→ العشر الحادية عشرة | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر الثانية عشرة ابن قيم الجوزية |
العشر الثالثة عشر ← |
الوجه الحادي عشر بعد المائة: إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام وهي من أعظم الكفر والإلحاد وبطلان اللازم يستلزم بطلان ملزومه فإن من لوازمه أن لا يستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ولا بيان للحق في نفسه.
ومن لوازمه أن يكون كلامه مضمونا لضد ذلك ظاهره وحقيقته.
ومن لوازمه القدح في علمه ومعرفته أو في فصاحته وبيانه أو في نصحه وإرادته كما تقدم تقريره مرارا.
ومن لوازمه أن يكون المعطلة النفاة أعلم بالله منه أو أفصح أو انصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرسل قد قصر في هذا الباب غاية التقصير بل أفرط في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط وتنوع فيه غاية التنوع فمرة يقول أين ومرة يقر عليها لمن سأله ولا ينكرها ومرة يشير بإصبعه ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب وبصره ومرة يصفه بالنزول والمجيء والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة ومرة يثبت له الوجه والعين واليد والإصبع والقدم والرجل والضحك والفرح والرضى والغضب والكلام والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ورؤية أهل الجنة له مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم ومحاضرته لهم محاضرة ورفع الحجب بينه وبينهم وتجليه لهم واستدعائهم لزيارته وسلامه عليهم سلاما حقيقيا قولا من رب رحيم واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه وخلقه ما شاء بيده وكتابة كلامه بيده ويصفه بالإرادة والمشيئة والقوة والقدرة والحياة والحياء وقبض السماوات وطيها بيده والأرض بيده الأخرى ووضعه السماوات على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع وأضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه جحودا وإنكارا لا إيمانا وتصديقا فما ضحك منه رسول الله ﷺ تعجبا وتصديقا لقائله يعبس منه هؤلاء إنكارا وتكذيبا وما شهد لقائله ببالإيمان شهد هؤلاء له بالكفر والضلال وما أوحى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره يوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه يطلق هؤلاء عليه ضده ونقيضه لئلا يطلق هو عليه وما نزه ربه عنه من العيوب النقائض يمسكون عن تنزيهه عنه وإن اعتقدوا أنه منزه عنه ويبالغون في تنزيهه عن ما وصف به نفسه فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وإثبات الوجه واليد والعين له مالا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم والعيب والفعل لا لحكمة والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال وتراهم إذا أثبتوا أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم وإذا نفوا نفوا مفصلا نفيا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة فهذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج به ولا تشتاق إليه ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم كما صرحوا بذلك وقالوا هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم قالوا وإرادته ومحبته محال لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين القديم والمحدث. ومن لوازمه أعظم العقوق لأبيهم آدم فإن من خصائصه أن الله خلقه بيده فقالوا إنما خلقه بقدرته فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.
ومن لوازمه بل صرحوا به جحدهم حقيقة خلة إبراهيم وقالوا هي حاجته وفاقته وفقره إلى الله فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق إذ كل أحد فقير إليه في كل نفس وطرفة عين.
ومن لوازمه بل صرحوا به أن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق كلاما في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته لا يصدق الجهمي بهذا أبدا.
ومن لوازمه بل صرحوا به أن الرسول لم يعرج به إلى الله حقيقة ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأل التخفيف لأمته فإن من وإلى عندهم في حق الله محال فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء.
ومن لوازمه أن الله سبحانه لم يفعل شيئا ولا يفعل شيئا البتة فإن الفعل عندهم عين المفعول وهو غير قائم بالرب تعالى فلم يقم به عندهم فعل أصلا وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به كما سموه مريدا من غير إرادة تقوم به وسموه متكلما من غير كلام يقوم به وسماه زعيمهم المستأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقوم به حيث قال العلم هو المعلوم كما قالوا الفعل هو المفعول.
ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض فإن ذلك من مقولة أن ينفعل وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه لكون ذلك من مقولة الأين وهي عليه محال ونفوا كلامه وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته وسائر صفاته لأنها من مقولة العرض وهي ممتنعة عليه كما نفوا استوائه على عرشه لأنه من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة يتفطن بها اللبيب لما وراءها وبالله التوفيق.
الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن الرسول إذا لم يبين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأصل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركوه وحصلوه وظفروا به وهو معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه بل إنما يبين لهم الأمور العملية كانت رسالته مقصورة على أدنى المقصودين فإن الرسالة لها مقصودان عظيمان
أحدهما: تعريف العباد ربهم ومعبودهم بما هو عليه من الأسماء والصفات.
والثاني: محبته وطاعته والتقرب إليه فإذا لم يكن الرسول قد بين للأمة أجل المقصودين وأفضلهما كانت رسالته قاصرة جدا فكيف إذا أخبرهم فيه بما تحيله عقولهم وأذهانهم وإذا كان النفاة المعطلة قد بينوا ذلك بيانا مفصلا يجب على كل أحد اعتقاده فحينئذ ما أتوا به أفضل مما جاء به الرسول في القسمين فإن النفي عندهم هو الحق والإثبات باطل فما جاؤوا به من ذلك خير عندهم مما جاء به الرسول من هذا الوجه ومن جهة أن العلم أشرف من العمل ومن المعلوم أن النفاة المعطلة ليس فيهم أحد من أئمة الإسلام ومن لهم في الأمة لسان صدق وإنما أئمتهم الكبار القرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم من ملاحدة الفلاسفة كابن سينا والفارابي وأمثالهما وملاحدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود كابن سبعين وصاحب الفصوص وصاحب نظم السلوك وأمثالهم ثم من أئمتهم من هو أمثل من هؤلاء كأئمة الجهمية كالجهم ابن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء ممن هم من أجهل الخلق بما بعث الله به رسوله فيا للعقول ويا للعجب أيكون ما أتى به هؤلاء من التعطيل والنفي أكمل مما أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله خاتم الرسل وإخوانهما من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم فإن الرسل عند النفاة لم يبينوا أفضل العلم والمعرفة وإنما هم الذين بينوا ذلك ودلائله تأصيلا وتفصيلا وقد صرح ملاحدة هؤلاء بأن الرسل راموا إفادة ما بينوا هؤلاء الملاحدة كما قال ابن سبعين في خطبة كتابه أما بعد فإني قد عزمت على إفشاء السر الذي رمز إليه هرامسة الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية ويقول صاحب الفصوص أن الرسل يستفيدون معرفة ذلك من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فهو أعلى إسنادا من الرسول وأقرب تلقيا على قوله وطائفة من الفلاسفة تقول إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه بناء على هذا الأصل الملعون ومن لم يصل إلى هذا الذي هو غاية تحقيقهم من أهل التعطيل والتجهيم ومبتدعة المتصوفين فقد شاركهم في الأصل وقاسمهم في الربح والثمرة والله الموفق.
الوجه الثالث عشر بعد المائة: إن أقوال هؤلاء النفاة المعطلة متناقضة مختلفة وذلك يدل على بطلانها وأنها ليست من عند الله وما جاء به الرسول متسق متفق يصدق بعضه بعضا ويوافق بعضه بعضا وهذا يدل على أنه حق في نفسه قال تعالى { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [1].
وأنت إذا تأملت مقالات القوم ومعقولاتهم وجدتها أعظم شيء تناقضا ولا تجد أحدا من فضلائهم ورؤسائهم أصلا إلا وهو يقول الشيء ويقول ما يخالفه ويناقضه تارة في المسألة الواحدة وتارة يقول القول ثم ينقضه في مسألة أخرى من ذلك الكتاب بعينه. وأما قوله الشيء وقول نقيضه في الكتاب الآخر فمن له فهم واطلاع على كتب القوم يعلم ذلك وأما الجاهل المقلد فلا تعبأ به ولا يسوءك سبه وتكفيره وتضليله فإنه كنباح الكلب فلا تجعل للكلب عندك قدرا أن ترد عليه كلما نبح عليك ودعه يفرح بنابحه وأفرح أنت بما فضلت به عليه من العلم والإيمان والهدى واجعل الإعراض عنه من بعض شكر نعمة الله التي ساقها إليك وأنعم بها عليك.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا في هذا الموضع من تناقضهم في مسائلهم ودلائلهم في كل مسألة ما يتعجب منه العاقل ويتنبه به الغافل وأما مناقضة بعضهم بعضا ومعارضة بعضهم بعضا في الأدلة والأحكام فأمر لا خفاء به فالواحد منهم متناقض مع نفسه وأصحابه متناقضون فيما بينهم وهم وخصومهم في هذا الباب أشد تناقضا ومناقضتهم لنصوص الوحي معلومة وهم متناقضون لما تعلم صحته بصريح العقل فهم في { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [2] ولكن لا يرى هذه الظلمات إلا من هو في نور السمع والعقل { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [3]
الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل يستلزم قولهم ثلاث مقدمات تناقض دعواهم غاية المناقضة
المقدمة الأولى: ثبوت الرسالة في نفس الأمر على قاعدة أهل الملل وأن الرسول جاء من عند الله برسالة ليس مقدورا لبشر نيلها باكتساب ولا رياضة ولا صناعة من الصنائع.
الثانية: أنه جاء بهذا الكلام الذي ادعوا أن العقل عارضه.
الثالثة: أنه أراد به حقيقته وظاهره فلا تتم دعوى المعارضة إلا بهذه الأمور وحينئذ فإما أن يقر المعارض بها أو ينكرها فإن أقر بها ثم ادعى المعارضة كان قوله في غاية وحالة القدح في المرسل والرسول وإن أنكرها كان الكلام معه في أصل ثبوت الرسالة واحتج عليه بما يحتج على منكري النبوات وإن أقر بالنبوة على طريقة ملاحدة الفلاسفة ومن سلك سبيلهم أنها مكتسبة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة يتصرف فيها في المعقولات فيشكلها في نفسه خيالات ترى وتسمع وهي المسماة بالملائكة كما يقوله شيوخ هؤلاء كابن سينا وأتباعه ولم يمكنه أن يجزم بأن النبي عالم بما يقول معصوم عن الخطأ فيه فكيف وهو يقول إن النبي قد يقول ما يعلم خلافه فهو لا يستفيد بخبر النبي حقا البتة فكيف يتكلم في المعارضة التي هي فرع الاعتراف بصحة الدليل ولكن قد عارضه غيره فيكون مقام هذا مقام منع لا مقام معارضة فإما أن يمنع كون النبي عالما بما يقول أو كونه جازما معصوما فيه أو كونه جاء بذلك أو كونه أراد به خلاف ما دل العقل بزعمه عليه وإلا فمع إقراره بذلك تستحيل المعارضة أن ترجع حقيقتها إلى أن ما جاء به حق وأنه باطل وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن هذه الطريقة طريقة ممانعة لا طريقة معارضة وأن دعوى المعارض تستلزم الجمع بين النقيضين فمن لم يعلم أن الرسول معصوم صادق فيما يخبر به كيف تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه جاء بكذا لم تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه أراده بكلامه لم تمكنه المعارضة ومن علم هذه الأمور الثلاثة وأقر بها لم يمكنه المعارضة فبطلت دعوى المعارضة على التقريرين وبالله التوفيق يوضحه
الوجه الخامس عشر بعد المائة: إن من عرف بطلان هذه المعقولات التي يعارض هؤلاء بها السمع امتنع عنده أن يحصل بها المعارضة لامتناع ثبوت المعارضة بين الحق والباطل ومن اعتقد صحتها فاعتقاد صحتها عنده ملزوم لبطلان السمع فيلزم من صحتها بطلانه وتمتنع المعارضة أيضا فالمعارضة ممتنعة على تقدير صحتها وفسادها.
الوجه السادس عشر بعد المائة: إن تجويز التعارض بين السمع والعقل والإيمان بالله ورسوله لا يمكن اجتماعها البتة فإن صحت المعارضة امتنع الإيمان وإن صح الإيمان امتنعت المعارضة فإن الإيمان مبناه على أن الرسول صادق فيما يخبر به عن الله معصوم في خبره وعلى أنه جاء بهذا الكتاب وعلى أنه أراد من الأمة أن يثبتوا حقائقه ويفهموه ويتدبروه ولا ينفوا حقائق ما أخبر به ويقروا بلفظه فلا يمكن وجود الأيمان بالرسول إلا بهذه الأصول الثلاثة فإذا جوزنا معارضة العقل الصريح لما جاء له لزم القدح والطعن فيها أو في بعضها والطعن في الأمرين الأولين مناقض للإيمان بالذات والطعن في الثالث يستلزم الطعن فيهما إذ غايته الاعتراف بأنه جاء بهذه الألفاظ ولم يجيء بحقائقها ومعانيها وهذا جحد لما أرسل به حقيقة فثبت أن الإيمان وهذه المعارضة لا يجتمعان أبدا يوضحه
الوجه السابع عشر بعد المائة: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم إما أن تردوا هذه النصوص وتكذبوها وإما أن تصدقوها وتقبلوها والأول إلحاد وكفر ظاهر وإن قبلتموها فإما أن تعتقدوا أن الرسول أراد حقائقها ومعانيها المفهومة منها أولا فإن اعتقدتم أنه اراد حقائقها فإما أن تعتقدوا ثبوت تلك الحقائق في نفس الأمر وانتفائها أو تشكون في الأمر ولا ريب أنه مع اعتقاد ثبوت تلك الحقائق تمتنع المعارضة وأنه مع الشك تمتنع المعارضة فلا تمكن المعارضة إلا على تقدير العلم بانتفاء تلك الحقائق في نفس الأمر وحينئذ فإذا أراد إفهامها فقد أراد إفهام خلاف الحق فإما أن توافقوه في مراده وتمنعوا تأويلها بما يخالف حقائقها لأنه مناقضة لمراده وإما أن توجبوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ومعانيها المفهومة منها والأول يستلزم الإقرار على الباطل وإفهام أقبح الكذب وهو الكذب على الله واسمائه وصفاته وهذا يرجع على أصل الرسالة ومقصودها بالإبطال فلم يبق إلا التأويل ولا يمكنكم سلوك طريقه لأنكم تناقضون فيه أقبح التناقض.
فإنكم إما تتأولوا الجميع وليس في المنتسبين إلى القبلة من يجوز ذلك ولا يمكنه وإما تتأولوا البعض دون البعض فيقال لكم ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن حقيقته ومعناه الظاهر منه وبين ما أقررتموه على حقيقته؟ فإن قلتم ما يقوله جمهوركم أن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.
قيل لكم فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإنكم لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية كما تقدم إذ غاية ما معكم نفي العلم بها وعدم العلم لا يستلزم عدم المعلوم وأيضا فمعقولات الناس ليست على حد واحد فهب أن معقولاتكم ليست تعارض ما أقررتموه فقد ادعى غيركم أن مقدماتكم التي عارضتم بها ما تأولتموه ومثلها وأيضا فعدم العلم بالمعارض العقلي القطعي لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنكم إذا جوزتم على الرسول أن يقول قولا له معنى وهو لا يريده لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر ببال الخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بما أقررتموه ما يخالف مقتضاه وعدم العلم بما يعارضه من العقليات لا يستلزم عدم المعارض في نفس الأمر وهذا مما لا جواب لكم عنه.
فإن قلتم نتأول ما لا يعلم بالاضطرار أنه جاء به وأراده وما علم بالاضطرار أنه جاء به وأراد معناه أقررناه.
قيل لكم فخصومكم من أهل الباطل يقولون لكم فيما أقررتموه نحن لم نعلم أنه جاء بهذا ولا أراد معناه كما قلتم أنتم فيما تأولتموه سواء فدعواكم من جنس دعواهم لا فرق بينهما فما الذي جعل قولكم أولى بالصواب من قولهم واتباع الرسول وحزبه العالمون بما جاء به الذين هم خاصته يعلمون بالاضطرار من دينه أنه جاء بما يخالف تأويلاتكم وتأويلات إخوانكم وتعلمون بالضرورة أنها مناقضة لما جاء به مناقضة ظاهرة ولا يدعون عليكم أنكم تعلمون ذلك فإنكم لا علم لكم بما جاء به وأنتم من أبعد الناس عنه فإذا قلتم لا نعلم أنه جاء به صدقوكم في ذلك ولكن جهلكم بما جاء به وإعراضكم عنه لا يوجب مشاركتهم لكم في هذا الجهل فالمثبتون لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لعبده موسى حقيقة منه إليه بلا واسطة كلاما أسمعه إياه وتكليم عباده في الآخرة وتكليمه ملائكته وإثبات صفاته ورؤية المؤمنين له في الجنة من فوقهم عيانا جهرة بأبصارهم يعلمون أن نبيهم جاء بذلك ضرورة كما أنه جاء بالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش فكيف تنكرون ذلك لعدم علمكم ولما علم أئمة هؤلاء وفضلاؤهم أن هذا لازم لا محالة صرحوا بأنه لا يستفاد من السمعيات علم ولا يقين إذ هي موقوفة على أمور عشرة ومنها نفي المعارض العقلي ولا سبيل إلى العلم بانتفائه وهذا أتم ما يكون من عزل الرسول عن موجب رسالته وبالله التوفيق.
الوجه الثامن عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعرضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلا طريقان إما طريق النظار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الكشف وما بدرك بالرياضة وصفاء الباطن وكل من هاتين الطريقتين باطلة أضعاف حقه وفيها من التناقض والاضطراب والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح فغاية أولئك عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء التصديق بالباطل وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم وحال هؤلاء تشبه حال الضالين ونهاية أولئك التعطيل والنفي ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد ولهذا لما وصل حذاقهم في طريقة النظر إلى آخرها ورأوا غوائلها وآفاتها ورأوها لا توصل إلى المطلوب الصحيح رجعوا إلى طريقة الوحي والآثار النبوية كما صرح به الرازي وابن أبي الحديد وأبو حامد وأبو المعالي وغيرهم واعترفوا في آخر الأمر أن الطرق كلها مسدودة إلا طريق الوحي والأثر.
الوجه التاسع عشر بعد المائة: أن يقال لمن جوز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟ هل تبادر إلى رده وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟ فلا بد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني لا سبيل لك إليه لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به فكيف تجزم مع ذلك بصحته فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان وهذا إنما نشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به يوضحه
الوجه العشرون بعد المائة: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل أو كشف أو منام أو إلهام لم يكن مؤمنا به قطعا وكان من جنس الذين قال الله فيهم { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَة ٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [4] بل قد يكون هؤلاء خيرا منهم من وجه فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعا مثل ما أوتيه الرسل وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه
هامش