الرئيسيةبحث

الصواعق المرسلة/الفصل الثالث

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة
الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء
ابن قيم الجوزية


الفصل الثالث
في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء


فهذا الموضع مما يغلط فيه كثير من الناس غلطا قبيحا فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا كان إخبارا بالذي عناه المتكلم فإن لم يكن هذا الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة.

منها أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ولا تبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له.

كقوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [1] "وإنكم ترون ربكم عيانا كماترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب"، و "الله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأيس منها فنام ثم استيقظ فإذا راحلته عند رأسه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته" فهذا مما يقطع السامع فيه بمراد المتكلم فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة له كان صادقا في إخباره وأما إذا تأول كلامه بما لم يدل عليه لفظه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه. فقول القائل يحمل اللفظ على كذا وكذا يقال له ما تعني بالحمل أتعني به أن اللفظ موضوع لهذا المعنى فهذا نقل مجرد موضعه كتب اللغة فلا اثر لحملك أم تعني به اعتقاد أن المتكلم أراد ذلك المعنى الذي حملته عليه فهذا قول عليه بلا علم وهو كذب مفترى إن لم تأت بدليل يدل على أن المتكلم أراده أم تعني به أنك أنشأت له معنى فإذا سمعته اعتقدت أن ذلك معناه وهذا حقيقة قولك وإن لم ترده فالحمل إما أخبار عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى فهذا الخبر إما صادق إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم وإما كاذب إن كان لفظه لم يدل عليه وإما إنشاء لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى وهذا إنما يكون في كلام تنشئه أنت لا في كلام الغير.

وحقيقة الأمر أن قول القائل نحمله على كذا أو نتأوله بكذا إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ على ما وضع له فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه وقال أحمله على خلاف ظاهره.

فإن قيل بل للحمل معنى آخر لم تذكروه وهو أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ولا يمكن تعطيله استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد فحملناه عليه دلالة لا ابتداء وإنشاء.

قيل فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده وهو إما صدق أو كذب كماتقدم ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده بل يقترن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك كما في المعاريض التي يجب أو يسوغ تعاطيها ولكن المنكر غاية الإنكار أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده فالخطاب نوعان نوع يقصد به التعمية على السامع ونوع يقصد به البيان والهداية والإرشاد فإطلاق اللفظ وإرادة خلاف حقيقته وظاهره من غير قرائن تحتف به تبين المعنى المراد محله النوع الأول لا الثاني والله أعلم.

هامش

  1. [النساء164]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة