→ العشر الثالثة | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة العشر الرابعة ابن قيم الجوزية |
العشر الخامسة ← |
الوجه الحادي والثلاثون: إن حكمك بتوقف دلالة الدليل على معرفة الإعراب والتصريف خطأ ظاهر فإن من عرف أن لله الأسماء الحسنى كالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن وأن الاسم يدل على المسمى في لغة العرب لم يتوقف في العلم بدلالة هذه الأسماء على الرب سبحانه على معرفته بأن الاسم مشتق من السمو أو من السمة والاختلاف بين البصريين والكوفيين في ذلك ومعرفة أرجح القولين فإن جماهير أهل الأرض يعرفون أن الله اسم لذات الخالق فاطر السموات والأرض ولا يعرفون تصريف الاسم واشتقاقه وأما الإعراب فهؤلاء العامة يجزمون ويتيقنون مراد مكلمهم بكلامه ولا يتوقف ذلك على معرفتهم بوجوه الإعراب.
فإن قلت إنما كلامنا في كلام العرب الفصحاء الذين يتوقف فهم معاني كلامهم على الإعراب قيل ما يتوقف عليه فهم كلامهم من الإعراب سجية وطبيعة لهم وأما من بعدهم فقد نقل إلينا ذلك نقلا متواترا عنهم كما نقل إلينا معاني مفردات ألفاظهم.
الوجه الثاني والثلاثون: قولك إن ذلك يتوقف على نفي التخصيص والإضمار فهذا لا يحتاج إليه في فهم معاني الألفاظ المفردة فإنها تدل على مسماها دلالة سائر الألفاظ على معانيها كدلالة الأعلام ولفظ العدد وأسماء الأزمنة والأمكنة والأجناس على موضوعاتها.
واحتمال كون اللفظ العام خاصا كاحتمال كون اللفظ الذي له حقيقة مستعملا في غير حقيقته وهذا منفي بالأصل ولا يحتاج في فهم ما هو جار على أصله إلى أن يعلم انتفاء الدليل الذي يخرجه عن أصله وإلا لم يفهم مدلول لفظ أبدا لجواز أن يكون خرج عن أصل موضوعه بنقل أو مجاز أو غير ذلك ولو ساغ ذلك لم يكن أحد يحتج بدليل شرعي لجواز أن يكون منسوخا وهو لا يعلم ناسخه ولم يشهد أحد لأحد بملك لجواز أن يكون خرج عن ملكه ببيع أو تبرع ولم يشهد أحد لأحد بزوجية امرأة ولا رق عبد لجواز أن يكون طلق وأعتق وفتح باب التجويزات لا آخر له ولا ثقة معه البتة.
وهذا الباب قد دخل منه على الإسلام مدخل عظيم وخطب جسيم وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلقون به ولا تزال تعمد كل طائفة منهم إلى آية من كتاب الله فيقودها إلى مذهبه الذي يدعو إليه ويدعي أن لها دلالة خاصة عليه وكذلك يفعل في كثير من الأخبار التي يجرها إلى معتقده.
وليست المحنة التي عرضت في هذا الباب مقصورة على أهل الإسلام فقط بل هي مشتركة بين جميع أهل الأديان والملل ومن أعطى التأمل حقه وجد أكثر ما ادعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها وتغليب الخصوص على العموم وادعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذهابا منهم في ذلك إلى أن البيان الشافي إنما هو في المعنى الخاص دون العام وأنه المتيقن من اللفظ فإن طفر به وإلا قال المراد خاص مجمل فتعطل دلالة اللفظ العام الكلي بهذه الطريق كما تعطل دلالة اللفظ على حقيقته باحتمال إرادة المجاز والاستعارة ودلالة أوامر الله ورسوله على وجوب الإمتثال باحتمال إرادة الاستحباب ومطلق الرجحان ودلالة نواهيه على التحريم باحتمال دلالتها على مجرد الكراهة وترك الأولى ودلالة النص الصريح الذي لا يحتمل غير معناه باحتمال كونه منسوخا فقد أعد لكل دليل قانونا يدفع به دلالته فإن كان خبر واحد قال يحتمل أن يكون راويه كذب أو أخطأ فإن أعجزه القدح في راويه لشهرته بالصدق والعدالة قال لعله رواه بالمعنى الذي فهمه وهو غير فقيه فإذا عارضه القياس كان المصير إليه أولى كما قال هؤلاء إذا عارض النص العقل كان المصير إليه أولى فإن غلب وأمكنه ادعاء انعقاد الإجماع على خلافه عارضه بالإجماع فإن غلب عن ذلك عارضه باحتمال النسخ فإن غلب عارض دلالته بالاحتمالات وأنواع التأويلات فلله ما لقيت النصوص من هذه الفرق وأرباب التأويلات والمتعصبين لمذاهبهم وإلى منزلها الشكاية وبه المستعان وعليه التكلان.
الوجه الثالث والثلاثون: إن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذكر يبطل حجج الله على خلقه بآياته ويبطل أوامره ونواهيه وفائدة أخباره ونحن نبين ذلك بحمد الله بيانا شافيا ونقدم قبل بيانه مقدمة بين يديه وهي ذكر الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن وهي عشرة أقسام
القسم الأول: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأنه واحد لا شريك له وما يتبع ذلك.
القسم الثاني: ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خلق وذرأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريته وأصناف خليقته محتجا به على من ألحد في أسمائه وتوحيده وعطله عن صفات كماله وعن أفعاله وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها.
القسم الثالث: ما اشتمل عليه بدء الخلق وإنشاؤه ومادته وابتداعه له وسبق بعضه على بعض وعدد أيام التخليق وخلق آدم وإسجاد الملائكة وشأن إبليس وتمرده وعصيانه وما يتبع ذلك
القسم الرابع: ذكر المعاد والنشأة الأخرى وكيفيته وصورته وإحالة الخلق فيه من حال إلى حال وإعادتهم خلقا جديدا.
القسم الخامس: ذكر أحوالهم في معادهم وانقسامهم إلى شقي وسعيد ومسرور بمنقلبه ومثبور به وما يتبع ذلك. القسم السادس ذكر القرون الماضية والأمم الخالية وما جرى عليهم وذكر أحوالهم مع أنبيائهم وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المثلات وما حل بهم من العقوبات ليكون ما جرت عليه أحوال الماضين عبرة للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.
القسم السابع: الأمثال التي ضربها لهم والمواعظ التي وعظهم بها ينبههم بها على قدر الدنيا وقصر مدتها وآفاقها ليزهدوا فيها ويتركوا الإخلاد إليها ويرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم.
القسم الثامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم وبيان ما فيه طاعته ومعصيته وما يحبه من الأعمال والأقوال والأخلاق وما يكرهه ويبغضه منها وما يقرب إليه ويدني من ثوابه وما يبعد منه ويدني من عقابه وقسم هذا القسم إلى فروض فرضها وحدود حدها وزواجر زجر عنها وأخلاق وشيم رغب فيها.
القسم التاسع: ما عرفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم ومكايده لهم وما يريده بهم وعرفهم إياه من طريق التحصن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم وما يتداركون به ما أصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه وما يتبع ذلك.
القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده عن أوامره ونواهيه وما اختصه به من الإباحة والتحريم وذكر حقوقه على أمته وما يتعلق بذلك فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن وإذا تأملت الألفاظ المتضمنة لها وجدتها ثلاثة أنواع.
أحدها: ألفاظ في غاية العموم فدعوى التخصيص فيها يبطل مقصودها وفائدة الخطاب بها. الثاني: ألفاظ في غاية الخصوص فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.
الثالث: ألفاظ متوسطة بين العموم والخصوص فالنوع الأول كقوله { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [1] و { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [2] و { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [3] وقوله { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } [4] و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [5] و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة ٍ } [6] وأمثال ذلك والنوع الثاني كقوله { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [7] وقوله { قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } [8] وقوله { وَامْرَأَة ً مُؤْمِنَة ً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَة ً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [9] والنوع الثالث كقوله { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [10] وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } [11] و { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } [12] و { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } [13] ونحو ذلك مما يخص طائفة من الناس دون طائفة وهذا النوع وإن كان متوسطا بين الأول والثاني فهو عام فيما قصد به ودل عليه.
وغالب هذا النوع أو جميعه قد علقت الأحكام فيه بالصفات المقتضية لتلك الأحكام فصار عمومه لما تحته من جهتين من جهة اللفظ والمعنى فتخصيصه ببعض نوعه إبطال لما قصد به وإبطال دلالته إذ الوقف فيها لاحتمال إرادة الخصوص به أشد إبطالها وعودا على مقصود المتكلم به بالإبطال فادعى قوم من أهل التأويل في كثير من عمومات هذا النوع التخصيص وذلك في باب الوعد والوعيد وفي باب القضاء والقدر أما باب الوعيد فإنه لما احتج عليهم الوعيديه بقوله { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } [14] وبقوله { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [15] وأمثال ذلك لجأوا إلى دعوى الخصوص وقالوا هذا في طائفة معينة ولجأوا إلى هذا القانون وقالوا الدليل اللفظي العام مبني على مقدمات منها عدم التخصيص وانتفاؤه غير معلوم وأما باب القدر فإن أهل الإثبات لما احتجوا على القدرية بقوله { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [16] وقوله { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [17] ونحوه ادعوا تخصيصه وأكثر طوائف أهل الباطل ادعاء لتخصيص العمومات هم الرافضة فقل أن تجد في القرآن والسنة لفظا عاما في الثناء على الصحابة إلا قالوا هذا في علي وأهل البيت وهكذا تجد كل أصحاب مذهب من المذاهب إذا ورد عليهم عام يخالف مذهبهم ادعوا تخصيصه وقالوا أكثر عمومات القرآن مخصوصة وليس ذلك بصحيح بل أكثرها محفوظة باقية على عمومها.
فعليك بحفظ العموم فإنه يخلصك من أقوال كثيرة باطلة وقد وقع فيها مدعو الخصوص بغير برهان من الله وأخطأوا من جهة اللفظ والمعنى أما من جهة اللفظ فلأنك تجد النصوص التي اشتملت على لا وعيد أهل الكبائر مثلا في جيمع آيات القرآن خارجة بألفاظها مخرج العموم المؤكد المقصود عمومه كقوله { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } [18] وقوله { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } [19] وقوله { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } [20] و { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرًّا يَرَهُ } [21] وقد سمى النبي هذه الآية جامعة فاذة أي عامة فذة في بابها وقوله { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [22] وقوله { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى } وقوله { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } [23] وأضعاف أضعاف ذلك من عمومات القرآن المقصود عمومها التي إذا أبطل عمومها بطل مقصود عامة القرآن ولهذا قال شمس الأئمة السرخسي إنكار العموم بدعة حدثت في الإسلام بعد القرون الثلاثة.
وأما خطؤهم من جهة المعنى فلأن الله سبحانه إنما علق الثواب والعقاب على الأفعال المقتضية له اقتضاء السبب لمسببه وجعلها عللا لأحكامها والاشتراك في الموجب يقتضي الاشتراك في موجبه والعلة إذا تخلف عنها معلولها من غير انتفاء شرط أو وجود مانع فسدت بل يستحيل تخلف المعلول عن علته التامة وإلا لم تكن تامة ولكن غلط ها هنا طائفتان من أهل التأويل الوعيدية حيث حجرت على الرب تعالى بعقولها الفاسدة أن يترك حقه ويعفو عن من يشاء من أهل التوحيد وأوجبوا عليه أن يعذب العصاة ولا بد وقالوا إن العفو عنهم وترك تعذيبهم إخلال بحكمته وطعن في خبره وقابلتهم الطائفة الآخرى فقالوا لا نجزم بثبوت الوعيد لأحد فيجوز أن يعذب الله الجميع وأن يعفو عن الجميع وأن ينفذ الوعيد في شخص واحد يكون هو المراد من ذلك اللفظ ولا نعلم هل هذه الألفاظ للعموم أو للخصوص وهذا غلو في التعطيل والأول غلو في التقييد والصواب غير المذهبين وأن هذه الأفعال سبب لما علق عليها من الوعيد والسبب قد يتخلف عن مسببه لفوات شرط أو وجود مانع والموانع متعددة منها ما هو متفق عليه بين الأمة كالتوبة النصوح ومنها الحسنات الماحية والمصائب المكفرة وما يلحق العبد بعد موته من ثواب تسبب إلى تحصيله أو دعاء أو استغفار له أو صدقة عنه ومنها شفاعة بإذن الله فيها لمن أراد أن يشفع فيه ومنها رحمة تدركه من أرحم الراحمين يترك بها حقه قبله ويعفو عنه وهذا لا يخرج العموم عن مقتضاه وعمومه ولا يحجر على الرب تعالى حجر الوعيدية والقدرية وللرد على الطائفتين موضع غير هذا والمقصود أن الأقسام الثلاثة التي تضمنها القرآن وهي الأعم والعام والأخص كل منها يفيد العلم بمدلوله ولا يتوقف فهم المراد منه على العلم بانتفاء المخصص والإضمار والحذف والمجاز فإن ذلك يبطل أحكام تلك الأقسام العشرة التي اشتمل عليها القرآن وتحول بين الإنسان وبين فائدتها مع كونها أهم الأمور والعناية الإلهية بها أشد وبيانها واقع موقع الضرورة فلو صح قول القائل إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يحصل لنا اليقين من القرآن في شيء من تلك الأقسام العشرة البتة وهذا من أبطل الباطل وأبين الكذب.
الوجه الرابع والثلاثون: إنك تجد عند كثير من المعروفين بالتفسير من رد كثير من ألفاظ القرآن عن العموم إلى الخصوص نظير ما تجده من ذلك عند أرباب التأويلات المستنكرة ومتى تأملت الحال فيما سوغوه من ذلك وجدتها عائدة من الضرر على الدين بأعظم مما عاد من ضرر كثير من التأويلات وذلك لأنهم بالقصد إلى ذلك فتحوا لأرباب التأويلات الباطلة السبيل إلى التهافت فيها فعظمت بذلك الجناية من هؤلاء وهؤلاء على الدين وأهله.
وتجد الأسباب الداعية للطائفتين قصد الإغراب على الناس في وجوه التفسير والتأويل وادعاؤهم أن عندهم منها نوادر لا توجد عند عامة الناس لعلمهم أن الأمر الظاهر المعلوم يشترك الناس في معرفته فلا مزية فيه والشيء النادر المستظرف يحل محل الإعجاب وتتحرك الهمم لسماعه واستفادته لما جبل الناس عليه من إيثار المستظرفات والغرائب وهذا من أكثر أسباب الأكاذيب في المنقولات والتحريف لمعانيها ونحلتها معاني غريبة غير مألوفة وإلا فلو اقتصروا على ما يعرف من الآثار وعلى ما يفهمه العامة من معانيها لسلم علم القرآن والسنة من التأويلات الباطلة والتحريفات وهذا أمر موجود في غيرهم كما تجد المتعنتين بوجه القرآن يأتون من القراءات البديعة المستشنعة في ألفاظها ومعانيها الخارجة عن قراءة العامة وما ألفوه ما يغربون به على العامة وأنهم قد أوتوا من علم القرآن ما لم يؤته سواهم وكذلك أصحاب الإعراب يذكرون من الوجوه المستكرهة البعيدة المتعقدة ما يغربون به على الناس وكذلك كثير من المفسرين يأتون بالعجائب التي تنفر عنها النفوس ويأباها القرآن أشد الإباء كقول بعضهم طه لفظة نبطية معناها يا رجل ويا إنسان وقال بعضهم هي من أسماء النبي مع يس وعدوا في أسمائه طه ويس وقال بعضهم في نون والقلم إنها الدواة كأنه لما رأى هذا الحرف قد اقترن بالقلم جعله الدواة وقال بعضهم في صاد إنها فعل ماض مثل رام وقاض وكما قال بعضهم في قوله { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا } [24] هو الذي له سحر أي رئة افترى أراد بقوله لموسى { إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } [25] هذا المعنى وأراد الكفار بقولهم { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [26] هذا المعنى وكما قال آخرون في قوله: { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ِ } [27] أن المعنى يرزقه واستشهدوا بقولهم أرض منصورة أي ممطورة ولو تأمل هذا القائل سياق الآية وآخرها لعلم أن تفسير النصر بالرزق يزيل معنى الآيات عن وجهه الذي قصد به وقال آخرون في قوله: { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [28] أي بدرعك وننجيك نلقيك على نجوة من الأرض وقال آخرون في قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [29] إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك وقال آخرون في قوله: { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [30] إنهم الزراع وهل أطلق سبحانه الكفار في موضع واحد على غير الكافرين به وكما قيل في قوله: { نُورِهِ كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [31] إن المشكاة هذا الموضع الذي يشكو المتعبد فيه إلى الله وأضعاف أضعاف ذلك من التفاسير المستنكرة المستكرهة التي قصد بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يتعارفه الناس كحقائق السلمي وغيره مما لو تتبع وبين بطلانه لجاء عدة أسفار كبار ولولا قصد الإغراب والإتيان بما لم يسبق إليه غيره لما أقدم على ذلك كما قال بعض الرافضة في قوله { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } [32] هما علي وفاطمة، { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } [33] هو النبي ﷺ، { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [34] هما الحسن والحسين.
وجناية هؤلاء على القرآن جناية عظيمة. وبسبب ما اعتمدوه قال القائل كلام الله لا يستفاد منه يقين لاحتمال اللفظة منه عدة وجوه وقد فسرت بذلك كله ولو شرح كتاب من كتب العلوم هذا الشرح لأفسده الشارح على صاحبه ومسخ مقاصده وأزالها عن مواضعها والمقصود أن حمل عمومات القرآن على الخصوص تعطيل لدلالتها وإخراج لها عما قصد بها وهضم لمعناها وإزالة لفائدتها كقول بعضهم في قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [35] إن المراد به علي بن أبي طالب
وهذا كذب قطعا على الله أنه أراد عليا وحده بهذا اللفظ العام الشامل لكل من اتصف بهذه الصفة وقول هذا القائل أو غيره في قوله تعالى { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } [36] إنه علي بن أبي طالب.
وفي قوله { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [37] إنه علي بن أبي طالب. وقول الآخر في قوله { مُحَمَّدٌ رسول الله ﷺ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } عمر بن الخطاب
{ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } أبو بكر، { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } عثمان { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } [38] علي.
وقول الآخر في قوله { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [39] هم الخبز
وفي قوله { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [40] إنها أرض فلسطين والأردن وفي قوله { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [41] هو "أما بعد"، فهضموا هذا المعنى العظيم لإعطائه الحق في أتم بيان.
وفي قوله { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [42] المراد به المشط ومن هذا يضع الرافضة المشط بين أيديهم في الصلاة.
فصل وقد يقع في كلام السلف تفسير اللفظ العام بصورة خاصة على وجه التمثيل لا على تفسير معنى اللفظة في اللغة بذلك فيغير به المعنى فيجعله معنى اللفظة في اللغة كما قال بعضهم في قوله { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [43] إنه الماء البارد في الصيف فلم يرد به أن النعيم المسؤول عنه هو هذا وحده.
وكما قيل في قوله { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [44] إنه القدر والفأس والقصعة فالماعون اسم جامع لجميع ما ينتفع به فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلا وتنبيها بالأدنى على الأعلى فإذا كان الويل لمن منع هذا فكيف بمن منع ما الحاجة إليه أعظم وإذا كان العبد يسأل عن شكر الماء البارد فكيف بما هو أعظم نعيما منه.
وفي قوله { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [45] هم الغداء والعشاء وفي قله { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ً } [46] إنها المرأة الموافقة فهذا كله من التمثيل للمعنى العام ببعض أنواعه فإن أراد القائل أن الأدلة اللفظية موقوفة على عدم التخصيص أنها موقوفة على عدم قصرها على هذا وأشباهه فنعم هي غير مقصورة عليه ولا مختصة به ولا يقال لفهم هذه الأنواع منها تخصيصا.
