الرئيسيةبحث

الصواعق المرسلة/الفصل الرابع والعشرون/الطاغوت الثاني/العشر الحادية عشرة

الوجه المائة: إن الأعمال الصالحة والفاسدة نتائج الاعتقادات الصحيحة والباطلة فانظر رؤوس المثبتة والنفاة وملوكهم وأتباعهم يبين لك حقيقة الأمر فرؤوس المثبتة آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم الخليل وسائر الأنبياء من ذريته وموسى الكليم وعيسى وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيد ولد آدم محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله فجاء بالإثبات المفصل الذي لم يأت رسول بمثله فصرح من إثبات الصفات والأفعال بما لم يصرح به نبي قبله وذلك لكمال عقول أمته وكمال تصديقهم وصحة أذهانهم فرسول الله حامل لواء الإثبات وتحت ذلك اللواء آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم ثم المهاجرون والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة ثم التابعون لهم بإحسان ممن لا يحصيهم إلا الله ثم أتباع التابعين ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار منهم الأئمة الأربعة ثم أهل الحديث قاطبة وأئمة التفسير والتصوف والزهد والعبادة المقبولون عند الأمة ممن لا يحصي عددهم إلا الله فهل سمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المشهود لهم بالجنة وسائر المهاجرين والأنصار وهل سمع بقوم أتم عقولا وأصح أذهانا وأكمل علما ومعرفة وأزكى قلوبا من هؤلاء الذين قال الله فيهم { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } قال غير واحد من السلف هم أصحاب محمد، قال فيهم عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم فهؤلاء أمراء هذا الشأن وأما الجند والعساكر فالتابعون كلهم ثم الذين يلونهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد والشافعي وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومحمد بن أسلم الطوسي وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأمثالهم. وأما عامتهم فأهل الدين والصدق والورع والزهد والعبادة والإخلاص واجتناب المحارم وتوقي المآثم.

وأما رؤوس النفاة والمعطلين ففرعون إذ يقول { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أسباب أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [1] وجنوده كلهم ونمرود بن كنعان هذا خصم إبراهيم الخليل وذاك خصم موسى الكليم وأرسطاطاليس وبقراطيس وأضرابهما وطمطم وتنكلوسا وابن وخشيه وأضرابهم وابن سينا والفارابي وكل فيلسوف لا يؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه.

وأما عوامهم فاعتبر عوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والحاكمية والطرقية والعرباء وعبادهم البخشية والطوسية وعلماؤهم السحرة وعساكرهم المشركون والقرامطة الذين هم أعظم الأمم إفسادا للدنيا والدين فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء وعوام هؤلاء وهؤلاء وليقابل بين الطائفتين وحينئذ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلا من أهل الإثبات وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلا من أهل النفي والتعطيل إما تعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وإما تعطيل القلب عن توحيده وعبوديته وإخلاص الدين له واعتبر ذلك بإمام النفاة في زمانه وما جرى على أهل السنة منه ابن أبي دؤاد وأصحابه الذين سعوا في ضرب الإمام أحمد وقتل كثير من أهل السنة وحبسهم وتشتيتهم في البلاد وقطع أرزاقهم ثم إمامهم في زمانه نصير الكفر والشرك الطوسي وما جرى على المسلمين منه من قتل خليفتهم وعلمائهم وعبادهم وإذا اعتبرت أحوال القوم رأيت عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدين والدنيا من أئمة هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم وغاية الواحد من هؤلاء إذا أراد الجاه أن يتقرب إلى الملوك الجهلة الظلمة بما يناسبهم من السحر فيصنف لهم فيه ويتقرب به إليهم فهؤلاء علماؤهم وملوكهم وعوامهم فكيف يكون هؤلاء أحظى بالعقل وأسعد به من الرسل وأتباعهم. وسيرة هؤلاء وهؤلاء معلومة في العالم وأعمالهم وعلومهم ومعارفهم وآثارهم دالة لمن له أدنى عقل على حقيقة الحال والله أعلم.

الوجه الحادي والمائة: إن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به فإن الله سبحانه وصفه بكونه هدى في غير موضع وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم الطرق وهي أقربها إلى الحق فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين وكلما تعوج بعد وأخبر سبحانه أنه شفاء لما في الصدور وهذا يتضمن أنه يشفي ما فيها من الجهل والشك والحيرة والريب كما أن الهدى يتضمن أنه موصل إلى المقصود فالهدى يوصلها إلى الحق المقصود من أقرب الطرق والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحق وطلبه فهذا الجهل المقتضي وهذا يزيل المانع ومن المحال أن تكون هذه صفة كلام مخالف للعقل ومعارض له وكذلك أخبر أنه نور كما قال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [2] وقال { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [3] فهو نور البصائر من العمى كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك ومحال أن تتنور البصائر بما يخالف صريح العقل فإنما يخالف العقل موجب الظلمة وأخبر سبحانه أنه برهان فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [4] ومحال أن يكون ما يخالف صريح العقل برهانا وأخبر سبحانه أنه علم كما قال { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [5] وما يخالف العقل الصريح لا يكون علما وأخبر أنه حق والعقل الصريح لا يخالف الحق فقال تعالى { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } [6] وقال { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } [7] وقال { لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [8] وقال { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } [9] وحينئذ فكونه حقا يدل على أن ما خالفه مما يسمى معقولا باطل فإن كان ما خالفه حقا لزم أن يكون باطلا وإن كان هو الحق فما خالفه باطل قطعا وأخبر أنه آيات بينات وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك وأخبر أنه أحسن القصص وأحسن الحديث ولو خالف صريح العقل لكان موصوفا بضد ذلك وأخبر أنه أصدق الكلام فقال: { مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } [10] { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [11] ولو خالف العقل لم يكن كذلك وكان كلام هؤلاء الضالين المضلين أصدق منه وأخبر أن القلوب تطمئن به أي تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك كما يطمئن القلب إلى الصدق ويرتاب بالكذب فقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [12] وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه وأنه حق من عنده ولهذا ذكره جوابا لقول الكفار { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَة ٌ مِنْ رَبِّهِ } فقال { قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي بكتابه الذي أنزله وهو ذكره وكلامه ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء والعاقل اللبيب إذا تدبر القرآن وتدبر كلام هؤلاء المعارضين له تبين أن الريبة كلها في كلامهم والطمأنينة في كلام الله ورسوله وأخبر سبحانه أن التوراة التي هو أكمل وأجل منها إمام للناس فقال تعالى: { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة ً } [13] والإمام هو القدوة الذي يؤتم به وكيف يقتدي بكلام يخالف صريح العقل وسماه سبحانه فرقانا لأنه فرق بين الحق والباطل فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقانا ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضالين المضلين وأخبر أنه كتاب مبارك والمبارك الكثير البركة والخير والهدى والرحمة وهذا لا يكون فيما يرده العقل ويقضي بخلافه وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهة وأخبر أنه كتاب أحكمت آياته وأنه حكيم وأنه فصل وما يخالفه العقل لا يوصف بشيء من ذلك وأخبر أنه مهيمن على كل كتاب أي أمين عليه وحاكم وشاهد وقيم ولو خالفه العقل لكان مهيمنا عليه وكانت معقولات هؤلاء الضالين المضلين هي المهيمنة عليه ولم يكن هو المهيمن عليها وأخبر أنه لا عوج فيه وأنه قيم فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا } [14]. وأي عوج أعظم من مخالفة صريح العقل له وقال تعالى: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [15]. ومن تدبره وتدبر ما خالفه عرف أن القدح كله فيما خالفه. وعلمه بتعوج ما خالفه يعرف من طريقتين من جهة الكلام في نفسه وأنه باطل ومن جهة مخالفته للقرآن وجعله سبحانه حجة على خلقه كما قال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَة ٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَة ٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } [16]. وقال تعالى { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [17] وكيف تقوم الحجة بكلام يخالف صريح العقل وحينئذ فنقول في: الوجه الثاني والمائة: إن الله سبحانه ضمن الهدى والفلاح لمن اتبع القرآن والضلال والشقي لن أعرض عنه فكيف بمن عارضه بمعقول أو رأي أو حقيقة باطلة أو سياسة ظالمة أو قياس إبليسي أو خيال فلسفي ونحو ذلك قال تعالى { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [18] فضمن سبحانه لمن اتبع هداه وهو كلامه الهدى في الدنيا والآخرة والسعادة في الدنيا والآخرة فهاهنا أمران:

طريقة وغاية فالطريقة الهدى والغاية السعادة والفلاح فمن لم يسلك هذه الطريقة لم يصل إلى هذه الغاية والله سبحانه قد أخبر أن كتابه الذي أنزله هو الهدى والطريق فلو كان العقل الصريح يخالفه لما كان طريقا إلى الفلاح والرشد وقد أخبر سبحانه أن الذين اتبعوا النور الذي أنزل مع رسوله هم المفلحون لا غيرهم وقال تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [19]. وكما جعل سبحانه الهدى والفلاح لمن اتبع كتابه وآمن به وقدمه على غيره جعل الضلال والشقاء لمن أعرض عنه واتبع غيره وعارضه برأيه ومعقوله وقياسه قال تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [20] وقال { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } [21] وقال { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَعْمَى } [22] فوصفه بالعمى الذي هو ضد الهدى وبالمعيشة الضنك التي هي ضد السعادة فكتاب الله أوله هداية وآخره سعادة وكلام المعارضين له بمعقولهم أوله ضلال وآخره شقاوة. الوجه الثالث بعد المائة: أن الله سبحانه ذم المجادلين في آياته بالباطل في غير آية من كتابه فقال تعالى: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [23]. وقال { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } [24]. وقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ لَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } إلى قوله { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [25].

وأنت إذا تأملت أقوال هؤلاء وسيرتهم رأيت هذه الآيات منطبقة عليهم وهم المرادون بها ومن أعظم الجدال في آيات الله جدال من يعارض النقل بالعقل ثم يقدمه عليه فإن جداله يتضمن أربع مقامات أحدها أنه تبين أن الأدلة النقلية من الكتاب والسنة لا تفيد علما ولا يقينا.

الثاني: أن ظاهرها يدل على الباطل والتشبيه والتمثيل

الثالث أن صريح العقل يخالفها

الرابع: أنه يتعين تقديمه عليها ولا يصل إلى هذه المقامات إلا بأعظم الجدال.

فهو مراد بهذه الآيات قطعا وأعمالهم شاهدة عليهم لمن لم يطلع على حقيقة أقوالهم وهي التكبر والتجبر والفرح في الأرض بغير الحق والمرح وطلب العلو في الأرض والفساد ولا تجد من يعارض الوحي بالعقل ويقدمه عليه إلا بهذه المنزلة فهذه علومهم وعقائدهم وهذه إرادتهم وأعمالهم.

الوجه الرابع والمائة: إن الله سبحانه وصف المعرضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة والشك والعمى والريب فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين:

أحدهما: الإعراض عما جاء به الرسول

والثاني: معارضته بما يناقضه فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه سواء اعتقد ذلك بجنانه أو قاله بلسانه أو كتبه ببنانه وهذا حال أهل الجهل المركب ومن أعرض عما جاء به الرسول ولم يعرفه ولم يتبينه ولا عارضه بمعقول أو رأي فهو من أهل الجهل البسيط وهو أصل المركب فإن القلب إذا كان خاليا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به ومحبته كان معرضا لاعتقاد نقيضه والتصديق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وجرى إليها المتسابقون فإلى نحوها تمتد الأعناق وإليها تتجه القلوب الصحيحة بالأشواق فالصادقون فيها أهل الإثبات أئمة الهدى كإبراهيم خليل الرحمن وأهل بيته والكاذبون فيها أهل النفي والتعطيل كفرعون وقومه وقال تعالى في أئمة الهدى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة ِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاة ِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } [26]. وقال في أئمة الضلال { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ لا يُنْصَرُونَ } [27].

فمن لم يكن فيها على طريق أئمة الهدى كان على طريق أئمة الضلال إذ كان ثغر قلبه مفسوحا لهم يلقون فيه أنواع الضلال ويصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه التقصير في إظهار السنة والهدى فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التعطيل والنفي في توحيد الله وأسمائه وصفاته كان من أعظم أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته حتى إن كثيرا من المنتسبين إلى السنة يعتقدون أن طريقة السلف هي الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وتفقهها وتعقلها فلما أفهموا النفاة والمعطلة أن هذه طريقة السلف قال من قال منهم طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم لأنه اعتقد أن طريقة الخلف متضمنة لطلب معاني نصوص الإثبات ولنفي حقائقها وظواهرها الذي هو باطل عنده فكانت متضمنة للعلم والتنزيه وكان فيها علم بمعقول وتأويل لمنقول ومذهب السلف عنده عدم النظر في النصوص وفهم المراد منها دون النظر إلى التعارض والاحتمالات وهذا عنده أسلم لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معاني فحمله على بعضها دون بعض مخاطرة وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة فلو تبين لهذا البائس وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهمها وتدبرها وتعقل معانيها وتنزيه الرب عن تشبيهه فيها بخلقه كما ينزهونه عن العيوب والنقائص وإبطال طريقة النفاة المعطلة وبيان مخالفتها لصريح المعقول كما هي مخالفة لصحيح المنقول علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر وفهم ذلك ومعرفته ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وخيال ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسنة وعدم إثبات ما تضمناه من الصفات فقد أخطأ خطأ فاحشا على السلف كما أن من قال على الرسول أنه لم يبعث بالإثبات وإنما بعث بالنفي كان من أعظم الناس افتراء عليه فهؤلاء المعطلة مفترون على الله ورسوله وعلى سلف الأمة وعلى العقول والفطر وما نصبه الله من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية والكذب قرين الشرك كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله تعالى: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [28]. وقال { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّة ٌ فِي الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [29].

وقال { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ } [30].

وقوله { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [31].

وقال النبي ﷺ: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا".

الوجه الخامس والمائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم ومعقولاتهم لا يمكنهم أن يقولوا كل واحد من الدليلين المتعارضين يقيني وأنهما قد تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقول ولكن نهاية ما يقولون إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين وأن ما ناقضها من الأدلة البدعية التي يسمونها هم العقليات تفيد اليقين فينفون إفادة اليقين عن كلام الله ورسوله ويثبتونه لما ناقضه من أدلتهم المبتدعة التي يدعون أنها براهين قطعية ولهذا كان لازم قولهم لا محالة الإلحاد والنفاق والإعراض عما جاء به الرسول وهذه حال الذين ذكرهم الله في قوله { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة ٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [32]. وقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [33]. فجنس هؤلاء هم المكذبون للرسل ولا يحتج عليهم بما هم مكذبون به ولا بما يزعمون أن العقل الصريح عارضه ولكن المقصود تعريف حال هؤلاء وأن طريقتهم مشتقة من طريقة المكذبين للرسل وأما طريق الرد عليهم فلأتباع الرسول وأنصاره فيه مسالك:

الأول: بيان فساد ما ادعوه معارضا للنصوص من عقلياتهم

الثاني: بيان أن ما جاء به الرسول من الإثبات معلوم بالضرورة من دينه كما هو معلوم بالأدلة اليقينية فلا يمكن مع تصديق الرسول مخالفة ذلك

الثالث: بيان أن المعقول الصريح يوافق ما جاء به الرسول لا يعارضه وبيان أن ذلك معلوم بضرورة العقل تارة وبنظره تارة وهذا أقطع لحجة المعارضين للوحي فإنهم يدلون بالعقل والعقل الصحيح من أقوى الأدلة على بطلان قولهم.

الوجه السادس والمائة: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها ومقدماتها أصح من مقدماتها فيجب تقديمها عليها لو قدر تعارضهما ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات وحينئذ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارة وبالنصوص تارة وبهما تارة ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلا بمقدمات يردها النص وهذا العقل فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك وهذا قاطع لمن تدبره واعتبر ذلك بالمعقولات التي أقامها المعطلة على نفي علو الله على خلقه ومباينته للعالم والمعقولات التي أقامها أهل الإثبات على ضد قولهم يتبين لك ما بينهما من التفاوت وتسلم نصوص الوحي عن المعارض ونحن نعلم أن المعطلة تقدح في مقدمات هذه المعقولات الدالة على الإثبات ولكن القدح فيها من جنس القدح في الضروريات والبديهيات ولا ينفعهم كون طائفة من العقلاء منكرين لها والضروريات لا ينكرها أحد فإن هذا ينتقض عليهم فكل طائفة من طوائف بني آدم قالوا ما يخالف ضرورة العقل مع كونهم أكثر من هؤلاء النفاة وكل طائفة تشهد على الأخرى أنها خالفت ضرورة العقل فيشهد أصحاب العقل والسمع على النفاة أنهم كما خالفوا صحيح النقل خالفوا صريح العقل وسيشهدون على ذلك: { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } [34]. وقال المعارضون للوحي { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [35].

الوجه السابع المائة: أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في علم من أنواع العلوم من الطب أو الحساب أو النحو أو الهيئة أو غير ذلك بكلام ذكر أنه بين لهم فيه حقيقة ذلك العلم وأوضح مشكلاته وبين غوامضه ولم يحوجهم بعده إلى كتاب سواه ولم يكن في ذلك الكتاب بيان ذلك العلم ولا معرفة ذلك المطلوب بل كانت دلالة الكتاب على نقيض ذلك العلم أكمل وعلى خلافه أدل أو كان العقل الصريح يدل على خلاف ما دل عليه ذلك الكتاب كان هذا المصنف مفرطا في الجهل والضلال أو في المكر والاحتيال أو في الكذب والمحال فكيف بكتاب لم ينزل من السماء كتاب أهدى منه خضعت له الرقاب وسجدت له عقول ذوي الألباب وشهدت العقول والفطر بأن مثله ليس من كلام البشر وأن فضله على كل كلام كفضل المتكلم به على الأنام وأنه نور البصائر من عماها وجلاء القلوب من صداها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها فهو حياها الذي به حباها ونورها الذي انقشعت به عنها ظلماؤها وغذاؤها الذي به قوام قوتها ودواؤها الذي به حفظ صحتها وهو البرهان الذي زاد على برهان الشمس ضياء ونورا فلو {... اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [36].

فيه نبأ ما كان قبلنا وخبر ما يكون بعدنا وحكم ما بيننا وهو الجد ليس باللعب والفصل ليس بالهزل وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأ العظيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيتشعب ولا تخلق بهجته على كثرة الترداد بل لا يزداد على تتابع التلاوة إلا بهجة وطلاوة وحلاوة من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن أعرض عنه أو عارضه بعقله أو رأيه أو سياسته أو خياله فالضلال منتهاه والنار منقلبه ومثواه والخذلان قرينه والشقاء صاحبه وخدينه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن حاكم به أفلح ومن خاصم به استظهر بأقوى الحجج ومن استنصر به فهو مؤيد ومنصور ومن عدل عنه فهو مخذول ومثبور فبغاه هؤلاء النفاة المعطلة عوجا وجعلوا دون الاهتداء به بابا مرتجا وعزلوه عن إفادة العلم واليقين وقالوا قد عارض ما أثبتته العقول والبراهين وقالوا لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما ولا يقينا في هذه المطالب العلية بل دلالته ظاهرة في نقيض الصواب مفهمة لنقيض ما يقوله أولو العقول والألباب فالواجب أن نحترمه بالإمساك والتفويض أو نسلط عليه التأويل إن أفهم الخلاف والضد والنقيض فإن عجزنا عن ذلك أتينا بالقانون المشهور بيننا والمقبول أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا المعقول على المنقول فهذا حقيقة قول هؤلاء النفاة المعطلين في كلام رب العالمين وكلام رسوله الأمين.

الوجه الثامن والمائة: أن هذا يتضمن الصد عن آيات الله وبغيها عوجا وقد ذم الله سبحانه من فعل ذلك وتوعده بأليم العقاب فقال { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاة َ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَة ِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [37]. وقال { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ } [38].

وهؤلاء المعارضون للوحي بعقولهم جمعوا بين الأمور الثلاثة الكذب على الله والصد عن سبيل الله وبغيها عوجا أما الكذب على الله فإنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ووصفوه بما لم يصف به نفسه وأما صدهم عن سبيله وبغيها عوجا فإنهم أفهموا الناس بل صرحوا لهم بأن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد علما ولا يقينا وأن العقول عارضتها فيجب تقديم العقول عليها وأي عوج أعظم من عوج مخالفة العقل الصريح وقد وصف الله كتابه بأنه غير ذي عوج ولا ريب أن الله هو الصادق في ذلك وأنهم هم الكاذبون.

فإن قلت يبغونها متعدي إلى مفعول واحد فما وجه انتصاب عوجا قيل فيه وجوه

أحدها: أنه نصب على الحال أي يطلبونها ذات عوج لا يطلبونها مستقيمة والمعنى يطلبون لها العوج.

الثاني: أن عوجا مفعول يبغونها على تقدير حذف اللام أي يطلبون لها عوجا يرمونها به ويصفونها به وأحسن منهما أن تضمن يبغونها إما معنى يعوجونها فيكون عوجا منصوبا على المصدر ودل فعل البغي على طلب ذلك وابتغائه.

وأما معنى يسومونها ويؤولونها وعلى كل تقدير فسبيل الله هداه وكتابه الهادي للطريق الأقوم والسبيل الأقصد فمن زعم أن في العقل ما يعارضه فقد بغاه عوجا ودعا إلى الصد عنه ومن له خبرة بالمعقول الصحيح يعلم أن العوج في كلام هؤلاء المعوجين الذين هم عن الصراط ناكبون وعن سبيل الرشد حائدون وعن آيات الله بعيدون وبالباطل والقضايا الكاذبة يصدقون وفي ضلالهم يعمهون وفي ريبهم يترددون وهم للعقل الصريح والسمع الصحيح مخالفون: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [39].

الوجه التاسع والمائة: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب بل تكلموا فيه بغاية الإثبات المناقض لما عليه الجهمية المعطلة وعند الجهمية أن الساكت عنه خير من المتكلم فيه بالإثبات المناقض لتعطيلهم والمتكلم فيه بالنفي والتعطيل الذي يسمونه تنزيها خير من الساكت عنه فجعلوا المتكلم فيه بالإثبات آخر المراتب وهو أحسنها ولا ريب أن هذا يستلزم غاية القدح في الرسل والتنقص لهم ونسبتهم إلى القبيح ووصفهم بخلاف ما وصفهم الله به ومضمون هذا أنهم لم يهدوا الخلق ولم يعلموهم الحق بل لبسوا عليهم ودلسوا وأضلوهم وعرضوهم للجهل المركب ولو تركوهم في جهلهم البسيط لكان خيرا لهم بل تركوهم في حيرة مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال فعند هؤلاء الضالين كلام الأنبياء لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا ولا يبين الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال بل يكون كلام من تسفسط في العقليات وتقرمط في السمعيات وهو كخيط السحار والمشعوذ يخرجه تارة أحمر وتارة أبيض وتارة أسود أهدى سبيلا من نصوص الوحي فإن نصوص الوحي عند هؤلاء أضلت الخلق وأفسدت عقولهم وعرضتهم لاعتقاد الباطل ومن راعى حرمة النصوص منهم قال فائدة إنزالها اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها وحقائقها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كل الاجتهاد وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عند المعطلة أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا ينال منه الهدى بل ظاهره يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق ليصلوا برده إلى معرفة الحق الذي استنبطوه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى الرسل بل احتاجوا فيه إلى رد ما جاءوا به بالقانون العقلي أو رد معناه بالتأويل اللفظي وحينئذ فنقول في

الوجه العاشر بعد المائة: إن مثل ما جاءت به الرسل عند النفاة والمعطلة مثل من ارسل مع الحاج أدلاء يدلونهم في طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير الطريق ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا الطريق بنظرهم واستدلالهم لا بأولئك الأدلة وحينئذ يردون ما فهموا من كلام الأدلة وخطابهم ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه ومن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون أنهم أخبر بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قلدوهم دلالة الحاج وتعريفهم الطريق وإن درك ذلك عليهم والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يريدوا بكلامهم الدلالة والإرشاد إلى سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طرق مكة فأفضت بهم إلى مفاوز معطشه وأودية مهلكة وأرض مسبعبه فأهلكتهم وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء اتبعوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضا جوعا وعطشا كما هلك أرباب تلك الطرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين حزبا يقولون الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نصبوا له دون غيرهم وحزبا يقولون بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق وكلامهم في الأدلة أبين وأصدق فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال وانتشر القيل والقال وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم البكاء والنشيج واضطربت الآراء وعصفت الأهواء وصار حالهم كحال قوم سفر نزلوا في ليلة ظلماء فهجم عليهم عدو وهم نيام فقاموا في ظلمة الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلا ولا يتبعون دليلا وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق فهل يكون من فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل أو أرشدهم إلى اتباع الدليل أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفق على رعيته الناصح لهم وهل هذا مطابق لقول الدليل { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم } [40] وقوله { رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [41] وقوله { رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } [42] فأين النصح والأمانة على قول المعطلين النفاة فإذا قال هذا الدليل إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحاج في معرفة الطريق بعقولهم وبحثهم ونظرهم ولا يستدلوا بكلامي فهل يكون هذا دليلا أم قاطع طريق فهذا مثال ما يقوله هؤلاء المعطلة النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله سبحانه إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم ويدعوهم إلى الله وإلى السبيل الموصلة إليه فجعل هؤلاء المعطلة الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيله والاجتهاد في رد ما جاءت به رسله اجتهادا في الإيمان به والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نوره والحرص على أن لا يصدق كلامه ولا تقبل شهادته ولا تتبع دلالته حرصا على أن تكون كلمة الحق هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك والتعطيل مبالغة في طريق التوحيد الموصلة إلى سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق وعطلوا الخالق وإنما يعرف حقيقة هذا المثل ومطابقته للواقع من ضرب في الكتاب والسنة بسهم وحصل منها على نصيب وافر واطلع على حقيقة أقوال المعطلين النفاة في دلائلهم ومسائلهم ونظر إلى غايتها من خلال كلماتهم ومن البلية العظمى أن كثيرا ممن لهم علم وفقه وعبادة وزهد ولسان صدق في العامة وقد ضرب في العلم والدين بسهم قد التبس عليه كثير من كلامهم فقبله معتقدا أنه حق وأن أصحابه محققون فسمع كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم والإيمان وكلام هؤلاء وغيرهم من أهل الإلحاد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين ولا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء فإذا سمع القرآن والحديث قال هذا كلام الله وكلام رسوله وإذا سمع كلام الملاحدة والمعطلة الذين حسن ظنه بهم قال هذا كلام العارفين المحققين والنظار أصحاب العقول والبراهين وإذا سمع كلام الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر طوائف بني آدم قال هذا كلام أولياء الله أو كلام خاتم الأولياء ومرتبتنا تقصر عن فهمه فضلا عن الاعتراض عليه وبالجملة فلرسول الله أتباع خاصة وعامة ولمسيلمة الكذاب أتباع خاصة وعامة والله تعالى جعل للهدى أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر وللضلال أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر.

هامش

  1. [غافر37، 36]
  2. [الأعراف157]
  3. [الشورى52]
  4. [النساء174]
  5. [آل عمران61]
  6. [آل عمران3-1]
  7. [النساء105]
  8. [يونس94]
  9. [آل عمران62]
  10. [النساء122]
  11. [النساء87]
  12. [الرعد28]
  13. [الأحقاف12]
  14. [الكهف2، 1]
  15. [الزمر28]
  16. [الأنعام157-155]
  17. [النساء165]
  18. [طه126، 123]
  19. [البقرة 5-1]
  20. [البقرة 257]
  21. [القمر47]
  22. [طه124]
  23. [غافر35]
  24. [غافر56]
  25. [غافر76-69]
  26. [الأنبياء73]
  27. [القصص41]
  28. [الحج31، 30]
  29. [الأعراف152]
  30. [القصص75-74]
  31. [الأعراف33]
  32. [غافر5]
  33. [الأنعام112]
  34. [العاديات10، 9]
  35. [الملك10]
  36. [الإسراء88]
  37. [إبراهيم3-1]
  38. [هود19، 18]
  39. [البقرة 15-11]
  40. [الأعراف93]
  41. [الأعراف62]
  42. [الأعراف68]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة