→ ما آل إليه أمر الفرس باليمن | البداية والنهاية – الجزء الثاني قصة الساطرون صاحب الحضر ابن كثير |
خبر ملوك الطوائف ← |
وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب: إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه، وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه، إنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر، وقد قدمنا عن ابن إسحاق: إن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر، وأنه روى عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قيصر بن معد بن عدنان.
فهذه ثلاثة أقوال في نسبه، فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر.
والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك - وهو الساطرون - على حافة الفرات، وهو منيف مرتفع البناء، واسع الرحبة والفناء، دوره بقدر مدينة عظيمة، وهو في غاية الإحكام والبهاء والحسن والسناء، وإليه يجبي ما حوله من الأقطار والأرجاء.
واسم الساطرون: الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، كذا نسبه ابن الكلبي.
وقال غيره: كان من الجرامقة، وكان أحد ملوك الطوائف، وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم، وكان حصنه بين دجلة والفرات.
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف، غزا الساطرون ملك الحضر.
وقال غير ابن هشام: إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، أذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة.
وأما سابور ذو الأكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي.
قال ابن هشام: فحصره سنتين، وقال غيره: أربع سنين. وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق، فأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر؟
فقال: نعم.
فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه، وبعثت بها مع مولى لها، ففتح الباب، ويقال: بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع، فولجوا منه إلى الحضر.
ويقال: بل دلتهم على طلسم كان في الحضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم، فيفتح الباب، ففعل ذلك فانفتح الباب.
فدخل سابور فقتل ساطرون، واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها، فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس، فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرك؟ قالت: نعم. قال: فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر.
قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلي بذلك أسرع. فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها، ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
ألم ترَ للحضر إذ أهله * بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنود * حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة * أناب إليه فلم ينتقم
فهل زاده ربه قوة * ومثل مجاوره لم يقم
وكان دعا قومه دعوة * هلموا إلى أمركم قد صرم
فموتوا كراما بأسيافكم * أرى الموت يجشمه من جشم
وقال عدي بن زيد في ذلك:
والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها
ربية لم توق والدها * لحينها إذا أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها
فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ جشر * الصبح دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها
وقال عدي بن زيد أيضا:
أيها الشامت المعير بالدهر * أأنت المبرا الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام * بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم * من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنو * شروان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك * الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فبان * الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما * يملك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غبطة * حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف * فألوت به الصبا والدبور
قلت: ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين، وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه، وعتا وتمرد فيه، وأتبع نفسه هواها، ولم يراقب فيها مولاها، فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول، وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد.
وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده، فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ، فارعوى لنفسه وفكر في يومه وأمسه، وخاف من ضيق رمسه، فتاب وأناب، ونزع عما كان فيه، وترك الملك ولبس ذي الفقراء، وساح في الفلوات، وحظى بالخلوات.
وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات، وعصيان رب السموات، وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب (التوابين)
وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب (الروض الأنف) المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين.