وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن حمير وكهلان لما قسم بينهما أبوهما سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ملكه، فجعل سياسة الملك لحمير، وجعل أعنة الخيل وملك الأطراف والثغور لكهلان - وقد تقدم شرح خبرهما في أول كتابنا هذا - قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك، وكذلك أولادهما وأولاد أولادهما، لحمير على كهلان الطاعة، ولكهلان على حمير المال والنجدة، والملوك الراتبة في دار المملكة من حمير، والملوك في الأطراف والثغور من كهلان. ويقال: إن كهلان لما تقلد الأطراف وثغورها وأعمالها واستقام أمره وأمر أخيه حمير على ذلك قال لأخيه حمير: إني قد عزمت على أن أبعث العساكر إلى الأطراف والثغور، فأمر بالمصالح لذلك. قال: فأمر حمير بالمال والخيل والإبل والطعام والروايا وتقدم إلى أهل المملكة أن يمتثلوا ما يومئ إليهم به كهلان. قال: فجرّد كهلان إلى أرض الحجاز جرهماً ومن لف لفها، وولى عليهم رجلاً منهم يقال له هيّ بن بي بن جرهم بن سعد بن جرهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره، وقسم عليهم الخيل والعدد والسلاح والزاد والروايا وأعطاهم الأدلاء. وكتب لهيّ بن بي بن جرهم إلى ساكن الحجاز من العمالقة بالسمع والطاعة له ودفع الإتاوة إليه،وكان كتابه الذي كتب لهي بن بي بن جرهم:
| ||
ألائكُ من كهلانَ عن أمرِ حميرٍ | لعامِلِهِ هيِّ بن بيِّ بنِ جُرهُمِ | |
إلى مَن بأعراضِ الحجازِ محلُّهُ | من الناسِ طُرَّاً من فصيح وأعجمِ | |
على أنَّ هيَّأ ليسَ يُعصى وإنَّهُ | لديهم لذُو أمنٍ أثيرٍ مقدمِ | |
وإلاَّ فلا يلحونَ إلا نفوسَهُمْ | إذا ما مُنُوا بالقسطلانِ العرمرمِ |
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن هي بن بي بن جرهم خرج إلى الحجاز فيمن معه من قومه وتباعهم، فأقام بها والياً عليها، وغلب العمالقة عليها، وكتب كتاب ولايته على جبل من جبال مكة، وهي هذه الأبيات:
| ||
ألائك من كهلان عن أمر حمير | لعامله هيِّ بن بيِّ بن جرهم |
ويقال: إن كهلان لما فرغ من تجهيز هي بن بي بن جرهم وتجريده للحجاز، جرد إلى أرض نجد رجلاً يقال له: الهميم بن عاصم بن جلهمة الجديسي في جديس ومن لحقها من التباع، وولاه عليهم، وأمره لهم بالسمع والطاعة، وكتب إلى سكان نجد كتاباً، وهو: باسمك اللهم:
| ||
من ابن سَبَا كهلانَ عنْ أمرِ حِميرٍ | إلى أهل نجدٍ للهميم بن عاصمِ | |
على أنه من ليسَ يُعصى وأنَّه | يُطاع ويُعطى الخرجَ خرجَ السَّوائمِ | |
وإلا فلا يلحون إلا نُفُوسَهُم | إذا ما مُنُوا بالخَيل تحتَ الضَّراغمِ |
قال: فتجهز الهميم والياً على أهل نجد، وسار إليهم في جديس وتباعهم بالخيل والعدة من الروايا والأزواد وسارت الأدلاء بين يديه حتى توسط بلاد نجد وملكها، وأخذ الإتاوة من أهلها وأنفذها إلى كهلان.
ثم إن كهلان دعا عمرو بن جحدر جد ثمود، ويقال: إنه جد صالح النبي ﷺ، فجرده إلى الوادي، وهو فيما بين الشام والحجاز، وعقد له الولاية على ساكن الوادي، وأمر قومه ثموداً له بالطاعة والسمع والمسير بين يديه، وكتب له كتاباً إلى ساكن الوادي، وكان شاكته قوم يقال لهم زهرة بن عملاق،وكان كتابه الذي كتبه لعمرو بن جحدر:
| ||
من ابن سَبَا كهلانَ عن أمرِ حِميرٍ | إلى ساكِنِ الوادي لعمرو بنِ جحدرِ | |
على طاعةٍ مِنهُم لعمرو بن جحدرٍ | وللقيلِ كهلانٍ وللمَلكِ حميرِ | |
ودفعِ الإتاواتِ الَّتي يُسألُونَهَا | إلى عامِلي مِنْ كُلِّ بدوٍ ومُحضِرِ | |
وإلاّ فلا يلحونَ إلا نُفُوسهُم | إذا زارهُمْ بالبيضِ والسُّمرِ عسكري |
قال: فتجهز عمرو بن جحدر والياً على ساكن الوادي، وسار إليهم في قومه وعشيرته ثمود بالخيل والإبل والعدة، ومضى قاصداً حتى أتى الوادي، فخرج سكان الوادي منه إلا من سمع له وأطاع منهم.
ويقال: إن كهلان لما فرغ من تجهيز عمرو بن جحدر إلى الوادي الذي ذكر الله عز وجل في محكم كتابه: " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " أقبل على ابنه زيد بن كهلان، وقد مات أخوه حمير، وولي الملك من بعده ابنه الهميسع بن حمير فقال: بني، العم قد ولى، والأب على الأثر. ثم أنشأ يقول:
| ||
يا زَيدُ إنَّ أباكَ أصبحَ نَسرُهُ | لا يستطيعُ إلى النُهُوضِ سبيلا | |
اليومَ عَمُّكَ خفَّ عنَّا آفِلا | وغداً ستشهَدُ من أبيكَ أُفُولا | |
يا زيدُ لا تعصِ الهميسعَ وانتظِر | ما عُونَهُ لكَ بُكرةً وأَصِيلا | |
يا زيدُ إنَّ لكَ الحجازَ ونجدَهَا | وإليكَ أصبحَ خَرجُهَا محمُولا | |
وإليكَ يرفعُ عن ثمُود وغَيرِها | عمروُ بنُ جحدرَ خرجَهَا المسؤولا | |
وإليكَ عُدَّتْ بالهميمِ رواحلٌ | بالخَرجِ تُعِلنُ بالمسِيْرِ ذميلا | |
كُنْ للهَميسعِ طائِعاً كيما يَكُنْ | لكُمُ الهَمَيسعُ ناصِراً وكفِيلا |
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن زيد بن كهلان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها، وتقلد للهميسع ما كان يتقلده كهلان لأخيه حمير.
ويقال: إن زيد بن كهلان أرسل إلى عمَّال أبيه في الأطراف والثغور بتجديد العهد منه لهم، فسمعوا وأطاعوا ودفعوا إليه الإتاوة التي كانوا يدفعونها إلى أبيه.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زيد بن كهلان جرد ابنه عمرو بن زيد بن كهلان - وهو أبو جذام - إلى مدين وما حولها في الخيل والرجال، وعقد له الولاية على مدين، وأمرهم له بالسمع والطاعة ودفع الإتاوة إليه، وكتب كتاباً إلى أهل مدين يقول فيه:
| ||
لِعمرِو بن زيدٍ مِنْ أبيهِ وعَمِّهِ | ألوكٌ إلى الأحياءِ مِنْ أهلِ مدينِ | |
بطاعتِهِمْ عَمراً وتسليمِ خرجِهِم | إليه جَهَاراً عن مُسِرٍّ ومُعلِنِ | |
وإلا فإنّ الخيل تعبط مديناً | وتسرَحُ أُخرَاها بِلحجٍ وأَبينِ |
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن عمرو بن زيد بن كهلان سار إلى مدين بالخيل والرجال والياً عليهم حتى نزل بها، وملكها، وأطاعه أهلها، وأخذ إتاوتها.
ويقال: إن شعيب النبي ﷺ من نسله وذريته، وإنه جد بني جذام، ثم أحد بني وائل منها.
ويقال: إن زيد بن كهلان لما مات الهميسع بن حمير أقبل على ابنه مالك بن زيد بن كهلان وهو يقول: " من الوافر "
| ||
أتى يومُ الهَميسَعِ فاحتواهُ | وزَيدٌ يومُهُ لا بُدَّ آتِ | |
وَكُلٌّ لا محالَةَ مُستقِلٌّ | يؤُولُ مِنَ الحياةِ إلى المماتِ | |
وَكُلُّ جماعةٍ لا بُدَّ يوماً | تصِيرُ إلى التَّفرُّقِ والشَّتاتِ | |
فمالِكُ سِرْ لأيمن في مسيري | لوالِدِهِ إذا حانَتْ وفاتِي | |
أَطِعْهُ يُطِعكَ أيمنُ مِثلَ ما قَد | أطاعِنيَ الهميسعُ في هَنَاتِ | |
هُوَ المَلِكُ العظِيمُ وأَنتَ فاعلَمْ | على أعمالِهِ وعلى الوُلاةِ | |
إليكَ إتاوةُ الأطرافِ تُجبَى | وتأمُرُ في الجُيُوشِ المُعلَمَاتِ |
فيقال: إن مالك بن زيد بن كهلان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها، وولي بعد أبيه ما كان يتولاه أبوه زيد بن كهلان من الثغور والأطراف وتدبير العساكر في طاعة الملك أيمن بن الهميسع. وكتب إلى عمال أبيه، فأجابوه بالسمع والطاعة ودفع الإتاوة إلى ما قبله.