→ الفصل الحادي والعشرون | الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم ابن قيم الجوزية |
الفصل الثالث والعشرون ← |
الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين وهم الذين اختلفوا بالتأويل وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } [1] وهم الذين تسود وجوههم يوم القيامة وهم الذين قال الله تعالى فيهم { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [2] فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد. وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين ويوقع التحزب والتباين. والنوع الثاني: اختلاف ينقسم إهله إلى محمود ومذموم فمن أصاب الحق فهو محمود ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } [3] وقال تعالى { مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [4]
والاختلاف المذموم: كثيرا ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به بل يجحده إياه بغيا ومنافسة فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون باطلهم فهؤلاء الذين قال الله فيهم: { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [5] فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون. وكان النبي ﷺ يقول في دعائه: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق. فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلا وأقومهم قيلا وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى يقر بعضهم بعضا عليه ويواليه ويناصره وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركه قوة بصيرته فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة وعرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله وتجرد الناظر عن التعصب والحمية واستفرغ وسعه وقصد طاعة الله ورسوله فقل أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال وما هو أقرب إليه والخطأ وما هو أقرب إليه فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب وما هو أقرب إليه والخطأ وما هو أقرب إليه ومراتب القرب والبعد متفاوتة.
وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقا في الكلمة ولا تبديدا للشمل فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وفي الخلية والبرية والبتة وفي بعض مسائل الربا وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل وبعض مسائل الفرائض وغيرها فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة ولا قطع بينه وبينه عصمة بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغنا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه. فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق. وهنا نوع آخر من الاختلاف وهو وفاق في الحقيقة وهو اختلاف في الاختيار والأولى بعد الاتفاق على جواز الجميع كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة وصفات التشهد والاستفتاح وأنواع النسك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة وأنواع صلاة الخوف والأفضل من القنوت أو تركه ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها ونحو ذلك فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة.
فصل ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة.
هامش