الرئيسيةبحث

الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/الفصل الرابع

فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل

فأول دليل:

أنها لم تترك على ما كانت في الألواح التي كتبها الله تعالى لموسى ولا على ما انتسخها لهم موسى بل زيد فيها ولا بد ما ليس منها ولا كان في الألواح التي كتبها الله لموسى ويدل على ذلك أن في آخر السفر الخامس أن موسى توفي في أرض موآب بإزاء بيت فغور ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم وكان قد أتى على موسى إذ توفى مائة وعشرون سنة ولم يضعف بصره ولم يتشيخ وجهه وبكى بنو إسرائيل على موسى ثلاثون يوما في عريب موآب فلما تمت أيام حزنهم على موسى امتلأ يشوع بن نون من روح الحكمة لأن موسى كان وضع يده على رأسه في حياته وكان بنو إسرائيل يطيعونه ويعملون كما أمر الرب موسى

ولا يشك الواقف على هذا التاريخ وهذه الوفاة أنها ليست مما أنزل الله على موسى ولا مما كتبها موسى عن نفسه وإنما هي من إثبات من أراد أن يثبتها بعد وفاة موسى بزمان ويدلك على ذلك قوله ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم يريد به اليوم الذي كتب فيه هذا وهذا بين عند المنصف ومع بيانه فليس أحد من اليهود والنصارى فيما أعلم يقول إن التوراة زيد فيها شيء بعد موسى ولا يفرق بين هذا الكلام وغيره بل هي كلها عندهم كلام الله وهذا جهل عظيم وخطب جسيم فهم بين أمرين إما أن يقولوا ان هذا الكلام هو مما كتبه الله لموسى وأخبر به موسى أو يقولوا إنه ليس مما أخبر الله به موسى ولم يخبر به موسى فإن قالوا الأول كذبه مساق الكلام فإن المفهوم منه على القطع أنه كتب بعد وفاة موسى بزمان وإن قالوا بالقول الآخر قيل لهم فلأي شيء خلطتم كلام الله بكلام غيره وأجريتموها في نسق واحد وزدتم على كلام الله ولم تشعروا بذلك بل نسبتم كل ذلك إلى أن الله أنزله

وإذا جاز زيادة مثل هذا ولم يتحرز منه جاز أن يكون كل حكاية فيها لا يصح نسبتها إلى الله زائدة ولا سيما الحكايات الركيكة التي تحكى فيها عن الأنبياء التي لا يليق ذكرها بسفلة الناس وغالب الظن ولا يعلم الغيب إلى الله تعالى أن السفر الأول الذي هو سفر البدء والأنساب مما زيد على كلام الله تعالى ولم يشعروا بزيادته

ومما يدل أيضا على هذا المعنى أن كثيرا مما يجيء فيها وكلم الرب موسى وقال له اقبض حساب بني جرشون وكلم الرب موسى وقال له كلم بني إسرائيل ومثل هذا كثير

وهذا يدلك أنه ليس مما قاله الرب جل ذكره لموسى ولا مما قاله موسى لهم أعني لفظ وكلم الرب موسى وقال له وما أشبهه من لفظ الحكايه عنه وانما هو شيء حكى عنه بعد انقراضه وأضيف الى كلام الله ثم لا يعرفون من الحاكي وإذا جاز مثل هذا ولا يشعرون به جاز أن يكون أكثرها مغيرا ومبدلا وليس من كلام الله ولا من كلام موسى ولا يشعرون به ومن وقف عليها متتبعا لهذا المعنى قطع بأنها زيد فيها ما ليس منها

وعند انكشاف الغبار تتبين أفرس تحتك أم حمار، ماء ولا كصدى ومرعى ولا كالسعدان

ولقد حفظ الله القرآن العظيم فقال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولذلك كره علماؤنا رضي الله عنهم كتب التفاسير وأسماء السور في المصحف وإن كانت بخط آخر ولون آخر وقد اتفقوا فيما أحسب على أنه لا يجوز كتب فواتح السور يعنى أسماءها بخط المصحف وبلون مداه لئلا يختلط به ما ليس منه فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القويم والمنهج المستقيم

وأما بيان أنها ليست متواترة فهو أن اليهود على بكرة أبيهم يعرفون ولا ينكرون أن التوراة إنما كانت طور مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهان الأكبر الهاروني وحده وعنه تلقيت ولا ينكر ذلك منهم ولا منكم إلا مجاهر بالباطل

وكذلك ما يحكى من قتل بخت نصر جميع بني إسرائيل وإحراقه كتب التوراة حيث وجدت وإتلاف ما كان بأيديهم حتى لم يترك منهم إلا عددا يسيرا لا يحصل بخبرهم العلم وكان قد أجلاهم إلى بابل وهدم البيت أو لعله كان الباقي منهم عددا كثيرا إلا أنهم لم يكونوا كلهم يحفظونها بل كانوا عددا يسيرا لا يحصل العلم بقولهم وكان هذا كله قبل المسيح بخمس مائة سنة تقريبا

