→ قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام | البداية والنهاية – الجزء الثاني باب جهل العرب ابن كثير |
خبر عدنان جد عرب الحجاز ← |
حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } .
وقد ذكرنا تفسير هذه الآية، وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة، التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله، مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم، وهو كاذب مفتر في ذلك، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه، بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير، وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل.
وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم، من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له، وتحريم الشرك، وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف، واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين، وشابهوا قوم نوح، وكانوا أول من أشرك بالله وعبد الأصنام.
ولهذا بعث الله إليهم نوحا، وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الأصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّا وَلَا سُوَاعا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا... } الآية [نوح: 23-24] .
قال ابن عباس: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا.
قال ابن إسحاق وغيره: ثم صارت هذه الأصنام في العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل، فكان ود لبني كلب بن مرة بن غتلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكان منصوبا بدومة الجندل.
وكان سواع لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوبا بمكان يقال له رهاط.
وكان يغوث لبني أنعم من طيء ولأهل جرش من مذحج، وكان منصوبا بجرش.
وكان يعوق منصوبا بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان، وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم: ذو الكلاع
قال ابن إسحاق: وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له: عم أنس، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، وفيهم أنزل الله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبا } .
قال: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل منهم بابل له مؤبلة ليقفها عليه، التماس بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب، وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب ربها الملكان وأخذ حجرا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك، نفرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها، فلما اجتمعت له، قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا * فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة * من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد
قال ابن إسحاق: وكان في دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي. قال ابن إسحاق: وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له: هبل. وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله.
قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين.
ثم قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة أنها قالت: سمعت عائشة تقول: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة، فمسخهما الله عز وجل حجرين، والله أعلم.
وقد قيل: إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها، بل مسخهما قبل ذلك، فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * بمفضي السيول من أساف ونائل
وقد ذكر الواقدي أن رسول الله ﷺ لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها، وتدعو بالويل والثبور.
وقد ذكر السهيلي أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز، إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي، فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين، فعرفا بهما. قال: وكان بين أجا وسلمى صنم لطي، يقال له: قلس.
قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.
قال: فلما بعث الله محمد ﷺ بالتوحيد، قالت قريش: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَها وَاحِدا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5] .
قال ابن إسحاق: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده.
وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح، كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكانت سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف، وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وقد خربها أبو سفيان أيضا. وقيل: علي بن أبي طالب كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. وكان يقال له: الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية، وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي.
قال: وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى، وهما جبلان مشهوران كما تقدم.
قال: وكان رآم بيتا لحمير وأهل اليمن، كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير، وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلبا أسود.
قال: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب حين هدمها:
ولقد شددت على رضاء شدة * فتركتها قفرا بقاع أسحما
وأعان عبد الله في مكروهها * وبمثل عبد الله أغشى المحرما
ويقال: إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة، وكان أطول مضر كلها عمرا، وهو الذي يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد السنين مئينا
مائة حدتها بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا
قال ابن هشام: ويروى هذه الأبيات لزهير بن جناب بن هبل.
قال السهيلي: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا، وعبيد بن شربة، ودغفل بن حنظلة النسابة، والربيع بن ضبع الفزاري، وذو الأصبع العدواني، ونصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان، وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه، وتقوم ظهره بعد اعوجاجه.
قال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بين الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الشرفات من سنداد
وأول هذه القصيدة
ولقد علمت وأن تطاول بي المدى * أن السبيل سبيل ذي الأعواد
ماذا أؤمل بعد آل محرق * تركوا منازلهم وبعد إياد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الكعبات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
وأرى النعيم وكلما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد
قال السهيلي: الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده، وبناه رجل يقال له: سنمار في عشرين سنة، ولم ير بناء أعجب منه، فخشي النعمان أن يبنى لغيره مثله، فألقاه من أعلاه فقتله، ففي ذلك يقول الشاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رضفه البنيان عشرين حجة * يعد عليه بالقرامد والسكب
فلما انتهى البنيان يوما تمامه * وآض كمثل الطود والباذخ الصعب
رمى بسنمار على حق رأسه * وذاك لعمر الله من أقبح الخطب
قال السهيلي: أنشده الجاحظ في كتاب (الحيوان) والسنمار من أسماء القمر، والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام، جهز رسول الله ﷺ إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه، وإلى تلك الأصنام من كسرها، حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها، وعُبد الله وحده لا شريك له، كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.