→ العشر السادسة عشر | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر السابعة عشر ابن قيم الجوزية |
العشر الثامنة عشر ← |
فصل الطريق الرابع عشر (الوجه الحادي و الستون بعد المائة ): وهو أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا في العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان إنكار العقل للأول أعظم وامتناعه فيه أظهر من إنكاره للثاني وامتناعه فيه فإن كان حكم العقل في الأول مقبولا وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول ولا يمكن العقل الصريح أن يقبل الأول ويرد الثاني أبدا.
فصل الطريق الخامس عشر (الوجه الثاني و الستون بعد المائة ): أنه سبحانه لو لم يقبل الإشارة الحسية إليه كا أشار إليه النبي حسا بإصبعه بمشهد الجمع الأعظم وقبل ممن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية إليه فإما أن يقال إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط أولا يقبلها أيضا كما لا يقبل الحسية فإن لم يقبل هذه ولا هذه فهو عدم محض بل العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية وإن قيل يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية لزم أن يكون معنى من المعاني لا ذاتا خارجية وهذا مما لا حيلة في دفعه فمن أنكر جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين إما أن يجعله معدوما أو معنى من المعاني لا ذاتا قائمة بنفسها.
فصل الطريق السادس عشر (الوجه الثالث و الستون بعد المائة ): إن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فروا من القول بعلو الله فوق المخلوقات واستوائه على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنهم لا يمكنهم إثبات الصانع إلا بنوع من التشبيه والتمثيل ونحن لا نحيلك على عدم بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوة إلى مكانها. قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالعدم الوجه العاشر لو كان العالم محدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه أو مخالفا له من كل وجه أو مماثلا له من وجه ومخالفا له من وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث له ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف العرض وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون موجدا للموجود وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه محدثا للعالم قال والجواب عن هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجهة أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القدم والحدوث وإنما تماثلا بأمر آخر وهذا كالسواد والبياض يختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية والكونية والحدوث واستحالة تماثلهما من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية فيقال يالله العجب هلا طردتم هذا الجواب وسلكتم هذا الطريق في إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وإثبات صفات كماله كلها وإثبات الصفات الخبرية كلها وأجبتم بهذا الجواب لمن قال لكم من المعطلة النفاة لو كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات وهلا تقنعون من أهل السنة المثبتين لصفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على مخلوقاته واستوائه على عرشه بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم بل إذا أجابوكم به قلبتم لهم ظهر المجن وصرحتم بتكفيرهم وتبديعهم وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم موحدين ناصرين لله ورسوله.
فصل الطريق السابع عشر (الوجه الرابع و الستون بعد المائة ): أن يقال هل للرب تعالى ماهية متميزة على سائر الماهيات يختص بها لذاته أم تقولون لا ماهية له فإن قلتم بالثاني كان هذا إنكارا له سبحانه وجحودا وجعله وجودا مطلقا لا ماهية له وإن قلتم بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الماهيات قيل لكم ماهيته وذاته سبحانه غير متناهية بل ذاهبه في الأبعاد إلى غير نهاية أم متناهية فإن قلتم بالأول لزم منه محالات غير واحدة وإن قلتم بالثاني بطل قولكم ولزم إثبات المباينة والجهة وهذا لا محيد عنه وإن قلتم لا نقول له ماهية ولا ليست له ماهية قيل لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلا هذا المحال والباطل وإن قلتم بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الماهيات ولا نقول إنها متناهية ولا غير متناهية لأنها لا تقبل واحدا من الأمرين قلنا التناهي وعدم التناهي يتقابلان تقابل السلب والإيجاب فلا واسطة بينهما كما لا واسطة بين الوجود والعدم والقدم والحدوث والسبق والمقارنة والقيام بالنفس والقيام بالغير وتقدير قسم آخر لا يقبل واحدا من الأمرين تقدير ذهني يفرضه الذهن كما يفرض سائر المحالات ولا يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه ألا ترى أن قائلا لو قال التقسيم يقتضي المعلوم إما قديم وإما حادث وإما قديم حادث وإما لا قديم ولا حادث وكذلك إما أن يكون متناهيا أو غير متناه أو متناهيا ولا غير متناه أو قائما بنفسه أو بغيره أو بنفسه وبغيره أولا بنفسه ولا بغيره أو داخلا في العالم أو خارجا عنه أو داخلا خارجا أو لا داخلا ولا خارجا كان ذلك كله بمنزلة واحدة وكان التقسم تقسيما ذهنيا لا خارجيا وإن سلب النقيضين في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين.
فصل الطريق الثامن عشر (الوجه الخامس و الستون بعد المائة ): أن يقال ذاته سبحانه إما أن تكون قابلة للعلو على العالم أو لا تكون قابلة فإن كانت قابلة وجب وجود المقبول لأنه صفة كمال وإلا لم يقبله ولأن قبولها لذلك هو من لوازمها لقبول الذات للعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر فوجود هذه لازم للذات ضرورة ولأنها إذا قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت بضده وهو نقص يتعالى ويتقدس عنه وإن لم تكن قابلة للعلو لزم أن يكون قابل العلو أكمل منها لأن ما يقبل أن يكون عاليا وإن لم يكن عاليا أكمل ممن لا يقبل العلو وما قبله وكان عاليا أكمل ممن قبله ولم يكن عاليا فالمراتب ثلاث أدناها مالا يقبل العلو وأعلاها ما قبله واتصف به والذي يوضح ذلك أن مالا يقبل أن يكون فوق غيره إما أن يكون عرضا من الأعراض لا يقوم بنفسه ولا يقبل أن يكون عاليا على غيره وإما أن يكون أمرا عدميا لا يقبل ذلك وإما إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها فهذا يطالب بإمكان تصوره قبل التصديق بوجوده وليس مع من ادعى إمكانه إلا الكليات والمجردات وكلاهما وجوده ذهني لا وجود له في الخارج وإلا فما له وجود خارجي وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر الذوات موصوف بصفات الحي الفعال لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات ذهنية لا أمور خارجية وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو في الأذهان لا في الأعيان.
فصل الطريق التاسع عشر (الوجه السادس و الستون بعد المائة ): إن الجهمية المعطلة معترفون بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو القدر وإن ذلك كمال لا نقص فإنه من لوازم ذاته فيقال ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو فأحد الأمرين لازم لكم ولا بد إما أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل جهة ذاتا وقهرا وقدرا وإما أن تنفوا ذلك كله فإنكم إذا نفيتم علو ذاته سبحانه بناء على لزوم التجسيم وهو لازم لكم فيما أثبتموه من وجهي العلو فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرا من غيرها إن لم يعقل كونها غير جسم لزمكم التجسيم وإن عقل كونها غير جسم فكيف لا يعقل أن تكون الذات العالية على سائر الذوات غير جسم وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم من ذلك العلو فإن قلتم لأن هذا العلو يستلزم تميز شيء عن شيء منه قيل لكم في العلم أو في الخارج فإن قلتم في الخارج كذبتم وافتريتم وأضحكتم عليكم المجانين فضلا عن العقلاء وإن قلتم في الذهن فهذا لازم لكل من أثبت للعالم ربا خالقا ولا خلاص من ذلك إلا بإنكار وجوده رأسا يوضحه.
فصل الطريق العشرون (الوجه السابع و الستون بعد المائة ): إن الفلاسفة لما أوردوا عليكم هذه الحجة بعينها في نفي الصفات أجبتم عنها بأن قلتم واللفظ للرازي في نهايته فقال قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما يلزمه فأين المحال قال وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات تلك ومما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا إن الله عالم بالكليات وقالوا إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وقالوا إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى حتى ابن سينا قال إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من لوازم الذات ومن كان هذا مذهبا له كيف يمكنه أن ينكر الصفات قال وبالجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة إلا أن الصفاتية يقولون إن الصفات قائمة بالذات والفلاسفة يقولون هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفيلسوف قواما ومقوما فلا فرق إلا بالعبارات وإلا فلا فرق في المعنى هذا لفظه فيقول له مثبتوا العلو هلا قنعت منا بهذا الجواب بعينه حين قلت يلزم من علوه أن يتميز منه شيء عن شيء ويلزم وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية وتكون قد وافقت الشرع ونصوص الأنبياء وكتب الله كلها وأدلة العقول والفطر الصحيحة وإجماع أهل السنة قاطبة.
فصل الطريق الحادي والعشرون (الوجه الثامن و الستون بعد المائة ): إن هذه الحجة العقلية القطعية وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مباينا للعالم وذلك ملزوم لكونه فوقه عاليا عليه بالذات لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها وكانت مما ناظر بها الكرامية لأبي إسحاق الإسفرائيني فر أبو إسحاق إلى كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول وقال لا نسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا وهذا لازم لسائر المعطلة النفاة لعلوه ومن المعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره وإذا كان قيام العرض بغيره يمتنع أن يكون عدميا فقيام الشيء بنفسه أحق أن لا يكون أمرا عدميا بل وجوديا وإذا كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمال وهو مفتقر بالذات إلى غيره فقيام الغني بذاته بنفسه أحق وأولى.
فصل الطريق الثاني والعشرون (الوجه التاسع و الستون بعد المائة ): وهو أن القيام بالنفس صفة كمال فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته وهذه حقيقة قيوميته سبحانه وهو الحي القيوم فالقيوم القائم بنفسه المقيم لغيره فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد أنكر قيوميته وأثبت له قياما بالنفس يشاركه فيه العدم المحض بل جعل قيوميته أمرا عدميا لا وصفا ثبوتيا وهي عدم الحاجة إلى المحل ومعلوم أن العدم لا يحتاج إلى محل وأيضا فإنه يقال له ما تعني بعدم الحاجة إلى المحل تعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه الذي يفارق به العرض القائم بغيره أم تعني به أمرا آخر فإن عنيت الأول فهو المعنى المعقول والدليل قائم والإلزام صحيح وإن عنيت به أمرا آخر فإما أن يكون وجوديا أو عدميا فإن كان عدميا فالعدم لا شيء كاسمه فتعود قيوميته تعالى إلى لا شيء وإن عنيت به أمرا وجوديا غير المعنى المعقول الذي يعقله الخاصة والعامة فلا بد من بيانه لينظر فيه هل يستلزم المباينة أم لا.
فصل الطريق الثالث والعشرون (الوجه السبعون بعد المائة ): إن كل من أقر بوجود رب خالق للعالم مدبر له لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم وكل من أنكر مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطيله فهاتان دعوتان في جانب النفي والإثبات أما الدعوى الأولى فإنه إذا أقر بالرب فإما أن يقر بأن له ذاتا وماهية مخصوصة أو لا فإن لم يقر بذلك لم يقر بالرب فإن ربا لا ذات له ولا ماهية سواء والعدم وإن أقر بأن له ذاتا مخصوصة وماهية فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة فإن لم يقر بأنها معينة كانت خيالا في الذهن لا موجودا في الخارج فإنه لا يوجد في الخارج إلا معين لا سيما وتعين تلك الذات أولى من تعين كل متعين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها وأن يوجد لها نظير فتعين ذاته سبحانه واجب وإذا أقر بأنها معينة لا كلية والعالم المشهود معين لا كلي لزم قطعا مباينة أحد المعنيين للآخر إذ لو لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه فإن قيل هو يتعين بكونه لا داخلا فيه ولا خارجا عنه قيل هذا والله حقيقة قولكم وهو عين المحال وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينه لماهيته وذاته المخصوصة وأنتم إنما جعلتم تعنيه بأمر عدمي محض ونفي صرف وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه وهذا التعيين لا يقتضي وجوده فإنه يصح على العدم المحض وأيضا فالعدم المحض لا يعين المتعين فإنه لا شيء وإما تعيينه ذاته المخصوصة وصفاته فلزم قطعا من إثبات ذاته تعين تلك الذات بعينها ومن تعينها مباينتها للمخلوقات ومن المباينة العلو عليها لما تقدم تقريره وصح مقتضى العقل والنقل والفطرة ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية وهي أن من أنكر مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إنكار ربوبيته وكونه إلها للعالم.