→ خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما | البداية والنهاية – الجزء الثاني سبب قصد أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة ابن كثير |
خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن ← |
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل: 1-5] .
قيل: أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان، الذي قتل الضحاك، قاله: الطبري، وهو أول من اتخذ للخيل السرج.
وأما أول من سخر الخيل وركبها: فطهمورث، وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا.
ويقال: إن أول من ركبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب، والله تعالى أعلم.
ويقال: إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر، وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى، فنفرت الفيلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة، وسخرهم فيها أنواعا من السخر. وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما، وأحجارا، وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيما جدا، واتساعها باهرا.
فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة، كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها، أصابته الجن بسوء، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين: كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعا، فتركها أهل اليمن على حالها.
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم، فنقضوها حجرا حجرا، ودرست آثارها إلى يومنا هذا.
قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة من كنانة، الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم، كما قررنا ذلك عند قوله: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. } الآية [التوبة: 37] .
قال ابن إسحاق: فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها، أي أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذا؟
فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا. فغضب فجاء فقعد فيها، أي: أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريده من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نقر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر، فأتي به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل. فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق.
وكان أبرهة رجلا حليما، ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي، في قبيلتي خثعم، وهما شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به.
فلما همَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فأني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة، فخلى سبيله.
وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك، مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.
قال ابن إسحاق: واللات بيت لهم بالطائف، كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة. قال: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.
وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم، وكان يمتنع بالحرم، فلما خرج منه، أصابه حجر فقتله، وأن رسول الله ﷺ قال لأصحابه:
« وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب ».
فحفروا فوجدوهما.
قال: وهو أبو ثقيف.
قلت: والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق ؛ أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا، والله أعلم. وقد قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر أبي رُغال
الظاهر أنه الثاني.
قال ابن إسحاق: فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة. فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمَّت قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فائتني به.
فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا؟ ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه، وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته و أحسن إليه. فأذن له أبرهة.
قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم، وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان.
فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟
فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.
قال ابن إسحاق: ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم ذلك، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في رؤوس الجبال، خوفا عليهم من معرة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم * وقبلتنا فأمر ما بدا لك
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها. وقال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه، وكان اسم الفيل: محمودا.
فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث أتيت، فإنك في بلد الله الحرام. وأرسل أُذنه فبرك الفيل.
قال السهيلي: أي سقط إلى الأرض، وليس من شأن الفيلة أن تبرك، وقد قيل: إن منها ما يبرك كالبعير، فالله أعلم.
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل في ذلك:
ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تاسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا
قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا ﷺ كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل: 1-5] .
ثم شرع ابن إسحاق، وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتي بعدها، وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وله الحمد والمنة.
قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه. قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي، وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب.
قال: وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وأنها سنج وجل، فالسنج الحجر، والجل الطين. يقول: الحجارة من هذين الجنسين الجر والطين. قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب.
وقال الكسائي: سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل أبيل.
وقال كثيرون من السلف: الأبابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.
وعن ابن عباس: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وعن عكرمة: كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا.
وقال عبيد بن عمير: كانت سودا بحرية في مناقيرها وأكفها الحجارة.
وعن ابن عباس: كانت أشكالها كعنقاء مغرب.
وعن ابن عباس: كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان، ومنها ما هو كالإبل. وهكذا ذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق. وقيل: كانت صغارا والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في رجليه، وحجرا في منقاره.
قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم. ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا.
وقد تقدم أن ابن إسحاق قال: وليس كلهم أصابته الحجارة - يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن - حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال، وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة، فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره، فمات لعنه الله.
وروى ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن سمرة، عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان، وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا، فأما قائده فلم يسم، والله أعلم.
وذكر النقاش في تفسيره: أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر، قال السهيلي: وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
قلت: وفي عامها ولد رسول الله ﷺ على المشهور، وقيل: كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه، ويطهره، ويوقره ببعثة محمد ﷺ وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه، وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة.
ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة، فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش، وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصا وتوطئه لبعثة محمد ﷺ.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعري السهمي:
تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الأياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها
ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري المدني:
ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا * إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم
تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم
ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال: ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت
إن آيات ربنا ثاقبات * ما يمارى فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل * مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم * بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى * صار يحبو كأنه معقور
لازما حلقة الجران كما قد * من صخر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطال * ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الله * إلا دين الحنيفة بور
ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت أيضا:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا *بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب
ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده بسوء:
كاده الأشرم الذي جاء بالفيل * فولى وجيشه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجندل * حتى كأنه مرجوم
ذاك من يغزه من الناس يرجع * وهو فل من الجيوش ذميم
قال ابن إسحاق وغيره: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة وهو آخر ملوكهم، وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنوشروان كما سيأتي بيانه.
وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وهو الثاني إسكندر بن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم، ولما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن، هجر القليس الذي كان بناه أبرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله، وأصبح يبابا لا أنيس له.
وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته، وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء، وكانا مصحوبين من الجان، ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء، فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس.
فذكر له أمره وما فيه من الأمتعة والرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن، فبعث إليه من خربه حجرا حجرا، وأخذ جميع ما فيه من الأمتعة والحواصل، هكذا ذكره السهيلي، والله أعلم.