→ الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد ﷺ الفصل الأول: ليست النصارى على شيء القرطبي |
الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل ← |
الفصل الأول: ليست النصارى على شيء
اعلم أيها العاقل وفقك الله أن النصارى أضعف الناس عقولا وأقلهم فطنة وتحصيلا فهم لذلك يعتقدون في الله المحالات وينكرون الضروريات ويستندون في أحكامهم إلى الخرافات فتارة يسندون قضاياهم إلى منامة رأوها أو خرافة سمعوها وما وعوها وأخرى تحكم فيهم متقسس جاهل بمحض الجهل والهوى والأباطل من غير أن يستدل على جواز شيء مما يريد أن يفعل من الأفاعيل لا بتوراة ولا بإنجيل بل قد يعرض عن نصوص الكتابين ويتأولهما تأويل منسلخ عن الملين وربما تنزل بهم عظام النوازل فيجتمعون لها في المحافل فيتحكمون بأهوائهم ويقولون فيها بآرائهم فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين
ونحن نبين ذلك ونستدل عليه إن شاء الله تعالى على طريقة الإنصاف من غير اعتساف فأما كونهم يعتقدون في الله المحالات وينكرون الضروريات فقد بيناه فيما تقدم فمن أراد أن يعرف ذلك فليعد نظرا هنالك
وأما كونهم يستندون في أحكامهم إلى الترهات والمنامات فيدل عليه ما حكيناه فيما تقدم من خبر بولش فإنه احتال عليهم حتى صرفهم عن دين المسيح وقولهم من المذاهب والآراء كل قبيح فصرفهم عن قبلتهم وأحل لهم ما حرم عليهم وفرق جماعتهم وشتت كلمتهم فتم له كل مكر على كل غبي غمر وقد قدمت حديثه في باب النبوات على الوفاء وكذلك خبر قسطنطين ابن هيلانة فإنه لما رأى ملكه يختل ونظامه لا يستقيم ولا يتحصل بإختلاف رعيته عليه وقلة إنقيادهم إليه جمع وزراؤه وشاورهم فاجتمع رأيهم أن يتعبد القوم بطلب دم وأن يشرع لهم شريعة ينسبها للمسيح فكتب لهم ما بأيديهم من الإنجيل أو أكثره وتعبدهم بالصلوبية وشرع لهم ترك الختان وغير ذلك من الأحكام التي وافقته وجاءت على اختياره وأكد ذلك بمنامة رآها ذكر فها أمر الصليب فتم له مراده فيهم وخبره معروف عندهم وعند غيرهم وقد قدمت بعضه في باب النبوات أيضا
وأما كونهم يحكمون بآرائهم وأهوائهم فيدل على ذلك ما أودعوه كتب محافلهم وما عليه الآن معظم عملهم ومن طالع تلك الكتب قضى من جهلهم وجرأتهم على الله كل عجب فإن قالوا إنما نحكم بالمصالح وهي عندنا أصل راجح قلنا لهم إن كانت المصالح عندكم أصلا تعولون عليه وتسندون أحكامكم إليه فمن الذي أصلها لكم فإن كنتم أصلتموها لأنفسكم فقد تحكمتم في الأصل والفرع ثم يلزمكم من هذا القول الإستغناء عن الشرائع وأن ما شرع الله من الأحكام في التوراة عبث لا معنى له ولا فائدة إذا في النظر في المصالح غنى عنها
وإن كان الأنبياء شرعوا لكم أصل المصالح فلا بد من الاستدلال على ذلك من كلامهم وإذا لم تستدلوا على ذلك فدعواكم باطلة وحجتكم داحضة
ثم نقول لهم هب أن الأنبياء شرعوا لكم أصل المصالح فهل شرعوا العمل بالمصالح كيف ما كانت المصلحة مطلقا أو عينوا لكم نوعا من المصالح فإن كانوا قد عينوا فينبغي لكم ألا تتعدوا ما عين لكم الأنبياء فما بالكم تسترسلون استرسال من يحكم بهواه ولا يخاف الله ولا يخشاه وإن كانوا أطلقوا لكم القول بالمصالح وقالوا لكم مهما ظهرت لكم مصلحة كائنة ما كانت فاعملوا بمقتضاها فكان يلزم على هذا اسقاط كثير من أحكام التوراة بالمصالح والرأي كما فعل بولش حيث قال لهم هل رأيتم سارحة تسرح من عند ربها ولا تخرج إلا من حيث تؤمر به قال فإني رأيت الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من ها هنا يعني الشرق وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصلى إليه قالوا له صدقت
فردهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال جهة الشرق لهذا الهذيان ثم قال لهم بعد زمان رأيت رأيا فلو قالوا هات قال لهم ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى الرجل هدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه وأن الله سخر لكم ما في الأرض وجعل ما في السماء لكم كرامة فالله أحق ألا ترد عليه كرامته فما بال بعض الأشياء حرام وبعضها حلال ما بين البقة إلى الفيل حلال قالوا صدقت
وهذا محض الجراءة على الله والإفتراء على شرائع الله ولم يصر قط أحد من المتشرعين إلى مثله ويلزم عليه أن يكون كل من أراد أن يشرع شرعا شرعه فيكون العقلاء كلهم شارعين ويستغنى عن رسل رب العالمين وهذا غاية الكفر والضلال وهو لازم على مذهب أولئك الجهال فقد ظهر من هذا الفصل أنهم لا يستندون إلى شيء وأنهم ليسوا على شيء ألا إنهم هم الكاذبون