ونظير هذا ما يذكره كثير من المفسرين في آيات عامة أنها في قوم مخصوصين من المؤمنين والكفار والمنافقين وهذا تقصير ظاهر منهم وهضم لتلك العمومات المقصود عمومها وكأن الغلط في ذلك إنما عرض من جهة أن أقواما في عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه قالوا أقوالا وفعلوا أفعالا في الخير والشر فنزلت بسبب الفريقين آيات حمد الله فيها المحسنين وأثنى عليهم ووعدهم جزيل ثوابه وذم المسيئين ووعدهم وبيل عقابه فعمد كثير من المفسرين إلى تلك العمومات فنسبوها إلى أولئك الأشخاص وقالوا إنهم المعنيون بها.
وكذالك الحال في أحكام وقعت في القرآن كان بدو افتراضها أفعال ظهرت من أقوام فأنزل الله بسببها أحكاما صارت شرائع عامة إلى يوم القيامة فلم يكن من الصواب أضافتها إليهم وأنهم هم المرادون بها إلا على وجه ذكر سبب النزول فقط وأن تناولها لهم ولغيرهم تناول واحد فمن التقصير القبيح أن يقال في قوله تعالى { أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [47] إن المراد بالناس أهل مكة فيأتي إلى لفظ من أشمل ألفاظ العموم أريد به الناس كلهم عربهم وعجمهم قرنا بعد قرن إلى أن يطوي الله الدنيا فيقول المراد به أهل مكة نعم هم أسبق وأول من أريد به إذ كانوا هم المواجهين بالخطاب أولا وهذا كثير في كلامهم كقولهم المراد بقوله كذا وكذا أبو جهل أو أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو عبد الله بن أبي أو عبد الله بن سلام من سادة المؤمنين كما يقولون في كل موضع ذكر فيه { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [48] إنه عبد الله بن سلام وهذا باطل قطعا فإن هذا مذكور في سورة مكية كسورة الرعد حيث لم يكن عبد الله بن سلام قد أسلم ولا كان هناك. وكذلك يقولون في قوله { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَة ٌ } [49] إن المراد به عبد الله بن أبي وكان من أحسن الناس جسما والصواب أن اللفظ عام في من اتصف بهذه الصفات وهي صحة الجسم وتمامه وحسن الكلام وخلوه من روح الإيمان ومحبة الهدى وإيثاره كخلو الخشب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعض من روح الحياة التي يعطيها النمو أو الزيادة والثمرة واتصافهم بالجبن والخور الذي يحسب صاحبه أن كل صيحة عليه فمن التقصير الزائد أن يقال إن المراد بهذا اللفظ هو عبد الله بن أبي ومن هذا قولهم في قوله تعالى { إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } [50] إنه أبو جهل ابن هشام
وكذلك في قوله { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [51] إنه أبو جهل ابن هشام
وكذلك قوله { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } إلى آخرها [52] وكذلك قوله { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } إلى آخرها [53] إنه الوليد بن المغيرة
وكذلك قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [54] إنه النضر بن الحارث وفي قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [55]
إنها في أناس معينين وأضعاف ذلك مما إذا طرق سمع كثير من الناس ظن أن هذا شيء أريد به هؤلاء ومضى حكمه وبقي لفظه وتلاوته حتى قال بعض من قدم العقل على النقل وقد احتج عليه بشيء من القرآن دعني من كلام قيل في أناس مضوا وانقرضوا.
ومن تأمل خطاب القرآن وألفاظه وجلالة المتكلم به وعظمة ملكه وما أراد به من الهداية العامة لجيمع الأمم قرنا بعد قرن إلى آخر الدهر وأنه جعله إنذارا لكل من بلغه من الكلفين لم يخف عليه أن خطابه العام إنما جعل بإزاء أفعال حسنة محمودة وأخرى قبيحة مذمومة وأنه ليس منها فعل إلا والشركة فيه موجودة أو ممكنة وإذا كانت الأفعال مشتركة كان الوعد والوعيد المعلق بها مشتركا ألا ترى أن الأفعال التي حكيت عن أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأضرابهم وعن عبد الله بن أبي وأضرابه كان لهم فيها شركاء كثيرون حكمهم فيها حكمهم. ولهذا عدل الله سبحانه عن ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم إلى ذكر أوصافهم وأفعالهم وأقوالبهم لئلا يتوهم متوهم اختصاص الوعيد بهم وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد على الموصوفين بتلك الصفات دون أسماء من قامت به إرادة لتعميم الحكم وتناوله لهم ولأمثالهم ممن هو على مثل حالهم.
وهكذا الحكم فيمن أثنى عليه ومدحه بما صدر منه من قول أو فعل عدل سبحانه عن ذكره باسمه وعينه إلى ذكره بوصفه وفعله ليتناول المدح لمن شركه في ذلك من سائر الناس فإذا حمل السامع قوله { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [56] وقوله { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } [57] ونظائرها على أبي بكر الصديق أو علي بن أبي طالب فقد ظلم اللفظ والمعنى وقصر به غاية التقصير وإن كان الصديق أول وأولى من دخل في هذا اللفظ العام وأريد به ونظير ذلك ما ذكره بعضهم في قوله { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا } إلى قوله { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [58] إن المراد بذلك علي بن أبي طالب فجمع إلى حمل هذا اللفظ العام المجاهرة بالكذب والبهت في دعواه نزولها في علي فإن السورة مكية وعلي كان بمكة فقيرا قد رباه النبي في حجره فإن أبا طالب لما مات اقتسم بنو عبد المطلب أولاده لأنه لم يكن له مال فأخذ رسول الله ﷺ عليا ورباه عنده وضمه إلى عياله فكان فيهم.
