→ العشر السابعة | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر الثامنة ابن قيم الجوزية |
العشر التاسعة ← |
الوجه الحادي والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفؤ له وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين واستحق بقيامها به أن يكون { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وهكذا كونه ليس له سمي أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ولا من يكافيه فيها ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه وكونه يمنته أو يسرته وأمامه أو وراءه لكان كل عدم مثلا له في ذلك فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات وأثبت لها مماثلة المعدومات فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض فإن العدم المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سمي فلو كان المراد بهذا نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه لكان ذلك وصفا له بغاية العدم فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحسنى حتى تفرد بذلك الكمال فلم يكن له شبه في كماله ولا سمي ولا كفوء فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا ولا يفعل فعلا ولا له وجه ولا يد ولا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر تحقيقا لمعنى ليس كمثله شيء وقال إخوانكم من الملاحدة ليس له ذات أصلا تحقيقا لهذا النفي وقال غلاتهم ولا وجود له تحقيقا لهذا النفي وأما الرسل وأتباعهم فقالوا إنه حي وله حياة وليس كمثله شيء في حياته وهو قوي وله القوة وليس مثله شيء في قوته وهو سميع بصير له السمع والبصر يسمع ويبصر وليس كمثله شيء في سمعه وبصره ومتكلم ومكلم وليس كمثله شيء في كلامه وتكليمه وله وجه ويدان وليس كمثله شيء وهو مستو على عرشه وليس كمثله شيء وهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال فإنه مدح له وثناء أثنى به على نفسه والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يثني به عليه ولا يكون كمالا له بل هو أنقص النقص وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى { لا تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلا نَوْمٌ } [1].
لكمال حياته وقيوميته وقوله { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [2] لكما غناه وملكه وربوبيته وقوله { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [3] { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [4] { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [5] لكمال عدله وغناه ورحمته وقوله { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [6] لكمال قدرته وقوله { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [7] { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [8] ونظائر ذلك لكمال علمه وقوله { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [9] لعظمته وإحاطته بما سواه وأنه أكبر من كل شيء وأنه واسع فيرى ولكن لا يحاط به إدراكا كما يعلم ولا يحاط به علما فيرى ولا يحاط به رؤية فهكذا ليس كمثله شيء هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال وهذا هو المعقول في نظر الناس وعقولهم وإذا قالوا فلان عديم المثل أو قد أصبح ولا مثل له في الناس أو ما له شبيه ولا له من يكافيه إنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات والأفعال والمجد بما لم يلحقه فيه غيره فصار واحدا من الجنس لا مثيل له ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذم والتنقص له فإذا أطلق ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها فهل يقول عاقل لمن لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا يتصرف بنفسه ولا يفعل شيئا ولا يتكلم ولا له وجه ولا يد ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل إنه لا شبيه له ولا مثل له وإنه وحيد دهره وفريد عصره ونسيج وحده وهل فطر الله الأمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك وهل كان رب العالمين أهل الثناء والمجد إلا بأوصاف كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه الحسنى وإلا فبماذا يثني عليه المثنون وبماذا يثني على نفسه أعظم مما يثني به عليه جميع خلقه ولأي شيء يقول أعرف خلقه به "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ومعلوم أن هذا الثناء الذي أخبر أنه لا يحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه وأشد إحصاء له فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيا مفصلا وذلك مما يحصيه المحصي بلا كلفة ولا تعب وقد فصله النفاة وأحصوه وحصروه.
الوجه الثاني والسبعون: أن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات ويضاد ثبوت الصفات والأفعال فلم ينف إلا أمرا عدميا أو ما يستلزم العدم فنفى السنة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية ونفى العزوب والخفاء المستلزم لنفي كمال العلم ونفي اللغوب المستلزم نفي كمال القدرة ونفي الظلم المستلزم لنفي كمال الغنى والعدل ونفي العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم ونفي الصاحبة والولد المستلزمين لعدم كمال الغنى وكذلك نفي الشريك والظهير والشفيع المقدم بالشفاعة المستلزم لعدم كمال الغنى والقهر والملك ونفي الشبيه والمثيل والكفؤ المستلزم لعدم التفرد بالكمال المطلق ونفي إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمين لعدم كمال عظمته وكبريائه وسعته وإحاطته وكذلك نفي الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه لاستلزام ذلك عدم غناه الكامل وإذا كان إنما نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم العدم علم أنه أحق بكل وجود وثبوت وكل أمر وجودي لا يستلزم عدما ولا نقصا ولا عيبا وهذا هو الذي دل عليه صريح العقل فإنه سبحانه له الوجود الدائم القديم الواجب لنفسه الذي لم يستفده من غيره ووجود كل موجود مفتقر إليه ومتوقف في تحقيقه عليه والكمال وجود كله والعدم نقص كله فإن العدم كاسمه لا شيء فعاد النفي الصحيح إلى نفي النقائص والعيوب ونفي المماثلة في الكمال وعاد الأمران إلى نفي النقص وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم العدم فتأمل هل نفى القرآن والسنة عنه سبحانه سوى ذلك وتأمل هل ينفي العقل الصحيح الذي لم يفسد بشبه هؤلاء الضلال الحيارى غير ذلك فالرسل جاءوا بإثبات ما يضاده وهو سبحانه أخبر أنه لم يكن له كفوا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد والصمد السيد الذي كمل في سؤدده ولهذا كانت العرب تسمي أشرافها بهذا الاسم لكثرة الصفات المحمودة في المسمى به قال شاعرهم:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة وذلك لكثرة خصال الخير فيه وكثرة الأوصاف الحميدة له ولهذا قال جمهور السلف منهم عبد الله بن عباس الصمد السيد الذي كمل سؤدده فهو العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته الحكيم الذي كمل حكمه الرحيم الذي كملت رحمته الجواد الذي كمل جوده ومن قال إنه الذي لا جوف له فقوله لا يناقض هذا التفسير فإن اللفظ من الاجتماع فهو الذي اجتمعت فيه صفات الكمال ولا جوف له فإنما لم يكن أحد كفوا له لما كان صمدا كاملا في صمديته فلو لم تكن صفات كمال ونعوت جلال ولم يكن له علم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يد ولا سمع ولا بصر ولا فعل يقوم به ولا يفعل شيئا البتة ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا فوق عرشه ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض ولا هو فعال لما يريد ولا يرى ولا يمكن أن يرى ولا يشار إليه ولا يمكن أن يشار إليه لكان العدم المحض كفوا فإن هذه الصفات منطبقة على المعدوم فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحق لم يكن صمدا وكان العدم كفوا له وكذلك قوله: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [10]. فأخبر أنه لا سمي له عقيب قول العارفين به { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [11].
فهذا الرب الذي له هذا الجند العظيم ولا ينزلون إلا بأمره وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك فهو الذي قد كملت قدرته وسلطانه وملكه وكمل علمه فلا ينسى شيئا أبدا وهو القائم بتدبير أمر السموات والأرض وما بينهما كما هو الخالق لذلك كله وهو ربه ومليكه فهذا الرب هو الذي لا سمي له لتفرده بكمال هذه الصفات والأفعال فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه إن هي إلا ألفاظ فارغة من المعاني فالعدم سمي له وكذلك قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [12] فإنه سبحانه ذكر ذلك بعد ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال { حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } [13] إلى قوله { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [14].
فهذا الموصوف بهذه الصفات والنعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والولاية وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير فهذا هو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء فالمثبت للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الذي يصفه سبحانه بأنه ليس كمثله شيء.
وأما المعطل النافي لصفاته وحقائق أسمائه فإن وصفه له بأنه ليس كمثله شيء مجاز لا حقيقة كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه ولهذا قال من قال من السلف إن النفاة جمعوا بين التشبيه والتعطيل فسموا تعطيلهم تنزيها وسموا ما وصف به نفسه تشبيها وجعلوا ما يدل على ثبوت صفات الكمال وكثرتها دليلا على نفيها وتعطيلها وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورا واغتر به من شاء الله وهدى الله من اعتصم بالوحي والعقل والفطرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه التاسع والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَة ِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [15] وقال تعالى { وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [16] فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده ولهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل أي أعلى من غيره فكيف يكون أعلى وهو عدم محض ونفي صرف وأي مثل أدنى من هذا تعالى الله عن قول المعطلين علوا كبيرا.
فمثل السوء لعادم صفات الكمال ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملا وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والعبادة لله والتوكل عليه والإنابة إليه والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والصبر والرضا والشكر وغير ذلك من الصفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة فلما سلبت تلك الصفات عنهم وهي صفات كمال صار لهم مثل السوء فمن سلب صفات الكمال عن الله وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته وسائر ما وصف به نفسه فقد جعل له مثل السوء ونزهه عن المثل الأعلى فإن مثل السوء هو العدم وما يستلزمه وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره ولما كان الرب تعالى هو الأعلى ووجهه الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وبصره وسائر صفاته عليا كان له المثل الأعلى وكان أحق به من كل ما سواه بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافآفالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة ونظير هذا القهر المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان فلا يكون القهار إلا واحدا إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق وإن قهره لم يكن كفؤا وكان القهار واحدا فتأمل كيف كان قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [17] وقوله { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [18] من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه فإن قلت قد فهمت هذا وعرفته فما حقيقة المثل الأعلى قلت قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين واستشكلوا قول السلف فيه فإن ابن عباس وغيره قالوا { مَثَلُ السَّوْءِ } العذاب والنار { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } شهادة أن لا إله إلا الله وقال قتادة هو الإخلاص والتوحيد وقال الواحدي هذا قول المفسرين في هذه الآية ولا أدري لم قيل للعذاب مثل السوء وللإخلاص المثل الأعلى قال وقال قوم المثل السوء الصفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار ولله المثل الأعلى الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد قال وهذا قول صحيح فالمثل كثيرا ما يرد بمعنى الصفة قاله جماعة من المتقدمين وقال ابن كيسان مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال والمثل الأعلى نحو قوله { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } [19] وقال ابن جرير { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } نحو قوله هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.
قلت المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا وعلم العالمين بها ووجودها العلمي والخبر عنها وذكرها وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه فهاهنا أربعة أمور ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر علمها العباد أو جهلوها وهذا معنى قول من فسره بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والتصور وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته وهذا معنى قول من قال من المفسرين أهل السماء يعظمونه ويحبونه ويعبدونه وأهل الأرض يعظمونه ويجلونه وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه وجحد صفاته من جحدها فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته قال تعالى: { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [20] فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل سواه.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [21]. { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [22].
فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام فللأصنام مثل السوء وله المثل الأعلى وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [23].
فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه. والأول مثل السوء للصنم وعابديه وقد ضرب سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة وبالحمر تارة وبالأنعام تارة وبأهل القبور تارة وبالعمي الصم تارة وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء وبالله التوفيق.
الوجه الثمانون: إن كل من عارض بين الوحي والعقل ورد نصوص الكتاب والسنة بالرأي الذي يسميه عقلا لا بد أن ينقض تلك النصوص المخالفة لعقله ويعاديها ويود أنها لم تكن جاءت وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله واشمأز لها قلبه والله يعلم ذلك من قلوبهم وهم يعلمونه أيضا حتى حمل جهما الإنكار والبغض لقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [24] على أن قال لو أمكنني كشطها من المصحف كشطتها وحمل آخربغض قوله: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [25] على أن حرفها وقرأها بالنصب وكلم الله موسى تكليما أي أن موسى هو الذي كلم الله وخاطبه والله لم يكلمه فقال له أبو عمرو ابن العلاء فكيف تصنع بقوله: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [26] فبهت المعطل وجرى بيني وبين بعض رؤساء هؤلاء مناظرة في مسألة الكلام فقال نحن وسائر الأمة نقول القرآن كلام الله لا ينازع في هذه الإضافة أحد ولكن لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلما ولا أنه يتكلم فمن أين لكم ذلك فقال له بعض من كان معي من أصحابنا قد قال النبي ﷺ: "إذا تكلم الله بالوحي" وقالت عائشة ولشأني كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى فرأيت الجهمي قد عبس وبسر وكلح وزوى وجهه عنه كالذي شم رائحة كريهة أعرض عنها بوجهه أو ذاق طعاما كريها مرا مذاقه وهذا أمر لم يزل عليه كل مبطل إذا واجهته بالحق المخالف له وصدمته به وقل من يتبصر منهم عند الصدمة الأولى ولهذا قال بعض السلف ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه وقال بعض رؤساء الجهمية إما بشر المريسي أو غيره ليس شيء أبغض لقولنا من القرآن فأقروا به ثم أولوه وقال بشر أيضا إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل وإذا احتجوا بالأخبار فادفعوها بالتكذيب وقال الإمام أحمد قل من نظر في الكلام إلا وفي قلبه غل على الإسلام.
وجاء أفضل متأخريهم فنصب على حصون الوحي أربعة مجانيق.
الأول: أنها أدلة لفظية لا تفيد اليقين
الثاني: أنها مجازات واستعارات لا حقيقة لها
الثالث: أن العقل عارضها فيجب تقديمه عليها
الرابع: أنها أخبار آحاد وهذه المسائل علمية فلا يجوز أن يحتج فيها بالأخبار ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية أو إظهارها وإشاعتها وقد يشترطون في أماكن يقفونها أن لا يقرأ فيها أحاديث الصفات وكان بعض متأخريهم وهو أفضلهم عندهم كلف بإعدام كتب السنة المصنفة في الصفات وكتمانها وإخفائها وبلغني عن كثير منهم أنه كان يهم بالقيام والانصراف عند ختم صحيح البخاري وما فيه من التوحيد والرد على الجهمية وسمع منه الطعن في محمد بن إسماعيل وما ذنب البخاري وقد بلغ ما قاله رسول الله وقال آخر من هؤلاء لقد شان البخاري صحيحه بهذا الذي أتى به في آخره ومعلوم أن هذه مضادة صريحة لما يحبه الله ورسوله من التبليغ عنه حيث يقول: "ليبلغ الشاهد الغائب".
وقال: "بلغوا عني ولو آية " وقال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزل الله لأنه يخالف ما يقولونه ويعارض ما حكمت به عقولهم وآراؤهم وهؤلاء الذين قال فيهم عمر إنهم أعداء السنن يوضحه.
هامش
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [البقرة 255]
- ↑ [فصلت46]
- ↑ [الكهف49]
- ↑ [غافر31]
- ↑ [ق38]
- ↑ [يونس61]
- ↑ [إبراهيم38]
- ↑ [الأنعام103]
- ↑ [مريم65]
- ↑ [مريم65، 64]
- ↑ [الشورى11]
- ↑ [الشورى6-1]
- ↑ [الشورى11]
- ↑ [النحل60]
- ↑ [الروم27]
- ↑ [الشورى11]
- ↑ [الروم27]
- ↑ [النور35]
- ↑ [البقرة 116]
- ↑ [النحل75]
- ↑ [النحل76]
- ↑ [الحج74، 73]
- ↑ [طه5]
- ↑ [النساء164]
- ↑ [الأعراف143]