→ الفصل العاشر | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى ابن قيم الجوزية |
الفصل الثاني عشر ← |
لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم بكلامه وتبيينه له ما في نفسه من المعاني ودلالته عليها بأقرب الطرق كان ذلك موقوفا على أمرين: الأول: بيان المتكلم، الثاني: ولكن السامع من الفهم فإن لم يحصل البيان من المتكلم أو حصل له ولم يتمكن السامع من الفهم لم يحصل مراد المتكلم فإذا بين المتكلم مراده بالألفاظ الدالة على مراده ولم يعلم السامع معنى تلك الألفاظ لم يحصل له البيان فلا بد من تمكن السامع من الفهم وحصول الإفهام من المتكلم فحينئذ لو أراد الله ورسوله من كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لكان قد كلفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه بل بما يدل على نقيض مراده وأراد منه فهم النفي بما يدل على غاية الإثبات وفهم الشيء بما يدل على ضده وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إله يعبد ولا إله يصلى له ويسجد وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه بقوله { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [1] قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [2] وأراد النبي إفهام أمته هذا المعنى بقوله: "لا تفضلوني على يونس بن متى" وأراد إفهام كونه خلق آدم بقدرته ومشيئته بقوله { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [3] وأراد إفهام تخريب السموات والأرض وإعادتها إلى العدم بقوله: "يقبض الله سماواته بيده اليمنى والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك" وأراد إفهام معنى من ربك ومن تعبد بقوله أين الله واشار بإصبعه إلى السماء مستشهدا بربه وليس هناك رب ولا إله وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قوله وقولهم وأراد بالإشارة بإصبعه بيان كونه قد سمع قولهم وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة. كقول بعضهم في معنى قوله عامل رسول الله ﷺ أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع إن معناه ضرب عليهم الجزية وهذا كذب على اللفظ وكذب على الرسول فإنه ليس ذلك معنى اللفظ وأهل خيبر لم يضرب عليهم الجزية لأنه صالحهم وفتحها قبل نزول فرض الجزية.
وكتأويل بعضهم قوله: "لا تحرم المصة والمصتان" أن المراد به التقام الثدي من غير ارتضاع اللبن ودخوله إلى جوفه إلى أضعاف أضعاف ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامع قطعا أنها لم ترد بالخطاب بقصد المتكلم لها بتلك الألفاظ الدالة على نقيضها من كل وجه فلا يجامع قصد البيان والدلالة.
قال شيخ الإسلام إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يوجد ما يقولونه في الكتاب والسنة وكلام القرون الثلاثة المعظمة على سائر القرون ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام المقتدى بهم بل ما في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة يوجد دالا على خلاف الحق عندهم إما نصا وإما ظاهرا بل دالا عندهم على الكفر والضلال لزم من ذلك لوازم باطلة منها
الأول: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التسبيه والتمثيل.
الثاني: ومنها أن يكون قد نزل بيان الحق والصواب لهم ولم يفصح به بل رمز إليه رمزا وألغزه إلغازا لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد.
الثالث: ومنها أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.
الرابع: ومنها أن يكون دائما متكلما في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب تارة بأنه استوى على عرشه وتارة بأنه فوق عباده وتارة بأنه العلي الأعلى وتارة بأن الملائكة تعرج إليه وتارة بأن الأعمال الصالحة ترفع إليه وتارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده وتارة بأنه رفيع الدرجات وتارة بأنه في السماء وتارة بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وتارة بأنه فوق سمواته على عرشه وتارة بأن الكتاب نزل من عنده وتارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وتارة بأنه يرى بالأبصار عيانا يراه المؤمنون فوق رؤوسهم إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد فقط ما هو الصواب فيه لا نصا ولا ظاهرا ولا يبينه.
الخامس: ومنها أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا الشأن العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان وذلك إما جهل ينافي العلم وإما كتمان ينافي البيان ولقد أساء الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولد من بينهما جهل الحق وإضلال الخلق ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصا وظاهرا ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصا ولا ظاهرا وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات وطلبوا له مستكره التأويلات.
السادس: ومنها أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ولم تكن الحقائق من شأنهم.
السابع: ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقينا ولا علما بما يجب لله ويمتنع عليه إذ ذاك وإنما يستفاد من عقول الرجال وآرائها.
فإن قيل: استفدنا منها الثواب على تلاوتها وانعقاد الصلاة بها قيل هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهدى به علما وعملا ويبصر من العمى ويرشد من الغي ويعلم من الجهل ويشفي من الغي ويهدي إلى صراط مستقيم وهذا القصد ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز والأحاجي فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبدا وبالله التوفيق. ومما يبين ذلك أن الله تعالى وصف كتابه بأوضح البيان وأحسن التفسير فقال تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [4] وقال { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَة ً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [5] فأين بيان المختلف فيه والهدى والرحمة في ألفاظ ظاهرها باطل والمراد منها يطلب بأنواع التأويلات المستنكرة المستكرهة لها التي يفهم منها ضدها وقال تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [6] فأين يبين الرسول ما يقوله النفاة والمتأولون وقد قال تعالى { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [7] فأخبر أنه يقول الحق ويهدي السبيل بقوله وعند النفاة إذا حصلت الهداية بأبكار أفكارهم ونتائج آرائهم وعقولهم وقال تعالى { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [8] وقال { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [9] وعند النفاة المخرجين لنصوص الوحي عن إفادة اليقين إنما حصل له الإيمان بالحديث الذي أسسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم فبه آمنوا وبه اهتدوا وبه عرفوا الحق من الباطل وبه صحت عقولهم ومعارفهم وقال تعالى { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [10] وأنت لا تجد الاختلاف في شيء أكثر منه في آراء المتأولين وسوانح أفكارهم وزبالة أذهانهم التي يسمونها قواطع عقلية وبراهين يقينية وهي عند التحقيق خيالات وهمية وقوادح فكرية نبذوا بها القرآن والسنة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [11]
هامش