ومن تأمل هذه السورة علم يقينا أنه لا يجوز أن يكون المراد بألفاظها العامة إنسانا واحدا فإنها سورة عجيبة التبيان افتتحت بذكر خلق الإنسان ومبدئه وجميع أحواله من بدايته إلى نهايته وذكره أقسام الخلق في أعمالهم واعتقاداتهم ومنازلهم من السعادة والشقاوة فتخصيص العام فيها بشخص واحد ظلم وهضم ظاهر للفظها ومعناها وشبيه بهذا ما ذكره بعضهم في قوله تعالى { وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } [59] إنها نزلت في أبي بكر الصديق وابنه عبد الرحمن ونظيره ما تقدم من تفسير قوله { مُحَمَّدٌ رسول الله ﷺ } [60] إلى آخر الآية وقسمة جملها بين العشرة من الصحابة ومن تأمل ذلك علم أن هذا تفسير مختل مخل بمقصود الآية معدول به عن سنن الصواب وهذا باب يطول تتبعه جدا ولو أن الذين ارتكبوا ما ذكرنا من التفاسير المستكرهة المستغربة وحملوا العموم على الخصوص وأزالوا لفظ الآية عن موضوعه علموا ما في ذلك من تصغير شأن القرآن وهضم معانيه من النفوس وتعريضه لجهل كثير من الناس بما عظم الله قدره وأعلى خطره لأقلوا مما استكثروا منه ولزهدوا فيما أظهروا الرغبة فيه وكان ذلك من فعلهم أحسن وأجمل وأولى بأن يوفى معه القرآن بعض حقه من الإجلال والتعظيم والتفخيم ولو لم يكن في حمل تفسير القرآن على الخصوص دون العمومم إلا ما يتصوره التالي له في نفسه من أن تلك الآيات إنما قصد بها أقوام من الماضين دون الغابرين فيكون نفعه وعائدته على البعض دون البعض لكان في ذلك ما يوجب النفرة عن ذلك والرغبة عنه وبحكمة بالغة عدل الرب تعالى عن تسمية من ذكر هؤلاء أنه مراد باللفظ إلى ذكر الأوصاف والأفعال التي يأخذ كل أحد منها حظه ولو سمى سبحانه أصحابها بأسمائهم لقال القائل لست منهم يوضح ذلك.
الوجه الخامس والثلاثون إن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذم وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة وكان عمومها من تفخيمها وجلالة قدرها وعظمة شأنها وذلك أن من شأن من يقصد تفخيم كلامه من عظماء الناس أن يستعمل فيه أمرين أحدهما العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم إلى حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمر لا بد منه ليكون خطابه كليا شاملا يدخل تحته الخلق الكثير وكلما كان الداخلون تحت خطابه أعم واكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه فأين العظمة والجلالة في قوله { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [61] إلى العظمة في قوله يا أهل مكة اعبدوا ربكم فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له فيدل باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحسن الدلالة فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره ومن علم هذا وتدبر القرآن وصرف إليه فكره علم أنه لم يقرع الأسماع قط كلام أوجز ولا أفصح ولا أشد مطابقة بين معانيه وألفاظه منه، وليس يوجد في الكتب المنزلة من عند الله كتاب جمعت ألفاظه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمنته ألفاظ القرآن وقد شهد له بذلك أعداؤه وسمع بعض الأعراب قارئا يقرأ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [62] فسجد فقيل له ليست بآية سجود فقال سجدت لفصاحة هذا الكلام. فإذا تأملت طريقته وجدتها طريقة مخاطبة ملك الناس كلهم لعبيده ومماليكه وهذا أحد الدلائل الدالة على أنه كلامه الذي تكلم به حقيقة لا كلام غيره من المخلوقين وإذا كان النبي ﷺ قد أوتي جوامع الكلام وبين كلامه وكلام الله مالا يحصره نسبة فكيف يجوز في الأوهام والعقول أن تحمل جوامع كلمات الرب تعالى على ما يناقض عمومها ويحطها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص بل الواجب أن يقال إن خطاب الله عز وجل في كل ما أمر به ونهى عنه وحمد أو ذم عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجا عاما كليا بحسب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق.
ولو ترك المتأولون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها لأفادتهم اليقين وجزموا بمراد المتكلم بها ولانحسمت بذلك مواد أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة ولما تهيأ لكل مبطل أن يعمد إلى آيات من القرآن فينزلها على مذهبه الباطل ويتأولها عليه ويجعلها شاهدة له وهي في التحقيق شاهدة عليه ولسلم القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأولون وألصقها بهما المحرفون والله المستعان فهذا ما يتعلق بقوله إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص.
الوجه السادس والثلاثون قوله وعدم الإضمار يقال الإضمار على ثلاثة أنواع نوع يعلم انتفاؤه قطعا وأن إرادته باطلة وهو الحال وهو حال أكثر الكلام فإنه لو سلط عليه الإضمار فسد التخاطب وبطلت العقود والأقارير والطلاق والعتاق والوصايا والوقوف والشهادات ولم يفهم أحد مراد أحد إذ يمكنه أن يضمر كلمة تغير المعنى ولا يدل المخاطب عليها.
وباب الإضمار لا ضابط له فكل من أراد إبطال كلام متكلم ادعى فيه إضمارا يخرجه عن ظاهره فيدعي ملحد الإضمار في قوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [63] أي وكلم ملك الله موسى ويدعي في قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [64] إضمار ملك الرحمن كما ادعى بعضهم الإضمار في قوله ينزل ربنا أي ملك ربنا وفي قوله { وَجَاءَ رَبُّكَ } [65] أي ملك ربك ولو علم هذا القائل أنه قد نهج الطريق وفتح الباب لكل ملحد على وجه الأرض وزنديق وصاحب بدعة يدعي فيما يحتج به لمذهبه عليه إضمار كلمة أو كلمتين نظير ما ادعاه لاختار أن يخرس لسانه ولا يفتح هذا الباب على نصوص الوحي فإنه مدخل لكل ملحد ومبتدع ومبطل لحجج الله من كتابه ومن رأى ما أضمره المتأولون من الرافضة والجهمية والقدرية والمعتزلة مما حرفوا به الكلم عن مواضعه وأزالوه به عن ما قصد له من البيان والدلالة.
علم أن لهم أوفر نصيب من مشابهة أهل الكتاب الذين ذمهم الله بالتحريف واللي والكتمان أفترى يعجز الجهمي عن الإضمار في قوله إنكم ترون ربكم عيانا فيضمر ملك ربكم ونعيمه وثوابه ونحو ذلك ويعجز الملحد عن الإضمار في قوله { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [66] أي أرواح من في القبور وإذا انفتح سد يأجوج ومأجوج أقبلوا من كل حدب ينسلون. النوع الثاني ما يشهد السياق والكلام به فكأنه مذكور في اللفظ وإن حذف اختصارا كقوله تعالى { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } [67] فكل واحد يعلم أن المعنى فضربه فانفلق فذكره نوع من بيان الواضحات فكان حذفه أحسن فإن الوهم لا يذهب إلى خلافه.
وكذلك قوله تعالى: { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ } [68] فكل أحد يفهم من هذا السياق أنهم جعلوها في رحالهم وأنهم وصلوا بها إلى أبيهم ومثل هذا في القرآن كثير جدا وفهم الكلام لا يتوقف على أن يضمر فيه ذلك مع أنه مراد ولا بد فكيف يتوقف فهم الكلام الذي لا دليل فيه على الإضمار بوجه وهو كلام مفيد قائم بنفسه معط لمعناه على دليل منفصل يدل على أن المتكلم لم يضمر فيه خلاف ما أظهره وهل يتوقف أحد من العقلاء في فهم خطاب غيره له على هذا الدليل أو يخطر بباله.
والنوع الثالث كلام يحتمل الإضمار ويحتمل عدمه فهذا إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه وأنه اللائق بحكمته لم يشك السامع في أن مراده ما دل عليه ظاهر كلامه دون ما يحتمله باطنه من إضمار مالم يجعل للسامع عليه دليلا ولا له إلى معرفته سبيلا إلا أن يجوز عليه أنه أراد منه ذلك وكلفه ما لا يطيقه وعرضه للعناء والمشقة والعزلة ولم يقصد البيان ولا نكير على من ظن ذلك في المتكلم أن يظن بكلامه ما هو مناسب لظنه به يوضحه
الوجه السابع والثلاثون إن الإضمار هو الإخفاء وهو أن يخفي المتكلم في نفسه معنى ويريد من المخاطب أن يفهمه فهذا إما أن يجعل له عليه دليلا من الخطاب أو لا فإن جعل له عليه دليلا من السياق لم يكن ذلك إضمارا محضا بل يكون قد أظهره له بما دله عليه من السياق ودلالة اللفظ قد تحصل من صريحه تارة ومن سياقه ومن قرائنه المتصلة به فهذا لا محذور فيه إذا كان المخاطب قد دل السامع على مقصوده ومراده وإن لم يجعل له عليه دليلا فإنه لم يقصد بيانه له بل عدل عن بيانه إلى بيان المذكور فلا يقال إن كلامه دل عليه بالإضمار فإن هذا كذب صريح عليه فتأمله فإنه واضح.
الوجه الثامن والثلاثون قوله وعدم التقديم والتأخير فهذا أيضا من نمط ما قبله فإنه نظم الكلام الطبيعي المعتاد الذي علمه الله للإنسان نعمة منه عليه أن يكون جاريا على المألوف المعتاد منه فالمقدم مقدم والمؤخر مؤخر فلا يفهم أحد قط من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلا تقديم هذا وتأخير هذا وحيث قدموا المؤخر من المفعول ونحوه وأخروا المقدم من الفاعل ونحوه فلا بد أن يجعلوا في الكلام دليلا على ذلك لئلا يلتبس الخطاب فإذا قالوا ضرب زيدا عمرو لم يكن في هذا التقديم والتأخير إلباس فإذا قالوا ضرب موسى عيسى لم يكن عندهم المقدم إلا الفاعل فإذا أرادوا بيان أنه المفعول أتوا بما يدل السامع على ذلك من تابع منصوب يدل على أنه مفعول فلا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع ولا يقدح في بيان مراد المتكلم كقوله تعالى { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [69] وقوله { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } [70] وقوله { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [71] وقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَة ً } [72] وقوله { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا } [73] ونحوه فهذا من التقديم الذي لا يقدح في المعنى ولا في الفهم وله أسباب تحسنه وتقتضيه مذكورة في علم المعاني والبيان.
وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في غير ذلك كما يدعي من التقديم في قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ } [74] وإن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها فهذا أولا لا يجيزه النحاة ولا دليل على دعواه ولا يقدح في العلم بالمراد وكذلك ما يدعون من التقديم والتأخير في قوله { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [75] قالوا تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم فكأنهم لما فهموا من قوله { تَوَلَّ عَنْهُمْ } مجيئه إليه ذاهبا عنهم احتاجوا إلى أن يتكلفوا ذلك وهذا لا حاجة إليه وإنما أمره بما جرت به عادة المرسل كتابه إلى غيره ليعلم ما يصنع به أن يعطيه الكتاب ثم ينعزل عنه حتى ينظر ماذا يقابله به وليس مراده بقوله { تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي أقبل إلي ولو أراد ذلك لقال فألقه إليهم وأقبل وقد علم من كونه رسولا له أنه لا بد أن يرجع إليه فليس في ذلك كبير فائدة بخلاف أمره بتأمله أحوال القوم عند قراءة كتابه وقد انعزل عنهم ناحية.
والتقديم والتأخير نوعان: نوع يخل تقديم المؤخر وتأخير المقدم فيه بفهم أصل المعنى فهذا لا يقع في كلام من يقصد البيان والتفهيم وإنما يقع في الألغاز والأحاجي وما يقصد المتكلم تعمية المعنى فيه وقد يقع بسبب شدة الاختصار وضيق القافية عن الترتيب المفهم كقول الفرزدق
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
فهذه شبيه باللغز ومعناه وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه وهذا النوع لا يقع في كلام الله ولا رسوله.
النوع الثاني التقديم والتأخير الذي لا يخل بأصل المعنى وإن أخل بالغرض المقصود فيكون مراعاته من باب إخراج الكلام على مقتضى الحال وهذا هو الذي يتكلم عليه علماء المعاني والبيان قال سيبويه وهو يذكر الفاعل والمفعول كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى كلامه.
