→ كعب بن لؤي | البداية والنهاية – الجزء الثاني تجديد حفر زمزم ابن كثير |
نذر عبد المطلب ذبح ولده ← |
على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر، وكان أول ما ابتدأ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.
قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قال: قلت وما طيبة؟ قال ثم ذهب عني. قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فجاءني فقال: احفر برة. قال: قلت وما برة؟ قال ثم ذهب عني.
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت وما المضنونة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني قال: احفر زمزم. قال: قلت وما زمزم؟
قال: لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. قال: فلما بين لي شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطمي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.
فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قال: نعم وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.
فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.
فقالوا: نعما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: ألقينا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، لا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد.
فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملئوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم.
ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم.
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم. قال ابن إسحاق: وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر
ليس يخاف منه شيء ما عمر
قال: فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك.
فرجع ونام فأتى فقيل له: احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم، وينذر فيها نادر بمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست لبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره. زاد الأموي: ومولاه أصرم، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش وقالت: والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما.
فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عنى حتى احفر فوالله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطمي، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق. قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.
قالوا: أنصفت. فجعل للكعبة قدحين أصفرين، وله أسودين، ولهم أبيضين، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل، وهبل أكبر أصنامهم، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، يعني هذا الصنم. وقام عبد المطلب يدعو الله.
وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول:
اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد
وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد
إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد
فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا
أجعله رب لي فلا أعود
قال: وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعمون.
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج. وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب. ثم عددها ابن إسحاق وسماها، وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال: فعفت زمزم على البئار كلها.
وانصرف الناس كلهم إليها، لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال في زمزم:
« إنها لطعام طعم وشفاء سقم ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ:
« ماء زمزم لما شرب منه ».
وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا فيه ولفظه: « ماء زمزم لما شرب له ».
ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي ﷺ قال: « ماء زمزم لما شرب له ».
ولكن سويد بن سعيد ضعيف، والمحفوظ عن ابن المبارك، عن عبد الله بن المؤمل، كما تقدم.
وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا: « ماء زمزم لما شرب له ». وفيه نظر، والله أعلم.
وهكذا روى ابن ماجه أيضا، والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله ﷺ قال:
« إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم ».
وقد ذُكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه، فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا، والله أعلم.
وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد، أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وذلك أنه جعل لها حوضين: حوضا للشرب، وحوضا للوضوء، فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي قوله: وبل اتباع، قال أبو عبيد: والإتباع لا يكون بواو العطف، وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان: أن بل بلغة حمير مباح.
ثم قال أبو عبيد: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، أنه سمع ردا، أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة، أنه سمع ابن عباس يقول ذلك، وهذا صحيح إليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها، فلا ينافي ما تقدم، والله أعلم.
وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته، ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة، ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر، وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس: أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل، أعطيك جميع مالك.
فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها، فقال: نعم. فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس، فترك له السقاية فصارت إليه، ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس، ثم إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور، واستناب عليها مولاه أبا رزين، ذكره الأموي.