→ تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم | البداية والنهاية – الجزء الثاني ليس للجنب لمس التوراة ابن كثير |
كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين ← |
وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جدا، وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم: شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال: أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد.
وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير، وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها، وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر، والله أعلم.
كما في قوله في قصة الذبيح: اذبح ابنك وحيدك، وفي نسخة: بكرك إسحاق، فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية، لأن الوحيد وهو البكر إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سنة، فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق؟ وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح، فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله ﷺ.
وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف، ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق، والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا، والله أعلم.
وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة، وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى.
وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه، والله أعلم.
قلت: وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها، وتغيير القصص والألفاظ، والزيادات والنقص البين الواضح، وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جدا، فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه، والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه.
وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس، ولوقا، ومتى، ويوحنا أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصا، وأفحش تفاوتا من التوراة، وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة.
وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع، وزيادته إلى خمسين يوما، وأكلهم الخنزير، ووضعهم الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، والرهبانية: وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه.
وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية، وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة، وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران، وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين.
فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور، تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها، فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة.
فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة، سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس، وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة وعظم شأنه، وكان أول القياصرة، ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الإسكندرية اكصندروس، وبين رجل من علمائهم يقال له: عبد الله بن أريوس.
فذهب اكصندروس إلى أن: عيسى ابن الله تعالى الله عن قوله، وذهب ابن أريوس إلى أن: عيسى عبد الله ورسوله، واتبعه على هذا طائفة من النصارى.
واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم، ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه، فذهب يستعدي على اكصندروس وأصحابه إلى ملك قسطنطين، فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله، واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله، فقال له قائلون: فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه، فأمر الملك بإحضاره وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية.
وجمع البتاركة الأربعة من القدس، وإنطاكية، ورومية، والإسكندرية، فيقال: إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف، فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة، وهم مختلفون اختلافا متباينا منتشرا جدا، فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها، فهؤلاء خمسون على مقالة، وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى، وهؤلاء عشرة على مقالة، وأربعون على أخرى، ومائة على مقالة، ومائتان على مقالة، وطائفة على مقالة ابن أريوس، وجماعة على مقالة أخرى.
فلما تفاقم أمرهم، وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سيئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين، فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم، فوجدهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم.
فقال هؤلاء: أولى بنصر قولهم لأنهم أكثر الفرق، فاجتمع بهم خصوصا، ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال: إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه، فأنا أنصرها وأذهب إليها.
فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتابا في الأحكام، وأن تكون الصلاة إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة، وأن يصوروا في كنائسهم صورا لها جثث، فصالحوه على أن تكون في الحيطان.
فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم، وإقامة مقالتهم، وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفيهم، وانتصروا عليهم، وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم الملكية نسبة إلى دين الملك.
فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام.
ويقال: إنه قتل من أعداء أولئك، وخد لهم الأخاديد في الأرض، وأجج فيها النار وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج، وعظم دين النصرانية، وظهر أمره جدا بسبب الملك قسطنطين، وقد أفسده عليهم فسادا لا إصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده.
وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم، وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم، وتفاقم كفرهم، وغلظت مصيبتهم، وتخلد ضلالهم، وعظم وبالهم، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم، بل صرف قلوبهم عن الحق، وأمال عن الاستقامة، ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية.
وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى، وتعتقد تخليدهم في نار جهنم، ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس، وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت، هل تدرعه أو حل فيه، أو اتحد به؟
واختلافهم في ذلك شديد، وكفرهم بسببه غليظ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس: إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه كما يقول المسلمون فيه سواء.
ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة، تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالإبعاد والطرد حتى قلوا، فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم، والله أعلم.