وهذا يقع في باب الاستفهام والنفي والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول فمن ذلك أنك إذا قلت أفعلت كذا وبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان الغرض بالاستفهام علمك بوجوده وإذا قلت أنت فعلت كذا فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه ففرق بين قولك أكتبت الكتاب وبين قولك أأنت كتبته وهذا كما أنه قائم في الاستفهام فكذلك هو في التقرير فإذا قلت أنت فعل هذا؟ كان المقصود تقريره بأنه هو الفاعل كما قال قوم إبراهيم له { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ } [76] فلم يكن مرادهم السؤال عن الفعل هل وجد أم لا ولو أرادوا ذلك لقالوا أكسرت أصنامنا؟ وإنما مرادهم السؤال عن الفاعل ولهذا كان الجواب قوله: { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [77] قالقائل أفعلت؟ سائل عن الفعل من غير تردد بين الفاعل وغيره وإذا قال أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه تردد في نفس الفعل ومن هذا استفهام الإنكار كقوله تعالى { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ } [78] وقوله: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } [79] وقوله: { أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَة ً يُعْبَدُونَ } [80] فهذا إذا قدم الاسم فيه استحال الكلام من إنكار الفعل إلى الإنكار في الفاعل مثل قوله: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ } [81] { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [82] وقول أهل النار { أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى } [83] فهذا سؤال عن فعل وقع فتوجه الإنكار إلى نسبته إلى الفاعل الذي نسب إليه وهذا كما إذا بلغك قول عن من لم تكن تظنه به قلت أفلان قال ذلك ؟ وأما قوله تعالى: { آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ } [84] فإن الإنكار وإن توجه إلى نفس التحريم والمراد إنكاره من أصله فإنه خطاب لمن قد أثبت تحريما في أشياء وحلا في نظائرها فسئل عن عين المحرم أهو هذا فيشمل التحريم نظيره مما حلله أو الآخر فيشمل نظيره أيضا فكأنهم قيل لهم أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم في ذاك أم في الثالث؟ليتبين بطلان قولهم وتظهر فريتهم على الله وهذا كما تقول لمن يدعي أمرا وأنت تنكره متى كان هذا أفي ليل أم نهار؟ وكذلك تقول من أمرك بهذا؟ أو من إذن لك فيه؟ وأنت لا تريد أن آمر أمرعه به وأذن له فيه ولكن أخرجت الكلام مخرج من كان قد يتنزل مع مخاطبه إلى أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان عينه ووقته ومكانه والآمر به لكي يضيق عليه الجواب ويظهر كذبه حيث لا يمكنه أن يحيل على شيء مما سئل عنه فيفتضح وكذلك إذا قلت أتفعل كذا؟ كنت مستفهما له عن نفس الفعل وإذا قلت أأنت تفعل كذا؟ كنت مستفهما له عن كونه هو الفاعل فقوله تعالى { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [85] فخرجه غير مخرج قوله { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [86] وقوله { أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } [87] وقوله { نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [88] فأنت تجد تحت قولك أأنت الذي تقهرني؟ أن القاهر لي غيرك لا أنت وكذلك قوله { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } [89] { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ } [90] وكذلك الشأن في تقديم المفعول وتأخيره كقوله تعالى { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } [91] { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [92] وقوله { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَة ُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } [93] فلو أخر لكان الاستفهام عن مجرد الفعل فلما قدم كان الاستفهام عن الفعل وكون المفعول المقدم مختصا به وكذلك قوله { أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ } [94] لما كان الإنكار متوجها إلى كون المتبوع بشرا وأنه منهم وأنه واحد وردوه ولم يقع إنكارهم على مجرد الاتباع في قوة كلامهم أنه لو كان ملكا أو من غيرنا لا تلحقنا غضاضة برئاسته علينا أو عصبة كثيرة لا يمتنع من متابعتهم لاتبعناهم وكذلك التقديم بدل التأخير في النفي فإذا قلت ما فعلت كنت قد نفيت عنك الفعل ولم تتعرض لكونه فعل أو لم يفعل وإذا قلت ما أنا فعلت كنت قد نفيته عن نفسك مدعيا بأن غيرك فعله ومن ها هنا كان ذلك تعريضا بالقذف يوجب الحد في أصح القولين وبه عمل الصحابة في قول القائل أنا زنيت كما رفع إلى عمر بن الخطاب رجل لاحى آخر فقال ما أنا بزان ولا أمي بزانية فضربه الحد وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وكذلك إذا قلت ما ضربت زيدا كنت قد نفيت الضرب لزيد عنك ولم تتعرض لضرب وقع منك على غيره نفيا وإثباتا وإذا قلت ما زيدا ضربت كنت مفهما أن الضرب قد وقع منك على إنسان غير زيد. وكذلك الأمر في المبتدأ والخبر فهذا التقديم والتأخير يرجع إلى إيراد الكلام على مقتضى الحال التي يقصدها المتكلم ومن عرف أسلوب كلام العرب وطريقتهم في كلامهم فهم أحكام التقديم والتأخير وهذا غير مخرج لاستفادة السامع اليقين من كلام المتكلم ولا موقف لفهمه على دليل يدل على أنه أراد تأخير ما قدمه وتقديم ما أخره ليفهم خلاف المعنى الظاهر من كلامه.
الوجه التاسع والثلاثون: قوله وموقوف على نفي المعارض العقلي لئلا يفضي إلى القدح في العقل الذي يفتقر إليه النقل جوابه أنا لا نسلم أن القدح فيما عارض النقل من المعقول قدح فيما يحتاج إليه النقل فإن صحة النقل.
لا شيء عنده بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته.
وتأمل دلائلهم على ذلك يتبين أن العقل الصريح مع رسل الله كما معهم الوحي الصحيح.
وتأمل أقوالهم على تناقضها واختلافها في كلامه كيف؟ تجدها مخالفة لصريح العقل مخالفة بينة ودلائلهم على تلك الأقوال المختلفة أبطل منها وكيف يجد العقل الصريح أنا نشهد بما جاءت به الرسل أن الله سبحانه تكلم بكلام سمعه منه جبريل وبلغه إلى من أمر بتبليغه وكلم نبيه موسى وكلم ملائكته بكلام حقيقي سمعوه منه وأنه يتكلم بمشيئته وإرادته وكل قول خالف هذا فهو خلاف العقل الصريح وإن زخرفت له الألفاظ ونسجت له الشبه وتأمل ما جاءت به النصوص إن كلماته لا نهاية لها وهل يقتضي العقل الصريح غير ذلك؟ وتأمل ما جاءت به النصوص من شمول قدرته ومشيئته لجميع الكائنات أعيانها وصفاتها وأفعالها وما خالف ذلك فهو مخالف لصريح العقل.
كما أن النصوص جاءت بأن أفعال العباد أعمال لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم ليست أفعالا لله وإن كانت مفعولة له تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل.
وتأمل ما جاءت به النصوص أنه سبحانه لم يزل ملكا ربا غفورا رحيما محسنا قادرا لا يعجزه الفعل ولا يمتنع عليه وكيف لا تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل كقول الفلاسفة أنه لا يفعل باختياره ومشيئته وقول المتكلمين أنه كان من الأزل إلى حيث خلق هذا العالم معطلا عن الفعل غير متمكن منه والفعل مستحيل ثم انقلب من اإلإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي بأن تجدد سبب اقتضى ذلك فانظر أي هذه المذاهب مخالف لصريح العقل كما هو مخالف لصحيح النقل وتأمل قولهم في الإرادة والقدرة والعلم كيف أثبتوا إرادة لا تفعل وقدرة لا تفعل وعلما لا يعقل فقابلهم طائفة من الفلاسفة كيحيى بن عدي النصراني قولها في الكلمة إنها الله كقول المتكلمين في السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة أنها نفس الذات فانظر مخالفة هذه الطوائف لصريح العقل وتأمل قولهم إن السمع هو عين البصر والبصر هو عين السمع والبصر هو عين العلم والكل صفة واحدة فهل في مخالفة العقل الصريح أشد من ذلك وتأمل قولهم إن الرب تعالى علة ثابتة في الأزل لجميع المعلولات. ووجودها في آن واحد مستحيل فجلعوه علة ثابتة لنا هو ممتنع الوجود في غير وقته وهذا قول الفلاسفة فقابلهم المتكلمون في ذلك ولم يجعلوا الفعل ممكنا له في الأزل بحال ولم يفرقوا بين نوع الفعل وعينه وخالف الفريقان صريح العقل.
فتأمل قول الفريقين في الموجب بالذات والفاعل بالاختيار كيف تجدهم قد خرجوا فيه عن صريح العقل وقالوا ما يشهد العقل ببطلانه.
وتأمل قولهم في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كيف خرجوا عن صريح العقل في المصدر والصادر عنه.
وتأمل قولهم في إنكار قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه التي ترجموها بمسألة حلول الحوادث كيف خرجوا فيها عن المعقول الصريح وكابروه أبين مكابرة والتزموا لأجله تعطيل الحي الفعال عن كل فعل والتزموا لأجله حصول مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فإن الفعل عندهم عين المفعول والخلق نفس المخلوق وهذا مكابرة لصريح العقل.
وتأمل خروجهم عن العقل الصريح في إنكار الحكم والغايات التي يفعل الرب تعالى لأجلها وإنه لا يرى عيانا لا فوق الذاتي ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره ثم زادوا جواز تعلق الرؤية بكل موجود من الأصوات والروائح والمعاني وتعلق الإدراكات الخمس بذلك فجوزوا سماع الرائحة وشم الأصوات وسماع الطعوم فخرجوا عن صريح المعقول كما خرجوا عن صحيح المنقول أن المسلمين يرون ربهم من فوقهم.
وتأمل خروجهم عن صريح العقل في مسألة الطفرة والأحوال والكسب ومسألة النبوات وأن النبوة لا ترجع إلى صفة وجودية وإنما هي تعلق الخطاب القديم بالشيء والتعلق أمر عدمي.
وتأمل خروجهم عن صريح العقل بتجويزهم رؤية الشيء في غير جهة من الذاتي وقولهم بأن المتولدات لا فاعل لها وقولهم بأن الله مريد بإرادة يخلقها لا في محل فخالفوا صريح العقل من وجهين من إثبات كونه مريدا من غير قيام صفة الإرادة به ومن جعلهم صفة الإرادة قائمة بغير محل ومن ذلك خروجهم عن صريح العقل في قولهم إن الرب تعالى عالم بلا علم سميع بلا سمع بصير بلا بصر قادر بلا قدرة حي بلا حياة فأنكر ذلك عليهم طوائف العقلاء ففر بعضهم إلى أن قال علمه وسمعه وبصره وقدرته وحياته هي ذاته وقال أعقلهم عند نفسه وعند أتباعه إنه سبحانه علم كله وقدرة كله وحياة كله وسمع كله وبصر كله إلى إضعاف أضاف ما ذكرنا من أقوالهم التي خرجوا فيها عن صريح العقل فهل تجد في نصوص الوحي التي عارضوا فيها بين العقل والنقل مثل ذلك أو قريبا منه فتأملها وتأمل أقوالهم تعلم أي النوعين معه العقل ومن الذي خرج عن صريحه وبالله التوفيق.
الوجه الأربعون: إن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول في كل ما يخبر به ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء ولا يستريب في ذلك إلا موؤف في عقله مصاب في قلبه وفطرته فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه وتكلمه بمشيئته وتكليمه لخلقه ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدار الآخرة ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوته وصدقه التي زادت على الألف وتنوعت كل تنوع فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة إلا من هو من أفسد الناس عقلا ونظرا وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات فإنها وإن عجز كثير من الناس عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والإضطرار فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف جزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول سواء فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به وإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري وهذه الشبه عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل يوضحه:
هامش
- ↑ [البقرة 282]
- ↑ [البقرة 109]
- ↑ [الأنعام102]
- ↑ [فاطر15]
- ↑ [البقرة 21]
- ↑ [النساء1]
- ↑ [المائدة 67]
- ↑ [الأحزاب37]
- ↑ [الأحزاب50]
- ↑ [الحج39]
- ↑ [البقرة 104]
- ↑ [آل عمران64]
- ↑ [الزمر53]
- ↑ [النساء93]
- ↑ [النساء10]
- ↑ [الرعد16]
- ↑ [المائدة 120]
- ↑ [الفرقان19]
- ↑ [الأنفال16]
- ↑ [النساء93]
- ↑ [الزلزلة 8، 7]
- ↑ [طه74، 75]
- ↑ [الفرقان68]
- ↑ [الفرقان8]
- ↑ [الإسراء101]
- ↑ [الحجر15]
- ↑ [الحج15]
- ↑ [يونس92]
- ↑ [الكوثر2]
- ↑ [الحديد20]
- ↑ [النور35]
- ↑ [الرحمن19]
- ↑ [الرحمن 20]
- ↑ [الرحمن 22]
- ↑ [المائدة 55]
- ↑ [الزمر33، 34]
- ↑ [الأعراف157]
- ↑ [الفتح 29]
- ↑ [فاطر34]
- ↑ [الأنبياء 105]
- ↑ [ص20]
- ↑ [الأعراف31]
- ↑ [التكاثر8]
- ↑ [الماعون7]
- ↑ [فاطر34]
- ↑ [البقرة 201]
- ↑ [البقرة 21]
- ↑ [الرعد43]
- ↑ [المنافقون]
- ↑ [الدخان43، 44]
- ↑ [القيامة 31، 32]
- ↑ [المطففين29]
- ↑ [القلم10، 11]
- ↑ [لقمان6]
- ↑ [البقرة 8]
- ↑ [الزمر33]
- ↑ [الحديد19]
- ↑ [الإنسان 5 - 8]
- ↑ [الأحقاف15]
- ↑ [الفتح29]
- ↑ [البقرة 21]
- ↑ [الحجر94]
- ↑ [النساء164]
- ↑ [طه5]
- ↑ [الفجر22]
- ↑ [الحج7]
- ↑ [الشعراء63]
- ↑ [يوسف 62، 63]
- ↑ [البقرة 124]
- ↑ [الحج37]
- ↑ [الروم47]
- ↑ [الشعراء8]
- ↑ [الأعراف82]
- ↑ [يوسف 24]
- ↑ [النمل28]
- ↑ [الأنبياء62]
- ↑ [الأنبياء63]
- ↑ [الإسراء40]
- ↑ [الصافات153]
- ↑ [الزخرف45]
- ↑ [المائدة 116]
- ↑ [يونس59]
- ↑ [سبأ32]
- ↑ [الأنعام143]
- ↑ [يونس99]
- ↑ [الأعراف28]
- ↑ [القيامة 3]
- ↑ [هود28]
- ↑ [يونس99]
- ↑ [الزخرف40]
- ↑ [الأنعام14]
- ↑ [الأنعام114]
- ↑ [الأنعام40، 41]
- ↑ [القمر24]