الرئيسيةبحث

الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/القسم الأول

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد ﷺ
القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد
القرطبي

القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد ﷺ

المقدمة الأولى

غرض هذه المقدمة أن نبين فيها معنى النبوة والرسالة والمعجزة وشروطها ووجه دلالتها فنقول لفظ النبوة والرسالة والمعجزة وشروطها ووجه دلالتها فنقول لفظ النبي والنبوة وما تصرف منه راجع إلى النبأ وهو الخبر تقول نبأت وأنبأت بمعنى أخبرت وخبرت وهذا مع لفظ نبئ بيّن

وكذلك هو مع تسهيله على أصح الأقوال فإنه قد يكون أصل شيء من الألفاظ الهمز ثم يخفف الاسم منه كما قالوا خابية وهو من خبأت هذا أصح ما قيل في اشتقاق هذا اللفظ فإذا تقرر هذا فنبئ على أصل الوضع وزنه فعيل وفعيل يأتي في الكلام بمعنيين أحدهما فعيل بمعنى فاعل كما قيل رحيم بمعنى راحم وسميع بمعنى سامع والثاني فعيل بمعنى مفعول كما قيل رجيم بمعنى مرجوم وخصيب بمعنى مخصوب فعلى هذا يصح في نبي أن يكون بمعنى مخبر وبمعنى مخبر

فعلى أصل الإشتقاق ووضع العرب كل من أخبر بشيء أو أخبر بشيء فهو نبي

وعلى المتعارف بين المتشرعين إنما يطلقون اسم النبي على من كان مخبرا عن الله فأما أن يكلمه الله مشافهة وإما بواسطة ملاك

وهذا هو عرف المتشرعين في النبوة وإلى هذا يرجع معناها فالنبئ عند عقلاء أهل الشرائع إنما هو حيوان ناطق مائت كامل في نوعه مخبر عن الله تعالى بحكم أو مشافهة إما بواسطة ملك أو ما تنزل منزلته

فقولنا حيوان ناطق أردنا به أن إنسانا باق على أصل إنسانيته لا يمتاز عن غيره من نوع الإنسان بوصف حقيقي وإن إمتاز بأوصاف عرضية عن غيره كالعلوم الخاصة بهم وصفات الكمال التي خصهم الله بها فذلك لا يخرجه عن كونه إنسانا ولأجل هذا المعنى كانت الرسل تقول لقومها إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وكذلك قال الصادق المصدوق إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فجعل الفصل بينه وبين نوعه ما خص به من الوحي

وقولنا مائت تنبيه على مآله لئلا يغلوا في بعضهم جاهلون كما فعلت النصارى فينسبونهم إلى ما لا يليق بمن يموت

وقولنا كامل أعنى بذلك أن الأنبياء مجبولون على أتم صفات نوع الإنسان وذلك معلوم من أوصافهم وإن كانوا متفاوتين في ذلك

وقولنا مخبر عن الله هذا القيد هو خاصته التي تفصله عن غيره من نوعه فإن لم يكن كذلك لم يقل عليه أنه نبي

وقولنا إما مشافهة وإما بواسطة ملاك بحرز ممن يبلغه خير الله تعالى على ألسنة رسله فإنه ليس بنبي ولا يقال عليه بحكم العرف إنه نبي ولو جاز ذلك لجاز أن يقال نبي على كل متشرع سمع من رسوله خبرا عن الله وهذا لم يقله أحد

وقولنا أو ما تنزل منزلته نريد به أن الأنبياء قد يتلقون الوحي على وجوه منها أن يكلمه الله مشافهة ومنها أن يرسل إليه ملكا يخبره عن الله ومنها أنه يلقى إليه الوحي في النوم ومنها أن الله تعالى يقذف في روعه ويلهمه إلهاما حتى لا يشك أن الأمر كذلك ويقطع به

فإذا تقرر أن حقيقة النبوة ما ذكرناه وأن فضله الخاص به هو ما تحصل له من الأخبار عن الله فذلك الخبر أن أمر النبي بتبليغه لغيره فذلك النبي هو الذي يقال عليه رسول والرسالة هو الكلام المبلغ عن الله فلأجل هذا يصح أن يقال كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا

إذ الرسالة نبوة وزيادة وهذا بين بنفسه فإذا تقرر ذكل فهذا البشرى الذي يدعى أن الله أرسله إلينا لا بد أن يكون صادقا وذلك لا نعرفه بغير دليل فلا بد من دليل

والدليل المتحدى به هو المعجزات ولا بد من النظر في حقيقتها وفي شروطها وفي وجه دلالتها

فأما المعجزة

فلفظ مأخوذ من الإعجاز وذلك أنك تقول عجز فلان عن كذا عجزا إذا لم يقدر عليه ولم يقم به وأعجزته إعجازا إذا جعلته يعجز وتقول أعجزني الشيء إذا فاتك ولم تقدر عليه

وكلها راجعة إلى أن العاجز عن الشيء هو الذي لا يتمكن من الشيء ولا يقدر عليه ثم في تسمية هذه الأدلة التي تدل على صدق الأنبياء معجزات تجوز وذلك أن المعجز على التحقيق إنما هو خالق العجز وهذه الأسباب التي يقع العجز عندها تسمى معجزة بالتوسع وذلك من تسمة الشيء باسم غيره إذا جاوزه أو كان منه بسبب

هذا شرح لفظ المعجزة

فأما حقيقتها فهو أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة

إنما قلنا أمر ولم نقل فعل ليشتمل بذلك على الفعل الخارق للعادة والمنع من الفعل المعتاد فلو قال نبي آيتي أنه لا يقدر أحد أن يتكلم اليوم فكان ذلك لكان ذلك دليلا على صدقه ويكون ذلك معجزة له مع أنه ليس إتيانا بفعل عرفي وإنما هو منع من فعل معتاد وإنما قلنا مقرون بالتحدي لئلا يتخذ الكاذب معجزة من تقدمه حجة لنفسه ولتتميز عن الكرامة وما في معناها وإنما قلنا مع عدم المعارضة لتتميز عن السحر والشعبذة

وإذا حققت النظر فيما ذكرناه في حد المعجزة علمت شروطها لكن ينبغي لك أن تعرف أن المعجزة لا تكون دليلا إلا في حق من علم وجود الباري تعالى وأنه قادر عالم مريد موصوف بصفات الكمال حتى يتأتى منه الإرسال والتصديق والتكليف وإذا لم يعرف الناظر

هذه الأمور بأدلة عقليه لم يعرف المعجزة ولم يفده العلم بالتصديق للنبي

وأما وجه دلالتها

فهو أن المشاهد للمعجزة المتحدي بها إذا علمها وعلم شروطها علم على الضرورة أن الله تعالى قصد بذلك المعجز تصديق المدعي ويتبين هذا بمثال وذلك أنه لو فرضنا ملكا عظيما اجتمع له أهل مملكته في مجلسه وأهل المملكة مصغون لما يأمرهم به ذلك الملك فقام رجل من بين يديه وقال إني رسول هذا الملك إليكم وقد أمرني أن أبلغكم أمره ونهيه وأنا صادق في قولي هذا ثم يقول يا أيها الملك إن كنت صادقا فيما أقوله عنك فخالف عادتك وقم عن سريرك قياما تخالف به المعتاد من فعلك فإذا فعل الملك ذلك عند تحدي المدعى فإن أهل المجلس يضطرون إلى العلم بأن الملك قصد ذلك الفعل تصديقه ولا يعتريهم في ذلك ريب ولا توقف فتنزلت إذن تلك الأفعال بتلك الشروط منزلة قوله صدقت أنا أرسلتك وهذا بين بنفسه عند كل موفق منصف معلوم علىالقطع

فإذا تقرر ذلك فمهما ادعى شخص الرسالة واستدل عليها بمثل ما ذكرناه كان محقا في دعواه صادقا في قوله لا يجوز لعاقل أن يتخلف عن متابعته سواء ادعى عموم رسالته أو خصوصها ورسولنا محمد ﷺ قد ادعى عموم رسالته واستدل على صدقه بالمعجزات على الشروط التي ذكرناها فهو صادق ولا يجوز لعاقل بلغه أمره أن يتخلف عن متابعته وتصديقه

وسنذكر إن شاء الله بعض ما أمكن ذكره من معجزاته فإنه ﷺ قد أيد بمعجزات كثيرة حتى إذا جمعت وتتبعت علم منها أن الله تعالى قد جمع له أكثر معجزات الأنبياء قبله وخصه بمعجزات لم يشاركه فيها غيره منهم وستقف إن شاء الله على أكثر ذلك

فهذه المقدمة الأولى

المقدمة الثانية

وأما المقدمة الثانية فالغرض منها أن تتبين فيها أن عيسى عليه السلام ظهرت المعجزات على يديه وتحدى بها الخلق ليؤمنوا أنه رسول الله لا ليؤمنوا بأنه إله وأن النصارى غير عالمين بمعجزات عيسى عليه السلام إذ لم تتوافر عندهم فنقول وبالله التوفيق:

إن النصارى غايتهم أن يسندوا معجزات عيسى عليه السلام لما في أيديهم من الإنجيل وهو لم يتواتر نقله ولا أمن التحريف والغلط فيه على ما تقرر قبل وإذا كان هذا فكل ما في أيديهم من الأخبار عنه في الإنجيل لا تفيد العلم القطعي وغاية ذلك أن تفيد غلبة ظن، والظن في الاعتقاد بمنزلة الشك بل هو شك فإذن هم من معجزات عيسى في شك وهم لا يشعرون بذلك الإفك

ومما يدل على أنهم من كتابهم وشرعهم على غير علم ما استفاض في كتب التواريخ عندنا وعندهم وذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله تعالى دعا بني إسرائيل للإيمان فأجابه من شاء الله منهم فلما رفعه الله تعالى استحلى الناس كلامه بعد ذلك حتى بلغ عدد بني إسرائيل سبع مائة رجل فكانوا يجاهدون في بني إسرائيل ويدعون الى الايمان فقام بولش اليهودي وكان هو الملك في بنى اسرائيل فحشد عليهم الأجناد وخرج عليه وقاتلهم فهزمهم وأخرجهم من بلاد الشام حتى انتهى فلهم إلى الدروب فأعجزوه فقال بولش الملك لجنوده إن كلام هؤلاء لمستحلى وقد قدموا على عدوكم وسيرجعونهم في ملتهم فيكثرون علينا فيخروجون إلينا ويخرجوننا من بلاد الشام ولكني أرى لكم رأيا قالوا وما هو قال تعاهدوني على كل شيء كان خيرا أو شرا ففعلوا فترك ملكه ثم لبس لباسهم وخرج إليهم ليضلهم حتى انتهى إلى عسكرهم فأخذوه وقالوا الحمد لله الذي أخزاك أمكن منك فقال لهم أجمعوا رؤوسكم فإنه لم يبلغ مني حمقي أن آتيكم وإلا ومعي برهان فأبلغوه رؤوسهم. فقالوا مالك فقال إني لقيني المسيح منصرفي عنكم فأخذ سمعى وبصري وعقلي فلم أسمع ولم أبصر ولم أعقل ثم كشف عني فأعطيت الله عهدا أن أدخل في أمركم فأتيت لأقيم فيكم وأعلمكم التوراة وأحكامها فصدقوه فأمرهم أن يبنوا له بيتا ويفرشوه رمادا ليعبد الله فيه بزعمه ويعلمهم التوراة.

ففعلوا وعلمهم ما شاء الله ثم أغلق الباب دونه فأطافوا به وقالوا نخشى أن يكون رأى شيئا يكرهه ثم فتحه بعد يوم فقالوا أرأيت شيئا تكرهه قال لا ولكني رأيت رأيا وأعرضه عليكم فإن كان صوابا فخذوه وإن كان خطأ فردوني عنه قالوا هات قال هل رأيتم سارحة تسرح إلا من عند ربها وتخرج إلا من حيث تؤمر به قالوا لا قال فإني رأيت الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من ها هنا وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصل إليه قالوا صدقت فردهم عن قبلتهم

ثم أغلق الباب بعد ذلك بيومين ففزعوا أشر من الأول وأطافوا به ففتحه فقالوا أرايت شيئا تكرهه قال لا ولكني رأيت رأيا قالوا هات قال ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى الرجل الهدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه وأن الله تعالى سخر لكم ما في الأرض وجعل ما في السماء لكم كرامة فالله أحق أن لا ترد عليه كرامته

فما بال بعض الأشياء حلال وبعضها حرام ما بين البقة إلى الفيل حلال قالوا صدقت

ثم أغلق بعد ذلك ثلاثا ففزعوا أمثل من الثانية فلما فتح لهم قال لهم إني رأيت رأيا قالوا هات قال لنخرج كل من في البيت إلا يعقوب ونسطور وملكون والمؤمن

ففعلوا فقال هل علمتم أحدا من الإنس خلق من الطين خلقا فجعله فصار نفسا قالوا لا قال فهل علمتم أن أحدا من الإنس أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى قالوا لا قال هل علمتم أن أحدا من الإنس ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم قالوا لا قال فإني أزعم أن الله تعالى تجلى لنا ثم احتجب

فقال بعضهم صدقت وقال بعضهم لا ولكنه ثلاثة والد وولد وروح القدس وقال بعضهم الله وولده وقال بعضهم هو الله تجسم لنا

فافترقوا على أربع فرق فأما يعقوب فأخذ بقول بولش إن الله هو المسيح وأنه كان ثم تجسم وبه أخذت شيعته وهم اليعقوبية وأما نسطور فقال المسيح ابن الله على جهة الرحمه وبه أخذت شيعته وهم النسطورية إلا أن شيعته لم تعتقد أنه سمى ابنا على جهة الرحمة بل على ما تقدم وأما ملكون فقال إن الله ثلاثة وبه أخذت شيعته وهم الملكية الذين قالوا إن الله ثلاثة أقانيم فقام المؤمن وقال لهم عليكم لعنة الله والله ما حاول هذا إلا إفسادكم ونحن أصحاب المسيح قبله وقد رأينا عيسى وسمعنا منه ونقلنا عنه والله ما حاول هذا إلا ضلالتكم وفسادكم

فقال بولش للذين اتبعوه قوموا بنا نقاتل هذا المؤمن ونقتله هو وأصحابه وإلا أفسد عليكم دينكم فخرج المؤمن إلى قومه وقال أليس تعلمون أن المسيح عبد الله ورسوله وكذا قال لكم قالوا بلى قال فإن هذا الملعون قد أضل هؤلاء القوم فركبوا في أثرهم

فقاتلوهم فهزم المؤمن وأصحابه وكان أقلهم تبعا فخرج مع قومه إلى الشام فأسرتهم اليهود فأخبروهم الخبر وقالوا إنما خرجنا إليكم لنأمن في بلادكم ومالنا في الدنيا من حاجة إنما نلزم الكهوف والصوامع ونسيح في الأرض فخلوا عنهم

ثم إن قوما من أولئك الذين كفروا فعلوا مثل ما فعل قوم المؤمن اتخذوا الصوامع وساحوا وأظهروا البدعة فهو قول الله تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها يعني التوحيد اختلفوا فيه إلا فرقة المؤمن وفيهم نزلت فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بالجهة وظهور محمد ﷺ وكان هرب المؤمنين منهم إلى جزيرة العرب فأدرك النبي ﷺ منهم ثلاثون راهبا فآمنوا به وصدقوه وتوفاهم الله على الإسلام

كان هذا والله أعلم بعد المسيح بأربعين سنة أو نحوها ثم لم يزل أمر المؤمن وأصحابه خفيا وغيرهم من الفرق مختلفون ويتهارجون ولم يستقر لهم قدم إلى مدة قسطنطين قيصر الملك ابن هيلانة وذلك بعد رفع المسيح بمائتين وثلاثة وثلاثين سنة

وذلك أنه كثر عدوه وكاد ملكه يذهب بإختلاف رعاياه عليه وضعفهم وكسلهم عن نصرته فرام حملهم على شريعة ينظم بها سلكهم ويؤلف بها متفرقهم فاستشار من لديه من أهل النظر فوقع اختيارهم على أن يتعبد القوم بطلب دم ليكون ذلك أقوى لارتباطهم معه وأوكد لجدهم في نصره فوجدوا اليهود يزعمون أن في بعض تواريخهم خبرا عن رجل منهم هم أن ينسخ حكم التوراة وينفرد بالتأويل فيها فعمدوا إليه وهو في نفر ممن اتبعه وظفروا بواحد منهم وشهد لديهم رجل واحد أنه ذلك المطلوب فصلبوه وما عندهم تحقيق لكونه ذلك المطلوب بعينه إلا فقدهم إياه من حينئذ

فعند ذلك عمد قسطنطين إلى من ينسب إلى دين المسيح فوجدهم قد اختلفت آراؤهم ومزجت أديانهم فاستخرج ما بقى من رسم الشريعة المنسوبة للمسيح وجمع عليها وزراءه فأثبت ما شاء منها وتحكم فيها بإختياره حسب ما رآه موافقا له بالصلوبية لتعبد قومه بطلب دم والقول بترك الختان لأنه شأن قومه ثم أكد ذلك وشده بمنامة إختلقها وادعى أنه أوحى إليه فيها

وذلك أول شيء أظهره من هذا الأمر فجمع أنصاره ورعاياه من الروم وذلك على رأس سبع سنين من مدة ملكه وقال لهم إنه كان يرى في منامه آتيا أتاه فقال له بهذا الرسم تغلب وعرض عليه هيئة الصليب فأعظمت ذلك العامة وإنفعلت لما سمعت منه ثم بعث إلى إمرأة في ذلك الزمان يقال لها الأنه كاهنة وكانت ذات جأش وقوة فشهدت له أنها رأت مثل ما رأى فقوى تصديق العامة لذلك

وفي هذا كله لا يعلمون لذلك الرسم تأويلا ولا كان قسطنطين كشف لهم شيئا من أمره فخرج بهم إلى عدوه ووعظ قومه وهول عليهم أمر الرسم فحصل له كل ما أراده من جد القوم وإجتهادهم معه فلما عادوا إلى أوطانهم بعد الظفر بعدوهم سألوه عن تأويل ذلك الرسم وألحوا عليه فيه فقال لهم قد أوحى إلى في نومي أنه كأن الله تبارك وتعالى هبط من السماء إلى الأرض فصلبته اليهود فهالهم ذلك كثيرا مع ما حصل عندهم من تصديقه وعظم عليهم الخطب فيه فإنقادوا إلى قسطنطين إنقيادا حسنا وصح له منهم ما أراده وشرع لهم هذه الشرائع التي بأيديهم اليوم أو أكثرها

وقد ظهر لجماعة من أهل العلم بأحوال الأمم وبنوازل الأزمان أن هذا الشخص الذي تعظمه النصارى وتصفه بالإلهية لم يكن له وجود في العالم ولكن قسطنطين إاتدع ذلك كله واتفق مع نفر من اليهود من أحبارهم على أن يبذل لهم من متاع الدنيا ما شاءوا ويشهدون له عند قومه بأن ذلك الشخص كان عند اليهود فصلبته ففعلوا وكتبوا من أخباره شيئا فتلقت ذلك النصارى وقبلوه ودانوا به ولعله أكثر الإنجيل الذي بأيديهم اليوم

ولتعلم أن هذه الأخبار التي ذكرناها لا يمكنهم إنكار جملتها وإن أنكروا بعض تفاصيلها لكون هذه القصص معروفة على الجملة عندهم فإنهم لا يقدرون على جحد محاربة بولش اليهودي وإجلاؤهم من الشام ودخول بولش في دينهم وكذلك ملك قسطنطين مما لا ينكرون أشهاره لكتبهم ثم لو قدرنا أن هذه الوقائع لم تعلم صحتها ولا كذبها فشرعهم قابل لأمثالها فإن معظم معتمدهم في أمور دياناتهم إنما هو الإنجيل ونقله غير متواتر لا سيما والأحداث عندهم في أكثر الأحيان بمنامات يدعونها يجعلونها أصولا يعولون عليها وبمحافل يجتمعون فيها فيتحكمون بآرائهم ولا يستندون لشيء من كتبهم ولا لشيء من كلام أنبيائهم وإن شئت أن ترى هذا عيانا فانظر كتب إجتماعاتهم ومحافلهم فإنهم ينحشدون لمواضع مخصوصة في أحيان مخصوصة ويخترعون فيها أحكاما وأمورا لا مستند لهم ولا أصل إلا بالتحريم على المآكل والتحكم في العامة بفارغ الأقاويل وسنبين ذلك إذا ذكرنا جملا من أحكامهم وإذا كان هذا مبنى شريعتهم فكيف يوثق بشيء من ترهاتهم

فإذا تقرر ذلك فلتعلم أن أتخاذهم المسيح إلها إنما سببه ما سبق ذكره ولا يقدرون على أن ينسبوا شيئا من ذلك إلى عيسى عليه السلام بل قد نقلوا عنه في إنجيلهم ما يدل دلالة قاطعة من حيث اللفظ على أنه إنما ادعى النبوة وعليها استدل بمعجزاته وفي دعواه النبوة كذبته اليهود

ونحن الآن نسرد بعض ما وقع في إنجيلهم من دعواه الرسالة بحول الله سبحانه

[أن المسيح رسول]

من ذلك

ما جاء في الإنجيل عنه أنه قال حين خرج من السامرية ولحق بجلجال أنه لم يكرم أحدا من الأنبياء في وطنه

وفي إنجيل لوقا أنه لم يقبل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقبلونني وهذا نص لا يقبل التأويل في أنه إنما ادعى النبوة المعلومة

وفي إنجيل ماركش أن رجلا أقبل إلى المسيح وقال له أيها المعلم الصالح أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة فقال له المسيح لم قلت لي صالحا إنما الصالح الله وحده وقد عرفت الشروط وذلك ألا تسرق ولا تزنى ولا تشهد بالزور ولا تخون وأكرم أباك وأمك

وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادت القبض عليه وعلم بذلك رفع بصره إلى السماء وقال قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك وإجعل لي سبيلا إلى أن أملك كل من ملكتني الحياة الباقية وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا وبالمسيح الذي بعثت فقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت ما أمرتني به فشرفني لديك

وفي إنجيل متى أنه قال لتلاميذه لا تنسبوا أباكم على الأرض فإن أباكم الذي في السماء وحده ولا تدعوا معلمين فإن معلمكم المسيح وحده

فقوله لا تنسبوا أباكم على الأرض أي لا تقولوا أنه على الأرض ولكنه في السماء ثم أنزل نفسه حيث أنزله الله تعالى فقال ولا تدعوا معلمين فإن معلمكم المسيح وحده فها هو قد سمى نفسه معلما في الأرض وشهد أن الههم في السماء واحد ونهاهم أن ينسبوه لإلهية

وفي إنجيل لوقا أنه حين أحيا الميت بباب مدينة نايين حين أشفق لأمه لشدة حزنها عليه قالوا إن هذا النبي لعظيم وإن الله قد تفقد أمته ولم يقولوا إن هذا إله عظيم

وفي إنجيل يوحنا أن عيسى قال لليهود لست أقدر أن أفعل من ذاتي شيئا لكني أحكم بما أسمع لأني لست أنفذ إرادتي بل إرادة الذي بعثني

وفي إنجيله أيضا أنه أعلن صوته في البيت وقال لليهود قد عرفتموني موضعي فلم آت من ذاتي ولكن بعثني الحق وأنتم تجهلونه فإن قلت إني أجهله كنت كاذبا مثلكم وأنا أعلم أني منه وهو بعثني

فانظر كيف أخبر عن نفسه أنه معلوم عند اليهود وأخبر عن الله أن اليهود لا تعرفه وقال إنه لم يأت من ذاته ولكن الله بعثه وهكذا كانت دعوة من قبله من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم أن ينتسبوا إلى ما ينفرد به ذو الجلال والإكرام

وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود بعد خطاب طويل مذكور في الإنجيل حين قالوا له إنما أبونا إبراهيم فقال إن كنتم بني إبراهيم فاقفوا أثره ولا تريدوا قتلي على أني رجل أديت إليكم الحق الذي سمعه من الله غير أنكم تقفون أثر آبائكم قالوا لسنا أولاد زنا إنما نحن أبناء الله فقال لو كان الله أباكم لحفظتموني لأني رسول منه خرجت مقبلا ولم أقبل من ذاتي وهو بعثني لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي إنما أنتم أبناء الشيطان وتريدون إتمام شهواته إلى كلام كثير

وفيه أيضا أنه كان يمشي يوما فأحاطت به اليهود وقالوا إلى متى تخفى أمرك إن كنت المسيح المنتظر فأعلمنا بذلك

ولم تقل له إن كنت إلها لأنه لم تعلم من دعواه ذلك ولا إختلاف عند اليهود أن الذي ينتظرونه إنما هو إنسان نبي ليس بإنسان إله كما تزعمون

وفي الإنجيل أيضا عنه أن اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان وأن رجعوا إلى قوادهم فقالوا لهم لم لم تأخذوه قالوا ما سمعنا آدميا أنصف منه فقالت اليهود وأنتم أيضا مخدوعون أترون أنه آمن به أحد من القواد أو من رؤساء أهل الكتاب إنما آمن به من الجماعة من يجهل الكتاب فقال لهم نيقوديموس أترون أن كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه فقالو له اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء نبي من جلجال

فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل لهم نفسه منزلة نبي فقط ولو علمت من دعواه الإلهية لقاتلته يومئذ

ومثل هذا كثير في إنجيلهم لو ذهبت أذكره لطال أمره

وقد تقدم من كلام أشعياء أن الله تعالى قال في المسيح هذا غلامي المصطفى وحبيبي الذي ارتضت به نفسي

ومن كلام عاموس النبي أن الله قال على لسانه ثلاثة ذنوب أقيل لبني إسرائيل والرابعة لا أقيلها بيعهم الرجل الصالح

ولم يقل بيعهم إياي ولا قال بيعهم إلها متساويا معي فهذا المبيع لا يخلو أما أن يكون هو المسيح كما تزعمون فقولوا فيه كما قال الله أنه رجل صالح ولا تقولوا إنه إله معبود وأما أن يكون المبيع غيره فهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه ويلزمكم إنكار صلوبية المسيح وهو كفر عندكم وقد كررنا هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا لكون النصارى على إختلاف فرقهم يعتقدون له الإلهية على إختلاف في كيفية ذلك كما تقدم

وحتى لقد ذهبت طائفة منهم إلى مقالة لم يسمع قط في أكناف العالم وأطرافه من اجترأ على التفوه بها ونحن نستغفر الله قبل حكايتها ونتبرأ إلى الله من مذاهبهم الفاسدة ومن القائل بها وذلك أنى وقفت على رسالة بعض الأقسة كان بطليطلة نسبه من القوط قال فيها هبط الله بذاته من السماء والتحم ببطن مريم

ثم قال وهو الإله التام والإنسان التام ومن تمام رحمته على الناس أنه رضى بهرق دمه عليهم في خشبة الصليب فمكن اليهود أعداءه من نفسه ليتم سخطه عليهم فأخذوه وصلبوه وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء في الأرض ليبست إلا شي وقع فيها فيبست في موضعه النوار لأنه لم يمكن في الحكمة الأزلة أن ينتقم الله من عبده العاصي آدم الذي ظلمه واستهان بقدره فلم يرد الله الإنتقام منه لإعتلاء منزلة السيد وسقوط منزلة العبد أراد أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو معه

فانظر تواقح هذا القائل واستخفافه بحق الله تعالى وجهله وتناقضه وحمقه فوالله لو حكى مثل هذا القول السخيف عن مجنون أو موسوس لما كان يعذر بقوله ولبودر بضربه وقتله حتى لا يجترئ على مثله ونحن نربأ بأكثر المجانين والموسوسين أن يتقولوا بهذا المذهب الغث الهجين أو ينتحلوا ركاكة هذا الدين السقيم إلا أن يكون مستغرقا في الوسوسة والجنون فالحمق أنواع والجنون فنون

وعند الوقوف على هذا المذاهب القبيحة والأوهام يتبين فضل دين الإسلام ويتحقق معنى قول النبي عليه السلام إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتى ينفذه فيهم

وفي مثل هذا الضرب المثل إذا جاء البين صم الأذن وعمى العين والحمد لله الذي أعاذنا من هذه الرذائل وتفضل علينا بدين الحنيفية الذي خص بكل الفضائل التي يقبلها بفطرته الأولى كل عاقل ويستحسنها كل ذكي فاضل

فقد تحصل من هاتين المقدمتين معنى النبوة وبيان شروطها وأن عيسى عليه السلام نبي ورسول إذ قد كملت فيه شروط الرسالة وأنه ليس باله وأن النصارى ليسوا عالمين بشيء من أحوال المسيح ولا من معجزاته على اليقين والتفصيل

وغايتهم أن يعلموا أمورا جملية لكثرة تكرار هذا المعنى عليهم

ثم تلك الأخبار التي يتحدثون بها عن المسيح وتتكرر عليهم لو كلفوا أن يسندوا شيئا منها لغير الإنجيل كما ينقل متواترا لما استطاعوا شيئا من ذلك ولا وجدوا إليه سبيلا

ومما يؤيد هذا المعنى ويوضحه أن اليهود كانوا رهطه وكفلته وعندهم نشأ وهم يخالفونكم في كثير مما تنسبون إليه ولا يوافقونكم على نقلها

ومن ذلك أن اليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نحبسه أكثر من ثلاثة أيام إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم لأنه كان يداخله بصناعة الطب

وفي إنجيلكم أنه أخذ صبح يوم الجمعة وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه

وكذلك تزعم اليهود كلهم أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت لهم منه آية غير أنه طار يوما وقد هما بأخذه فطار على أثره أحد منهم فعلاه في طيرانه وتوله فسقط إلى الأرض بزعمهم

ومواضع كثيرة من إنجيلكم تدل على ما قالته اليهود من أنه لم يأت بآية

فمن ذلك أن اليهود قالت له ما آيتك التي ترينا ونؤمن بك وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المن والسلوى في المفاز فقال إن كان أطعمكم موسى خبزا بالمفاز فأنا أطعمكم خبزا سماويا يريد نعيم الآخرة فلو عرفت اليهود له معجزة لما قالت ذلك ثم لم يجبهم على قولهم بمعجزة ولا آية

وفي إنجيلكم أن اليهود جاءوا يسألونه آية فقذفهم وقال إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية ولا تعطى ذلك

وفيه أيضا أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك نؤمن بك يطلبون منه بذلك آية فلم يفعل

ومثل هذا كثير فيه

ثم إن اليهود عندهم من الإختلاف في أمره ما يدل على عدم يقينهم بشيء من أخباره فمنهم من يقول إنه كان رجلا منهم يعرفون أباه وأمه وينسبونه لزانية وحاشى لله كذبوا ويسمون أباه للزنية البندير الرومي وأمه مرم الماشطة كذبوا لعنهم الله ويزعمون أن زوجها يوسف لما رأى البندير عنها على فراشها وتشعر بذلك فهجرها وأنكر ابنها ومنهم من يقول أنه لم يتولد من غير أب وينكره ويقول إنما أبوه يوسف بن يهوذا الذي كان زوجا لمريم

ثم إن اليهود لعنهم الله أطبقت على إطلاق الذم عليه ثم اختلفوا في سبه فمنهم من قال ما تقدم ومنهم من ذكر سبا آخر وهو أنهم زعموا أنه كان يوما مع معلمه يهوشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا وجاءت إمرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم فقال يهوشوع ما أحسن هذه المرأة يريد فعلها فقال عيسى بزعمهم لعنهم الله لولا عمش في عينيها فصاح يهوشوع وقال له ما ممزار ترجمته يا زنيم أتزنى بالنظر وغضب عليه عضبا شديدا وعاد إلى بيت المقدس وحرم باسمه ولعنه في أربع مائة قرن قالوا فحينئذ لحق بزعمهم ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوى لذلك بزعمهم على اليهود وهم يومئذ في ذمة قيصر تباريوش وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان

ومنهم من يقول إن ذلك إنما أطلق عليه لأنه كان يوما يلاعب الصبيان في صغره بالكرة فوقعت له بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشائخ فقوى عيسى وتخطى رقابهم وأخذها فقالوا له ما نظنك إلا زنيما فأمضيت عليه هذه الشتيمة

وكذلك يختلف في صنعة أبيه الذي تقولون أنتم فيه خطيب أمه فمنهم من يقول يوسف النجار وبعضهم يقول إنما هو الحداد وكذلك تختلفون أنتم في اسم أبيه فبعضكم يقول يوسف بن يعقوب وبعضكم يقول يوسف بن هالى وكذلك اختلفتم أنتم في آبائه وفي عدده فمنكم من يقلل ومنكم من يكثر على ما تقدم فهذا الإختلاف الكثير والاضطراب البين الشهير يدل على أنكم واليهود في شك منه وأنه لم يثبت عندكم خبر متواتر عنه وإنما هي ظنون كاذبة وأوهام راتبة وسنبين مداخل الشك والأوهام عليهم في قولهم بصلوبيته ونبين أن اليهود والنصارى في قولهم بصلبه كاذبون وأنهم في ريبهم يترددون فلولا أن من الله علينا بفضله علينا وعليكم معاشر النصارى بأن بعث إلى الجميع سيد المرسلين لبقي الجميع من أمر عيسى حيارى

فنزه الله المسيح وأمه على لسان نبيه مما قالته اليهود فيهما من الأقوال الوخيمة ونسبوه لها من الهجاء والشتيمة وكما شهد ببراءة المسيح وأمه مما نسبته اليهود إليهما كذلك شهد ببراءتهما مما نسبتموهما أنتم إليه وتقولتموه عليهما

وذلك أن منكم طائفة يقولون إن مريم إله وقد أطبقتم على أن المسيح إله وإبن الإله ونبينا عليه السلام يقول مخبرا عن الله سبحانه وتعالى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة

فإذا سمع القائل قوله فيهما علم بعقله أن ذلك القول هو الحق وإن كان ممن طالع الزبور علم أن دعاء داوود مستجاب ومقاله صدق وذلك أن في الزبور أن الله تعالى قال لداوود سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا فقال: اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر

فاعتبر قول داوود حين أفزعه ذلك وراعه كيف دعا إلى الله أن يبعث جاعل السنة الذي يعلم الناس أن ذلك الولد المدعو إنما هو بشر

وكذلك قال المسيح على ما حكاه إنجيلكم اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن الإنسان بشر

والبارقليط بالرومية هو محمد بالعربية

فلما ضللتم وتفوهتم بذلك وراغمتم أدلة العقول وكلام الأنبياء المنقول بعث الله جاعل السنة وكاشف الغمة محمدا ﷺ فأعلم الناس أنه بشر ليس بإلاه ولا ابن إله فقال مبلغا عن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا

ونذكر الآن هنا خبر النجاشي ليكون منبهة للعاقل ومردعة للجاهل

وذلك أن الله تعالى لما بعث محمدا ﷺ اتبعه جماعة ممن نور الله قلبه وشرح للإسلام صدره وذلك في أول الأمر فآمنوا به والتزموا شرعه وأحكامه فكان كفار قريش والمخالفون لهم في أديانهم يؤذونهم ويعذبونهم يرومون بذلك ردهم عن دينهم كما قد فعل بأتباع الأنبياء قبلهم فلما أشتد عليهم الأمر شكوا ذلك لرسول الله ﷺ فأمرهم أن يهاجروا إلى أرض الحبشة ووعدهم بأن يجعل الله من أمرهم فرجا وأخبرهم أن بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد ففعلوا فقدموا على النجاشي واسمه أصحمة وكان على صميم دين النصرانية

فلما قدموا عليه استقر بهم المنزل ووجدوه خير منزل فأقاموا هنالك دينهم واغتبط النجاشي بصحبتهم وهم بجواره فلما رأى كفار قريش أن قد وجدوا بأرض النجاشي أمنا ودعة وجهوا إثنين منهم وأصحبوهما هدايا جليلة إلى النجاشي وأقسته وطلبوا منه ومن أساقفته أن يسلمهم لهما

فلما قدما أرض النجاشي دفعا لأقسته هداياهم وطلبا منهم أن يعينوهما على ردهم معهما وإسلامهم لقومهما ثم دفعا للنجاشي هديته وقالا له أيها الملك قد ضوا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه لانعرفه نحن ولا أنت وقد بعث 4 نا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعل بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم فغضب النجاشي ثم قال لا والله لا أسلمهم إليهما أبدا ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي لا أسلمهم حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم

ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فجاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل كافة

فكلمه جعفر بن أبي طالب فقال أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي الضعيف فكنا على هذا حتى بعث الله إلينا رسولا نعرفه ونعرف نسبه وأمانته وصدقه وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

وعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به وإتبعناه على ما جاء به عن الله فعدى علينا قومنا وعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك وإخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك

فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء فقال له جعفر نعم فقال اقرأه

فقرأ عليه جعفر صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضوا لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة

انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد

فلما خرجا من عنده وقد يئسا من مرادهما قال أحدهما وهو عمرو بن العاص لآتينه عنهم غدا بما يهلكهم لأجله ثم غدا عليه من الغد فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم ليسألهم قالوا ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم قالوا نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما كان

فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم فقال له جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول

قال فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم ثم ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود

فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم ترجتمه آمنون

فهذا قول أهل العلم من قبلكم العارفين بشريعتكم وما عدا ذلك فشجرته عثاء وأوضار اجتثت من قول الأرض ما لها من قرار

وسيأتي إن شاء الله تعالى قول هرقل إثر هذا الباب إن شاء الله تعالى

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد ﷺ | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله ﷺ | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام