→ العشر الثانية والعشرون | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر الثالثة والعشرون ابن قيم الجوزية |
العشر الرابعة والعشرون ← |
الوجه الحادي والعشرين والمائتان: إن هؤلاء الجهمية يقرون بظاهر من القول وينكرون حقيقته ويصدون عن سبيل الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل وينفرون من أحب الأشياء إلى الله وأكرمها عليه وأعظمها عنده وهو ذكره بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه ومدحه بها وحمده عليها بل يكفرون من يثني عليه بها وينسبونه إلى التشبيه والتجسيم ويستحلون منه مالا يستحله المحاربون من أعدائهم وذلك عين العداوة لله ولرسوله كما قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق أنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال ما عادى عبد ربه أشد عليه من أن يكره ذكره وذكر من يذكره ومن المعلوم أن ذكره سبحانه إنما يتم بإثبات حقائق أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله لا بألفاظ مجردة لا حقيقة لها.
فهؤلاء المعطلة النفاة أبعد شيء عن حقيقة ذكر الله كما هم أبعد شيء عن محبته كما أقروا بذلك على أنفسهم من أنه لا يحبه أحد ولا يحب أحدا فهم لا يحبونه ولا يذكرونه وإن ذكروه فإنما يذكرونه بالسلب والعدم الذي هو أنقص النقص وإن أحبوه فإنما يحبون ثوابه المنفصل لا ذاته ولا صفاته ولا يثبتون ألذ ما في الجنة وأطيب ما فيها وأعظم نعيمها وهو النظر إلى وجهه وسماع كلامه فهم عمدوا إلى لب الدين وقلبه فنبذوه وأبطلوه ووقفوا في طريق الرسل وعارضوهم في دعوتهم وبيانه
بالوجه الثاني والعشرين والمائتان: وهو أن دعون الرسل تدور على ثلاثة أمور: تعريف الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبه وكمال الذل له.
الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله رضاه عنهم وتجليه لهم ورؤيتهم وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضرتهم في مجالسهم.
فيثبت الأصل الأول بذكر أوصاف الرب تعالى ونعوت جلاله على التفصيل وإثبات حقائق أسمائه على وجه التفصيل ونفوا عنه ما يتضمن هذا الإثبات ويستلزمه كالنسيان واللغوب والظلم والسنة والنوم والمثل والكفوء والند والصاحبة والولد والسمي والجهمية عكسوا الأمر فسلبوا صفاته على التفصيل وأثبتوا له ما يتضمن نفي ذاته وصفاته.
وأما الأصل الثاني فإن الرسل أمرت الأمم بإدامة ذكره وشكره وحسن عبادته فصدت النفاة القلوب والألسنة عن ذكره بإنكار صفاته وهم في الحقيقة لا يشكرونه لأن الشكر إنما يكون على الأفعال وعندهم لا يقوم به فعل لأنه يستلزم حلول الحوادث به فلا يشكر على فعل يقوم به وإن شكروه فإنما يشكرونه على مفعولاته وهي منفصلة عنه فلم يشكر على أمر يقوم به عندهم.
وأيضا فإن رأس الشكر الثناء والحمد وقد اعترفوا بأنه لا حقيقة له إلا ما يقتضي فرح المحمود المثنى عليه وذلك في حقه محال عندهم كما تقدم حكاية لفظهم.
وكذلك هم منكرون لحقيقة عبادته وإن قاموا بصورها وظواهرها فإن حقيقة العبودية كمال محبته وكمال الذل له وهم قد أقروا بأنه لا يحبه أحد ولا يمكن أن يحب واحتجوا على ذلك بأن المحبة تستلزم المناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق وهذا إنكار لحقيقة لا إله إلا الله فأن الإله هو المألوه المستحق لغاية الحب بغاية التعظيم فنفوا هذا المعنى بتسميته مناسبة كما نفوا محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكرامته ورأفته ورحمته وضحكه وتعجبه بتسميتها كيفيان محسوسة ونفوا حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وعلمه بتسميتها أعراضا ونفوا أفعاله بتسميتها حوادث ونفوا علوه على خلقه واستوائه على عرشه والمعراج برسوله إليه بتسمية ذلك تجسيما وتركيبا.
وأما الأصل الثالث: وهو تعريف الأمم حالهم بعد الوصول إليه فإنهم أنكروا أجل ما فيه وأشرفه وأفضله وهو رؤية وجهه وسماع كلامه وإنما أثبتوا أمورا منفصلة يتنعم بها من الأكل والشرب والنكاح ونحوها ومما يوضح ذلك
الوجه الثالث والعشرون والمائتان: وهو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر قال: قيل يا رسول الله ﷺ أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن" فأخبر أن حمد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا كالرؤية الصالحة كما في الصحيح عن عبادة بن الصامت أنه سأل النبي عن قوله تعالى { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة ِ } [1] قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له فجعل حمد الناس له في اليقظة والرؤيا الصالحة في المنام بشارة له في الدنيا والبشارة نوع من الخبر وهو الخبر بما يسر فالحمد هو الخبر بما يسر المحمود ويفرحه فإنكار فرحه ولوازم فرحه إنكار للحمد في الحقيقة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي لما بعثه ومعاذا إلى اليمن قال لهما: "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا" وعند مسلم كان إذا بعث أحدا من الصحابة قال بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وذلك أن الكلام نوعان إنشاء وإخبار فأمرهم في الإخبار أن يبشروا ولا ينفروا وفي الإنشاء أن ييسروا ولا يعسروا فمن جعل المحمود والممدوح يحمد ويمدح بما لا يحبه ولا يفرح به فقد عطل حقيقة حمده ومدحه التي تعطيلها تعطيل لحقيقة الدين ومما يوضح ذلك
الوجه الرابع والعشرون والمائتان: وهو أن الحسن والقبح سواء عرف بالشرع أو بالعقل إنما يعود إلى الملائم والمنافي. والملائم يعود إلى الفرح ولوازمه والمنافي يعود إلى الغضب ولوازمه والمثبتون للحسن والقبح العقليين رأوا ما يعلمه العبد بضرورته وفطرته من حسن بعض الأعمال وقبح بعضها وأن ذلك من لوازم الفطرة فأثبتوه ولكن أخطأوا في موضعين.
أحدهما قياس الخالق على المخلوق في ذلك وأن ما حسن وقبح منهم حسن وقبح منه وكذلك كانوا مشبهة لأفعال معطلة الصفات.
الموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك من الفرح والرضى والمحبة وتسميتهم ذلك لذة وألما وكيفيات نفسانية.
وأما النفاة فأصابوا في الفرق بين الله وبين الخلق وأن لا يقاس بخلقه ولا يلزم أن ما حسن وقبح منهم يقبح ويحسن منه وأصابت أيسضا في رد ذلك إلى الملائمة والمنافرة وأخطأت في موضعين: أحدهما سلب الأفعال صفاتها التي باعتبارها كانت حسنة وقبيحة وجعلهم ذلك مجرد نسب وإضافات عدمية.
والموضع الثاني نفيهم لوازم ذلك عن الرب تعالى من محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكراهته ومقته بتسميتها ذلك لذة وألما والفريقان جميا لم يهتدوا في تحقيق المسألة إلى أن كل حسن وقبح ثبت بشرع أو عقل أو عرف أو فطرة فإنما يعود إلى الملائمة والمنافرة ولم يهتدوا أيضا إلى ثبوت الحسن في أفعال الله بمعنى محبته ورضاه وفرحه وأنه لا يفعل إلا ما يمدح على فعله ويحمد عليه وحمده ومدحه خبر بما يرضى به ويفرح به ويحبه وأنه منزه عن أن يفعل ما يذم عليه والذم هو الخبر المتضمن لما يؤذي المذموم ويؤلمه وإن كان أعداؤه من المشركين يؤذونه ويشتمونه كما في الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم في الصحيح أيضا يقول الله شتمني عبدي ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فزعم أني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ومن ذلك قول أعدائه إنه فقير وإن يده مغلولة وإنه اتخذ صاحبة وولدا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وحينئذ فنقول في
الوجه الخامس والعشرين والمائتان: إنه سبحانه كما يبغض هذا الإفك والباطل الذي قاله فيه أعداؤه ويشتد غضبه منه ويؤذيه ذلك إذ لا ينقصه كما أخبر به عن نفسه بقوله "يؤذيني ابن آدم" فهو سبحانه يفرح بثناء المثني عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أعظم فرح ويرضى به ويحبه وإذا كان يفرح بتوبة التائب أعظم فرح يقدر فكيف فرحه سبحانه بالثناء عليه وحمده ومدحه وتمجيده بما يصفه به أعداؤه مما لا يليق بكماله مما يتضمن فرحه ومحبته ورضاه أعظم من ذلك فإن محبته تغلب غضبه وفضله أوسع من عدله وهو سبحانه كما أنه موصوف بكل كمال فهو منزه عن كل نقص وعيب فكما أنه موصوف في أفعاله بكل حمد وحكمة وغاية محمودة فهو منزه فيها عن كل عيب وظلم وقبيح وبهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال وأن يكون محمودا على المكاره كما هو محمود على المحاب كما في صحيح الحاكم وغيره من حديث عائشة قالت كان النبي ﷺ إذا أتاه الأمر يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال". واللفظ العام إذا ورد على سبب وجب دخول السبب فيه فيوجب هذا الحمد أنه محمود على هذا الأمر المكروه لأنه حسن منه وحكمة وصواب فيستحق أن يحمد عليه وممايوضح ذلك
الوجه السادس والعشرون والمائتان: وهو أن النبي جمع بين محبة الرب سبحانه للمدح ومحبته للعذر كما في حديث المغيرة بن شعبة "لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الجنة " وكذلك جمع بينهما في حديث ابن مسعود فهو سبحانه شديد المحبة لأن يحمد وأن يعذر ومن محبته للعذر إرسال رسله وإنزال كتبه ومن محبته للحمد ثناؤه على نفسه فهو يحب أن يعذر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ولا يلام على ذلك ولا يذم عليه ولا ينسب فيه إلى جور ولا ظلم كما يحب أن يحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته وحمده متضمن هذا وهذا فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه كما قال تعالى { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [2] فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عقيب قضائه بالحق بين الخلائق وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره وحذف فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه حتى لا يسمع إلا حامد له من أوليائه وأعدائه كما قال الحسن البصري لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده وأقام عليهم الحجة وجمع ﷺ في الحديث بين ما يحبه ويبغضه فإنه قال فيه: "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه" فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة فأخبر أنه لا أحد أغير منه وأن من غيرته حرم الفواحش ولا أحد أحب إليه المدحة منه والغيرة عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية فيستحيل وصفه عندهم بذلك ومعلوم أن هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة وأضدادها مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة فإن الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشة وتركها مذموم غاية الذم مستحق للذم القبيح وهؤلاء المعطلة النفاة لحقيقة محبته ورضاه وغضبه عندهم الأمران سواء بالنسبة إليه وأن ما وجد من ذلك فهو يحبه ويرضاه وما لم يوجد من طاعاته وامتثال أوامره فهو يبغضه ويسخطه بناء على أصلهم الفاسد أن المحبة هي عين الإرادة والمشيئة فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه وإذا جاء هؤلاء إلى النصوص الدالة علىلا أنه لا يرضى بها ولا يحبها ولا يريدها ألوها بميعنى أنه لا يشرعها ولا يأمر بها ولا يحبها ولا يرضاها دينا وهو التأويل الأول بتغيير العبارة وحينئذ فنقول في
الوجه السابع والعشرين والمائتان: إنه سبحانه عما يقول الجاهلون به إذا كان لا يفرح ولا يرضى بمدحه وحمده الثناء عليه ولا يغضب ولا يسخط ويبغض شتمه وما قال فيه أعداؤه بل نسبة الأمرين إلى ذاته وصفاته بنسبة واحدة إذ لو حصل فيه سبحانه فرح ورضى ومحبة من ذلك وغضب وسخط وكراهة من هذا للحقته الكيفيات النفسية كان لا فرق عنده بين الحسن والقبيح والمدح والذم وهذا غاية النقص والعيب شرعا وعقلا وفطرة وعادة ومن كلام الشافعي من استرضي ولم يرض فهو جبار ومن استغضب ولم يغضب فهو حمار وهذا يدل على موت القلب وبطلان الحسن وفقد الحياة ولهذا كان أكمل الناس حياة أشدهم حياء وكان رسول الله ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها لكمال حياة قلبه والله سبحانه الحي القيوم وقد وصف نفسه بالحياء ووصفه سوله فهو الحيي الكريم كما قال النبي ﷺ: "إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا" وقالت أم سليم يا رسول الله ﷺ إن الله لا يستحي من الحق وأقرها على ذلك وقال النبي ﷺ: "إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن". والحياء عند هؤلاء من الكيفايات النفسانية فلا يجوز عندهم وصف القديم بها ولمقصود أنه كلما كانت صفات الكمال في الحي كان فرحه ومحبته ورضاه وغضبه ومقته أكمل ولهذا كان النبي ﷺ إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وفي الأثر إن موسى كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته وكان أشد بني إسرائيل حياء حتى أنه لا يغتسل إلا وحده من شدة حيائه.
وذا كانت هذه صفات كمال فلا يجوز سلبها عمن هو أحق بالكمال المطلق من كل أحد بمجرد تسميتها كيفيات نفسية وأعراضا وانفعالات ونحو ذلك فإن هذا من اللبس والتلبيس وتسمية المعاني الصحيحة الثابتة بالأسماء القبيحة المنفرة وتلك طريقة للنفاة مألوفة وسجية معروفة وإذا عرف هذا تبين أن هؤلاء المعطلة النفاة أضاعوا حق الله الذي يستحقه لنفسه والذي بعث به رسله وأنزل به كتبه والذي هو أصل دينه ومنتهى عبادته بما هم متناقضون فيه.
وقد سبق لك أنهم معترفون بما فطر الله عليه خلقه أن المدح يتضمن فرح الممدوح ولوازمه ولهذا لزمهم القول بخلاف ما يعلم بالضرورة من دين الرسل من أولهم إلى آخرهم إن الله لا يفرح بمدحه وحمده وتمجيده والثناء عليه ولا يرضى نفسه بذلك ولا يكون محبوبا له على الحقيقة وهذا هم معترفون به لا يتحاشون منه ولا يستكنفون من إطلاقه وإنما العجب تصريحهم بأنه لا يمدح بمدح والمدح هو أصل الثناء والحمد.
وقد صرحوا باستحالة ذلك في حقه كما قالوا المدح هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به ويلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به ويتألم به قالوا وإذا فسرنا المدح والذم بذلك استحال تصورهما في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والغم عليه وقد أبطل فأضلهم طرق الناس وعول على هذه الطريقة كما تقدم حكاية لفظه وهذا اعتراف منه بأنه ليس للمدح والذم حاصل إلا ما لا يتصور في حق الله فلا يتصور عنده أن يكون الله محمودا ممدوحا بحال ومعلوم أن فساد هذا في دين الرسل كلهم وجميع فطر بني آدم من أوضح الواضحات وحينئذ فنقول في
الوجه الثامن والعشرين والمائتان: قولكم إن المدح يستحيل تصوره في حق الله من أوضح الكفر وأقبح المعاداة لله والمناقضة لكتبه ورسله واستدلالكم على ذلك بأن الفرح يستحيل عليه أبطل وأبطل بل قد علم بالاضطرار عقلا وفطرة وشرعا أن المستحق لغاية المدح الكامل المطلق هو الرب سبحانه فهذا أحق الحق ولازمه حق فإنه لا يلزم من الأحق إلا حق فإن كان الفرح لازما لهذا المدح فهو حق وقد أثبته له سبحانه أعلم خلقه وأعرفهم وبصفاته وما يجب له ويمتنع عليه وقرب فرحه سبحانه إلى الأذهان بما هو أعظم من أنواع الفرح وهو فرحه بتوبة التائب إليه فكيف بما هو أعظم من ذلك من حمد الحامدين له ومدحهم له وثنائهم عليه فإذا كان المدح مستلزما للفرح وقد علم أنه يستحق المدح أجمع علم أنه يفرح بمدحه وإثبات الملزوم ونفي لازمه محال ولهذا لما تفطن هؤلاء لذلك علموا أنه لا يمكن إثبات الملزوم ونفي لازمه صرحوا بنفي اللازم والملزوم وقالوا يستحيل ثبوت المدح والفرح في حقه فنقول في
الوجه التاسع والعشرين والمائتان: إنه من المعلوم أن كونه سبحانه يستحق المدح والمحامد أبين في الشرع والعقل والفطرة من كونه لا يفرح والواجب أن يستدل بالمعلوم على المجهول وبالواضح على الخفي أما أن يستدل بانتفاء الفرح على انتفاء كونه مستحقا للمدح فهذا من أبطل الباطل وهو خروج عن مقتضى السمع والعقل وهو من فعل أهل التلبيس والتدليس وإذا تبين ذلك عرف أن هؤلاء الجهمية المعطلة الذي يذكرون ما وصف الله به نفسه من الرضى والفرح يلزم لزوما بينا أن يجحدوا حمده سبحانه ومدحه والثناء عليه واستحقاقه لذلك بموجب هذه القضية الكاذبة الباطلة التي قرروها وهذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحق ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه والحمد لله رب العالمين.
الوجه الثلاثون والمائتان: أن يقال قولكم إن المدح والذم لا معنى لهما إلا بمجرد الخبر عن استحقاق ما يفرح ويؤلم ليس كذلك والتحقيق أن فيهما معنى زائدا على الخبر المجرد سواء دل اللفظ على ذلك المعنى الزائد بالتضمن أو باللزوم فإن الحامد المادح يقترن بحمده ومدحه محبة المحمود والرضى عنه وتعظيمه وكذلك الذام يقترن بذمه بغض المذموم وتنقصه وقلاه ولهذا فسر كثير من الناس الحمد بالرضى واختاره الآمدي في ابكاره وغيره فالآمدي فسره بالرضى وهو من باب الإرادات والرازي فسره بالخبر وهو من باب الاعتقادات والتحقيق أن الحمد والذم يتمضن الأمرين جميعا فالمادح يعتقد أن في الممدوح والمحمود ما يحبه ويرضى به ويفرح به ويكون مع هذا الاعتقاد والخبر في قلبه من محبته والرضا به والفرح ما استحق به أن يكون حامدا له ومادحا وهذا أمر يجده الحامد المادح من نفسه إذا كان مادحا بحق وصدق بخلاف المدح بالباطل فإنه كذب لا يستلزم شيئا من ذلك فالمدح والحمد أصلهما الخبر ويتبعه الحب والرضا والذم أصله الخبر ويتبعه البغض والسخط والصلاة على من يصلى عليه أصلها الطلب والإرادة ويتبعها الخبر ولعنة من يلعن أصلها طلب إهانته وإقصائه ويتبعها الخبر وهذان النوعان من الخبر وهما الإخبار عن الشيء بالخبر السيء وطلب السوء له والإخبار عنه بالخبر الحسن وطلب الخير له الأول أصل اللعن والثاني أصل الصلاة وهو سبحانه يلعن أعداءه ومن يفعل ما يبغضه ويسخطه ويصلي على أوليائه وأهل طاعته وذكره وفي صحيح مسلم عنه ﷺ: "لا يكون الطعانون واللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة " فإن الشهادة من باب الخبر والشفاعة من باب الطلب ومن يكون كثير الطعن على الناس وهو الشهادة عليهم بالسوء وكثير اللعن لهم وهو طلب السوء لهم لا يكون شهيدا عليهم ولا شفيعا لهم لأن الشهادة مبناها على الصدق وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير وذلك لا يكون ممن يكثر اللعن لهم ويترك الصلاة عليهم ومن أعظم أسباب سعادة العبد أن يكون موافقا لربه سبحانه في صلاته على من صلى عليه ولعنته لمن لعنه كما في مسند الإمام أحمد وصحيح الحاكم من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ علمه وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباح لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك ومنك وإليك اللهم فما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأعوذ بك فأن أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى علي أو أكسب خطيئة أو ذنبا لا تغفره اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا وأشهدك وكفى بك شهيدا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك وأشهد أن وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنك تبعث من في القبور وأنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" فهذه ثلاثون وجها مضافة إلى المائتين فصارت مائتين وثلاثين وجها تبطل معارضتهم للنصوص بالتوهمات والظنون الكاذبة التي يسمونها عقليات.
هامش