→ الفصل الثالث | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب ابن قيم الجوزية |
الفصل الخامس ← |
لما كان الكلام نوعين خبر وطلب وكان المقصود من الخبر تصديقه ومن الطلب امتثاله كان المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مخبره ومن تأويل الطلب هو امتثاله وكان كل تأويل يعود على المخبر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويلا باطلا.
والمقصود الفرق بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر فالأول معرفته فرض على كل مكلف لأنه لا يمكنه الامتثال إلا بعد معرفة تأويله.
قال سفيان بن عيينة: " السنة هي تأويل الأمر والنهي ولا خلاف بين الأمة أن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل وأرسخهم في العلم أعلمهم به ولو كان معرفة هذا التأويل ممتنعا على البشر لا يعلمه إلا الله لكان العمل بنصوصه ممتنعا كيف والعمل بها واجب فلا بد أن يكون في الأمة من يعرف تأويلها وإلا كانت الأمة كلها مضيعة لما أمرت به.
وقد يكون معنى النص بينا جليا فلا تختلف الأمة في تأويله وإن وقع الخلاف في حكمه لخفائه على من لم يبلغه أو لقيام معارض عنده أو لنسيانه فهذا يعذر فيه المخالف إذا كان قصده اتباع الحق ويثيبه الله على قصده وأما من بلغه النص وذكره ولم يقم عنده ما يعارضه فإنه لا يسعه مخالفته ولا يعذر عند الله بتركه لقول أحد كائنا من كان.
وقد تكون دلالة اللفظ غير جلية فيشتبه المراد به بغيره فهنا معترك النزاع بين أهل الاجتهاد في تأويله ولأجل التشابه وقع النزاع فيفهم هذا منها معنى فيؤولها به ويفهم منها غيره معنى آخر فيؤولها به وقد يكون كلا الفهمين صحيحا والآية دلت على هذا وهذا ويكون الراسخ في العلم هو الذي أولها بهذا وهذا ومن أثبت أحد المعنيين ونفى الآخر أقل رسوخا وقد يكون أحد المعنيين هو المراد لا سيما إذا كانا متضادين والراسخ في العلم هو الذي أصابه فالتأويل في هذا القسم مأمور به مأجور عليه صاحبه إما أجرا واحدا وإما أجرين. وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النِّكَاحِ } [1] هل هو الأب أو الزوج. وتنازعوا في تأويل قوله { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } [2] هل هو الجماع أو اللمس باليد والقبلة ونحوها. وتنازعوا في تأويل قوله { وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } [3] هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب.
وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين من الخمس هل هم قرابة رسول الله ﷺ أو قرابة الإمام. وتنازعوا في تأويل قوله تعالى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [4] هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا.
وتنازعوا في تأويل قوله { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [5] هل يتناول اللفظ الحامل أم هو للحائل فقط.
وتنازعوا في قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ } [6] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا.
وتنازعوا في تأويل الكلالة.
وفي تأويل قوله تعالى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } [7] وأمثال ذلك ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين وإثباتها من لوازم التوحيد فبيها الله ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه ومن شرح الله لها صدره ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله { يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } حتى بين لهم بقوله { مِنَ الْفَجْرِ } [8] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [9] وأمثالها من آيات الصفات وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه ونحوها من آيات الصفات وأيضا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى { فَفِدْيَة ٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ أَوْ نُسُكٍ } [10] فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة ايام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة وكذلك قوله { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع ونظائره كثيرة كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج وليس في آيات الصفات وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها وإن جاءت السنة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام.
فإن قيل هذا يرده ما قد عرف أن آيات الأمر والنهي والحلال والحرام محكمة وآيات الصفات متشابهة فكيف يكون المتشابه أوضح من المحكم.
قيل التشابه والإحكام نوعان تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض فالأول كقوله تعال { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [11] وقوله { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [12] وقوله وقوله: { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [13] والثاني كقوله { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [14] فإن اردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا وكذلك آيات الأحكام وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض.
وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم النزاع في بعضها وإنما هذا قول بعض المتأخرين وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى.
هامش