: أن النصوص أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يقينا.
والثاني: أن الأخبار أخبار آحاد لا تفيد العلم وهذه المسائل علمية.
الثالث: أن العقل إذا عارض النقل وجب تقديم العقل عليه.
الرابع: استعمال التأويلات وأنواع الاستعارات والمجازات في نصوص الصفات وقد أوصاهم سلفهم بكلمتين يتداولونها عنهم آخر عن أول قالوا إذا احتج عليكم أهل الحديث بالقرآن فغالطوهم بالتأويل وإذا احتجوا بالأخبار فقابلوها بالتكذيب.
وإذا مهدوا هذين الأصلين انبنى لهم عليهما أصلان آخران أدهى منهما وأمر التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإساءة الظن به وتسليط التحريف عليه والتصديق بالباطل الذي يسمونه قواطع عقلية وصدقوا وكذبوا فهي قواطع ولكن عن الإيمان بالله ورسوله وأسماء الرب وصفاته وهي خيالات جهلية شبهت عليهم فظنوها قواطع عقلية.
وترتب لهم على هذين الأصلين أصلان آخران تلقيب الحق المنزل وأصحابه بالألقاب الشنيعة المنفرة كتلقيبه بالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب.
وتلقيب الآخذين به بالمشبهة والمجسمة والحشوية وتلقيب الكفر والضلال والإلحاد بالألقاب المستحسنة كالتوحيد والتنزيه والعدل وتلقيب أصحابه بالموحدين أهل العدل والتوحيد والتنزيه.
فرتب لهم على ذلك أصلان آخران الإعراض عن القرآن والسنة جملة ومعارضتهما بآراء الرجال وعقولهم الفاسدة المتهافتة المتناقضة.
ثم ترتب لهم على ذلك أصلان آخران معاداة أهل الحق وموالاة أهل الباطل وبقي أمران آخران إنما يظهران إذا بعث ما في القبور وحصل ما في الصدور هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون.
الوجه التاسع والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء المعطلة النفاة من الجهمية ومن اتبعهم لا يمكن على أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها محبة الله ولا مدحه ولا حمده وتمجيده والثناء عليه ولا الرضى به ولا الابتهاج بقربه ولا الفرح به ولا اللذة العظمى برؤية وجهه ولا لذة الآذان والأرواح بسماع كلامه بل ولا الشوق إليه ولا الأمان ولا الطمأنينة به وإليه ولا الأمن من عذابه لهم بغير جرم أصلا ومن إبطاله أعمالهم الصالحة بغير سبب بل أعظم من ذلك أنهم سدوا على أنفسهم طريق العلم بإثباته وإثبات ربوبيته إلا بما ينافي صفاته وأفعاله فليس لهم طريق إلى إثبات ذاته إلا بما يستلزم نفي ذاته وصفاته وأفعاله وسدوا علىأنفسهم طريق العلم بصدق رسله بتجويزهم عليه كل شيء حتى إنه يجوز عليه تأييد الكاذب المفتري عليه بأعظم المعجزات وليس في العقل ما يحيل ذلك عندهم وسدوا على أنفسهم طريق العلم بالمعاد لأنهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد ولا حقيقة له وهذه جملة إنما يظهر تفصيلها عند الكلام على مسائلهم ودلائلهم.
أما محبة الرب سبحانه فإنهم صرحوا بأنه لا يحب ولا يحب واستدلوا على ذلك بما هو مناقض للفطرة والعقل والشرائع كما سنذكره إن شاء الله وأصل الدين هو كونه سبحانه يحب ولا يحب فإن الشرائع مبناها على شهادة أن لا إله إلا الله والإله هو المستحق لكمال الحب بكمال التعظيم والإجلال والذل له والخضوع له فإنكار المحبة إنكار لنفس الإلهية وأما فروعها فمبناها على كونه سبحانه يحب أقوالا وأعمالا ويمدح فاعليها ويثني عليهم ويقربهم منه ويبغض أقوالا وأعمالا ويذم فاعليها ويبغضهم ويبعدهم منه وعنده أنه لا يحب ولا يبغض بل كل ما شاءه فهو محبوب له ومالم يشأه فهو مبغوض فإن محبته عندهم هي إرادته ولهذا قالوا لا يحبه أحد لأن المحبة نوع من الإرادة والقديم لا يمكن أن يراد وأما أنه لا يمدح ولا يحمد فلما قرروا أن المدح هو مجرد الإخبار عن استحقاق الممدوح ما يلتذ به ويفرح به واللذة والألم عليه محال كما سنذكر ألفاظهم بعد هذا الوجه والكلام عليها.
وأما الرضا به والابتهاج والسرور بقربه فذلك من توابع المحبة وعندهم أنه لا يمكن تعلق المحبة به بوجه وأما اللذة برؤية وجهه وسماع كلامه فليس له عندهم وجه ولا يرى بحال ولا يكلم ولا يمكن أن يتكلم وأما الإنابة إليه فأصل الإنابة محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد فمن لا يحب لا يمكن الإنابة إليه وكذلك الفرح والسرور بقربه عندهم أنه أمر محال. وأما الطمأنينة به والأمن من عذابه بغير جرم فلا طريق لهم إلى ذلك لأنهم يجوزون عليه أن يعذب أعظم أهل طاعته وينعم أكفر الخلق به وكلاهما بالنسبة إليه سواء عندهم وإنما يعلم ضد ذلك بخبر صادق والأدلة اللفظية عندهم لا تفيد اليقين وكثير منهم يشك في العموم أو ينكره والقدرة صالحة ولا حسن ولا قبح هناك البتة.
وأما طريق العلم بإثباته فإنهم إنما أثبتوه بطريق الجواهر والأعراض والحركة والسكون وأن ما قامت به الأعراض والحوادث يجب أن يكون حادثا فلزمهم نفي جميع صفاته وأفعاله إذ لو أثبتوها بزعمهم لأفسد عليهم طريق إثباته والعلم به ولزمهم إنكار علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه وأن يكون له كلام يسمع منه فضلا أن ينزل إلى الأرض ومن استهجن منهم هذا ارتكب التناقض وأثبت بعضها ونفى بعضا ولم يوف ما أثبته حقه بل نفى حقيقته وأثبت لفظه أو أثبته من وجه ونفاه من غيره أو أثبت منه مالا يعقل فهم سلكوا في طريق إثبات وجوده أعظم الطرق المنافية لوجوده فضلا عن ثبوت صفات كماله وأفعاله.
وأما طريق العلم بالنبوة فإنهم أصلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكن وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات وأنه لا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها فإن العقل لا يقبل ذلك ولا يحسن هذا وليس إلا مجرد القدرة والمشيئة فلما أورد عليهم العقلاء أن هذا يسد طريق العلم بالنبوة عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة وقالوا هذا يلزمنا ويلزمكم فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم وإن وجب بالعقل لكن وجوبه نظري فالمكلف يقول لا أنظر حتى يجب علي ولا يجب علي حتى أنظر فسددتم على أنفسكم طريق إثبات النبوة فانظر كيف آل أمر الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين فأبعد الله أصولا وقواعد هذا حاصلها ورأس مال أصحابها أفلا يستحي من هذا حاصل معقوله وعلمه ومنتهى معرفته أن يذكر أنصار الله ورسوله وحزبه بما لا يليق أو ينسبهم إلى ما هو أولى به منهم من الجهل ومخالفة المعقول والمنقول وهذا موضع المثل الساير رمتني بدائها وانسلت وقد تقدم ما ذكره إمام أهل السنة محمد بن إسماعيل البخاري عن بعض أهل العلم أن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا الله سبحانه بالأصنام والموات ومما يوضح الأمر
الوجه الموفي مائتين وجها: وهو أن هؤلاء كما وضعوا قانونا أصلوه لنفي كلامه وسمعه وبصره ومباينته لخلقه واستوائه على عرشه ومجيئه لفصل القضاء بين عباده ورؤية أنبيائه وأوليائه له في دار الكرامة بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب وحلول الحوادث وضعوا قانونا آخر يتضمن نفي ما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والمحبة والمودة والحنان والغضب والرضى والفرح والضحك والتعجب قالوا لأن هذه الأمور مضتمنة للألم واللذة والله سبحانه منزه عن ذلك قالوا ولأنها تستلزم الشهوة والنفرة وهو سبحانه منزه عنهما.
فانظر كيف توصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من هذه الأمور بهذه الألفاظ المجملة المتشابهة المتضمنة للحق والباطل فهي ذات وجهين حق وباطل فتقبل من الوجه الحق وترد من الوجه الباطل فلفظ الشهوة واللذة والألم والنفرة من الألفاظ التي فيها إجمال وإبهام فكثير من الناس إنما يطلقها بإزاء شهوة الحيوان من الأكل والشرب والنكاح والله تعالى قد جعل الباعث على إتيان الذكور الشهوة المجردة لا الحاجة إلى ذلك فإن الله لم يحرم على عباده ما يحتاج العباد إليه ويطلق الشهوة بإزاء ما هو أعم من ذلك كشهوة الجاه والمال والعز والنصر والعلم قال الإمام أحمد محمد بن إسحاق صاحب حديث يشتهى حديثه وقد قال تعالى في الجنة { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ } [37] وهذا يعم كل ما تشتهيه الأنفس من مأكول ومشروب ومسموع ومرئي وغيره.
وتطلق الشهوة على الإرادة نفسها فيقال لمن له إرادة في الشيء ومحبة له هو يشتهيه كما يقال فلان يشتهي لقاء فلان ويشتهي قربه ويشتهي الحج بل يقال لمن يريد ما تكره نفسه لمصلحة أنه يشتهيه كما يقال فلان يشتهي الشهادة في سبيل الله ويشتهي شرب الدواء.
فنقول أتعنون بالشهدة التي نفيتموها عن الله الشهوة الحيوانية أم الشهوة التي هي أعم أم الإرادة والمحبة فإن أردتم الأول فنفيه حق ودعواكم لزومه من ما أثبته لنفسه من الفرح والرضى والضحك ونحوها باطلة تتضمن الكذب والتلبيس.
وإن أردتم الثالث فنفيه باطل وتوسلكم إلى نفيه بتسميته شهوة تلبيس وتدليس ونفي للمعنى الحق الثابت بتسميته بالاسم المستهجن في حق من وصف به.
وإن أردتم الثاني استفصلناكم عن مرادكم فإن فسرتموه بما يمتنع وصفه به قبلناه وإن فسرتموه بما وصف به نفسه قابلناه بالإنكار والرد وإن فسرتموه بأمر مجمل محتمل استفصلناه فقبلنا حقه ورددنا باطله.
وهؤلاء النفاة تجدهم دائما يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه فيأتون إلى ألفاظ معناها في اللغة الغربية أخص من معناها في اصطلاحهم فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه ويوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها المعروف في اللغة والناس أول ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها معناها اللغوي فيوافقونهم على النفي تعظيما لله وتنزيها له ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه وقد جمعوا في ذلك تحريف لغة العرب عن مواضعها وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات.
فمعرفة مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدين ليتمكن أهل السنة والحديث من رد باطلهم وتبيين إفكهم وقد أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود فكان يكتب له كتبهم ويقرأ له كتبهم وسأل رجل عبد الله بن عمر عن الأنبذة وقال أخبرني عنها بلغتكم وفسرها لي بلغتنا فإن لكم لغة ولنا لغة فذكرها ابن عمر باللفظ الذي قاله النبي ثم فسرها بلغة السائل.
فنقول أنتم في هذا المقام إنما نظركم في المعاني العقلية لا في إطلاق الألفاظ فإن أهل السنة والحديث أعلم بذلك منكم وأولى بمراعاة الألفاظ الشرعية وهم أبعد عن أن يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله منكم فما مقصودكم من نفي الشهوة والنفرة واللذة والألم عنه إن عنيتم به ما هو من خصائص المخلوقين فلا ريب في انتفائه عنه سبحانه لأن كماله المقدس ينفيه فإثباته نقص وعيب وأنتم قد اعترفتم أنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن العيوب والنقائص وإنما استندتم فيه إلى الإجماع واعترفتم بأن دلالته ظنية وهذا موجود في إرشادكم ونهايتكم وغيرها ونحن نقرر نفي ذلك بالأدلة القطعية والبراهين اليقينية فإنه سبحانه لا يجوز أن يماثل خلقه في شيء من صفاتهم وأفعالهم فهو منزه عن أن يطلب ما يقبح طلبه أو يريد ما لا يحسن إرادته أو يطلب ويكره ويحب ما لا يصلح طلبه وكراهته ومحبته إلا للمخلوق وكل ما ينزه سبحانه عنه من العيوب والنقائص فهو داخل فيما نزه نفسه عنه وفيما يسبح به ويقدس ويحمد ويمجد وداخل في معاني أسمائه الحسنى وبذلك كانت حسنى أي أحسن من غيرها فهي أفعل تفضيل معرفة باللام أي لا أحسن منها بوجه من الوجوه بل لها الحسن الكامل التام المطلق وأسماؤه الحسنى وآياته البينات متضمنة لذلك ناطقة به صريحة فيه وإن ألحد فيها الملحدون وزاغ عنها الزائغون.
وقد بينا فيما تقدم أن كل ما ينزه الرب عنه إن لم يكن متضمنا لإثبات كماله ومستلزما لأمر ثبوتي يوصف به لم يكن في تنزيهه عنه مدح ولا حمد ولا تمجيد ولا تسبيح إذ العدم المحض كاسمه لا حمد فيه ولا مدح وإنما يمدح سبحانه بنفي أمور تستلزم أمورا هي حق ثابت موجود يستحق الحمد عليها وذلك الحق الموجود ينافي ذلك الباطل المنفي فيستدل برفع أحدهما على ثبوت الآخر فتارة يستدل بثبوت تلك المحامد والكمالات على نفي النقائص التي تنافيها وتارة يستدل بنفي تلك النقائص على ثبوت الكمالات التي تنافيها فهو سبحانه القدوس السلام كما قال { تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلا نَوْمٌ } [38] لكمال حياته وقيوميته و { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ } [39] لكمال علمه { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [40] لكمال قدرته { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [41] لكمال عدله وغناه ورحمته و { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [42] لكمال علمه وحفظه { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [43] لكمال قدرته وقوته { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [44] و { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [45] لكمال صمديته { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [46] لتفرده بالكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ } [47] لكمال عزته وسلطانه { وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا } [48] فنفى عن نفسه خوف عاقبة ما فعله من إهلاك أعدائه بخلاف المخلوق فإنه إذا انتقم من عدوه يخاف عاقبة ذلك إما من الله وإما من المنتصرين لعدوه وذلك على الله محال والخوف يتضمن نقصان العلم والقدرة والإرادة فإن العالم بأن الشيء لا يكون لا يخافه والعالم بأنه يكون ولا بد قد يئس من النجاة منه فلا يخاف وإن خاف فخوفه دون خوف الراجي وأما نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه فإذا تيقن أنه قادر على دفعه لم يخفه.
وأما نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوف بدون مشيئته واختياره وذلك محال في حق من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير ومن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه فإن هذه الصفات لا تستلزم نقصا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته بل هي كمال لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه وكلما كان العلم بحاله أهم كانت كراهته وبغضه أقوى ولهذا يشتد غضبه سبحانه على من قتل نبيه أو قتله نبيه.
فصل وإن قال أعني بذلك ما هو أعم من شهوة الحيوان وألمه ولذته ونفرته قيل له الشهوة والنفرة جنسهما الحب والبغض فكل مشته لشيء فهو محب له وكل نافر عن شيء فهو مبغض له وإن كان في المحبة والبغض ما لا يسمى في لغة القوم شهوة ونفرة كمحبتنا لله ورسوله وإذا كان كذلك فمعلوم أن الله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والبغض في غير موضع من كتابه وسنة رسوله وهو موصوف بالإرادة والكراهة المتضمنة للحب والبغض والشهوة والنفرة أيضا تتضمن معنى الإرادة والكراهة فإن المشتهي فيه نوع إرادة والنافر فيه نوع كراهة والإرادة والكراهة من لوازم الحياة فكل حي مريد كاره والشهة والنفرة من لوازم الحيوان فإنه يشتهي ما يتضمن بقاء ذاته ويلائمه وينفر من ضد ذلك.
وهذه الأسماء قد تتنوع إما بحسب صفاتها في أنفسها وإما بحسب متعلقها وهو المحبوب المكروه لما في لغة العرب من التفريق بين اللفظين لأدنى فرق بين المعنيين لقوة التمييز في عقولهم وألسنتهم بخلاف الأمم الذين يضعف فيهم التمييز فإنهم يغلب عليهم الاقتصار على القدر المشترك في العقل واللسان وثبوت تلك الفروق اللفظية في المعاني والألفاظ لا يمنع ثبوت القدر المشترك بينها والذي تدركه سائر الأمم فيجب إثبات القدر المشترك والقدر المميز.
وإذا كان بين الشهوة والمحبة والإرادة والرضى والفرح قدر مشترك وبين النفرة والبغض والكراهة والسخط ونحوها قدر مشترك فمن نفى مسمى أحد هذه الألفاظ فإن عنى به نفي جميع مسماه لزم نفي القدر المشترك الثابت في البواقي وإن نفى ما يختص به مما هو من خصائص المخلوقين فقد أصاب والله سبحانه منزه في جميع ذلك إن أثبت له وإن نفي عنه شيء من ذلك مما هو مختص به لأجل ما يظنه مستلزما لنقص فذلك لازم له في جميع ما يوصف به فإنه سبحانه إنما يوصف من كل نوع بأكمل ذلك النوع على وجه لا يستلزم نقصا ولا تمثيلا.
فصل يبين ذلك أن الحب والبغض من لوازم الحياة فلا يكون حي إلا محب مبغض كما لا يكون حي إلا وله علم وإرادة وفعل بل حب الله سبحانه لما يحبه وبغضه لما يبغضه وإرادته لما يريده وكراهته لما يكرهه أكمل الحب والبغض والإرادة والكراهة كما قال تعالى { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [49] وقال تعالى { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } [50] وهذا تابع لشدة غضبه ومقته وقال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً } [51] وكذلك هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين فهو أكبر في كل صفة من صفاته كما هو أكبر في جميع صفاته وذاته وأفعاله.
فصل وقد ذكر أفضل متأخريهم أدلتهم على امتناع هذه الأمور على الله وأبطلها كلها فكفانا مؤنتها ثم اختار لنفسه مسلكا هو أبطل منها فقال والمعتمد أن نقول لو صحت اللذة على الله تعالى لكان خلقه للملتذ به إما أن يكون في الأزل أو لا يكون والقسمان باطلان فالقول بصحة اللذة على الله محال وإنما قلنا إنه لا يصح خلقه للملتذ به في الأزل لأن الفعل الأزلي محال وإنما قلنا يستحيل أن يكون حادثا لأنه إذا كان حادثا كان ممكنا قبل كونه وإلا كان ممتنعا ثم انقلب إلى الإمكان وهو محال وإذا كان ممكنا فالله قادر على إيجاده قبل ذلك وإلا كان منتقلا من القدرة إلى العجز وهو محال وإذا ثبت ذلك.
فنقول كل من صحت عليه اللذة إذا كان عالما بقدرته على تحصيل الملتذ به وكان الملتذ به في نفسه ممكنا فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد الملتذ به وإذا كان كذلك لزم كونه تعالى فاعلا للملتذ به قبل فعله وذلك محال فثبت أن القول بصحة اللذة على الله محال لأنه يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال محال ومضمون هذه الحجة بعد تطويل مقدماتها أن جواز ذلك عليه مستلزم لكون الملتذ به حادثا وكونه متقدما على حدوثه وكون الشيء متقدما على وجوده محال وفسادها بين من وجوه:
هامش
- ↑ [الذاريات58]
- ↑ [يونس60]
- ↑ [البروج15، 14]
- ↑ [الأنفال7]
- ↑ [الزمر56]
- ↑ [العنكبوت10]
- ↑ [يس77]
- ↑ [يس78]
- ↑ [القمر49، 48]
- ↑ [الحج22، 19]
- ↑ [الحج24، 23]
- ↑ [طه71]
- ↑ [القصص38]
- ↑ [الشعراء29]
- ↑ [المائدة 64]
- ↑ [التوبة 32]
- ↑ [محمد26، 25]
- ↑ [السناء141]
- ↑ [آل عمران165]
- ↑ [الشورى30]
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [التوبة 47]
- ↑ [النحل40]
- ↑ [النساء164]
- ↑ [سبأ23]
- ↑ [الروم3-1]
- ↑ [آل عمران169]
- ↑ [الأعراف54]
- ↑ [الزخرف84]
- ↑ [السجدة 5]
- ↑ [الملك17]
- ↑ [البقرة 143]
- ↑ [النساء82]
- ↑ [الذاريات11-1]
- ↑ [الذاريات10]
- ↑ [الأنعام116]
- ↑ [الزخرف71]
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [سبأ3]
- ↑ [ق38]
- ↑ [الكهف49]
- ↑ [طه52]
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [الأنعام14]
- ↑ [الإخلاص3]
- ↑ [الإخلاص4]
- ↑ [الإسراء111]
- ↑ [الشمس15]
- ↑ [غافر10]
- ↑ [النساء84]
- ↑ [فصلت15]