وكذلك واقعة طيطش بن شبشان التي كانت بعد المسيح إلى أربعين سنة إذ فرقوا التفرقة التي هي اليوم عليها وهذا أيضا من المعروف عند الجميع بحيث لا ينكره إلا مكابر مجاهر وهذه الأمور كلها مما تقدح في النقل الذي يدعونه متواترا

ثم نقول هذه الأمور المذكورة إن وافقوا على وقوعها فقد اعترفوا بعدم التواتر فإن من شرط خبر التواتر أن ينقله العدد الكثير الذي تحيل العادة عليهم التواطؤ على الكذب والغلط عن عدد مثله هكذا ولا ينقطع

فإن رجع الخبر إلى عدد لا تحيل العادة عليهم الكذب لم يحصل بذلك الخبر العلم إذ لا يكون متواترا وإن لم يوافقوا على وقوع هذه الوقائع هكذا لم يقدروا على جحد أصلها وإذا اعترفوا بأصلها لم يقدروا أن ينكروا إمكان وقوع ما يعترفون بأصله وتجويز وقوع ذلك كتحقيق وقوع ذلك في عدم حصول العلم بالخبر الذي يدعون أنه متواتر

وأما بيان التحريف فيها فهو أن اليهود تعترف بأن السبعين كوهانا اجتمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة وذلك قبل المسيح في زمان القياصرة ومن إجترأ على تبديل حرف من كتاب الله وتحريفه فلا يوثق بالذي في يده مما يدعى أنه كتاب الله لعدم الثقة به ولقلة مبالاته بالدين

وأيضا فلعله قد حرفه كله أو أكثره

وكذلك يقرون ولا ينكرون أن طائفة منهم يقال لهم السامرية حرفوا التوراة تحريفا بينا كثيرا والسامرية يدعون عليهم مثل ذلك التحريف

وكذلك النصارى أيضا يدعون على اليهود أنهم حرفوا في التوراة التاريخ ويزعمون أنهم نقصوا من تاريخ آدم ﷺ ألف سنة ونحو المائتين

وهذه احتمالات توجب على العاقل التوقف فلا يدعي حصول العلم بنقل التوراة مع انقداح هذه الممكنات إلا مجاهر متعسف

فإن قيل كيف يصح أن يقال هذا وقد كان الأنبياء بعد موسى عليه السلام يحكمون بالتوراة ويرجعون إليها واحدا بعد واحد إلى زمن يحيى وعيسى، ثم بعد ذلك تناقلها النصارى كما تناقلها اليهود خلفا عن سلف إلى اليوم وإن جاز تطرق التحريف إلى ما هذا سبيله فيلزم عليه أن يحكم الأنبياء بالباطل

ويلزم عليه أيضا أن يقروا على الباطل غيرهم وهذا كله باطل على الأنبياء ويلزم عليه أيضا أن لا يحصل العلم بخبر متواتر ولا يوثق بكتاب يدعى أنه جاء عن نبي

فنقول وبالله التوفيق:

إنا لم نعين لوقوع التحريف فيها زمانا ولا عينا من حرف منها شيئا ولا من ألحق بها شيئا فيحتمل أن يقع التحريف فيها قبلهم أو بعدهم وإنما أبدينا تلك الاحتمالات ليعلم أن الذي في نفوسكم من الثقة بها إنما هو اعتقاد جزم وليس بعلم

ومما يدل على قبول تلك الاحتمالات وأنها قادحة في دعوى العلم بسلامتها أنها لم تقر على ما تلقيت من موسى بل زيد فيها مالم يتلق عن موسى مثل الذي حكيناه من ذكر وفاته وحزن بني إسرائيل وحكاية قول كلم الله موسى وهذا يعلم منه على القطع أن الله لم يقله لموسى ولا موسى قاله عن نفسه يعلم ذلك من وقف عليه وتتبعه بضرورة مساق الكلام ولا بد

فالذي زاد ذلك لعله الذي وقع الخلل من جهته

وأما ما ذكرتم من حكم الأنبياء بها فليس فيه حجة لإمكان أن تنازعوا في قولكم كانوا يحكمون بها بل لعلهم كانوا يحكمون بما كان الله يعلمهم بما يوافق شريعة موسى ولا يخالفها

ولو سلمنا أنهم كانوا يحكمون بها فنقول كل شيء حكم به الأنبياء من التوراة فليس بمحرف وأما ما لم يحكموا به منها فلعله الذي حرف مثل الأخبار التي حكيناها ونحكيها إن شاء الله تعالى

فإن قيل فيلزم منه أن يقر الأنبياء على الخطأ ويتحدثوا بالكذب فإنهم كانوا يتحدثون بها قلنا ليس بكاذب من حكى شيئا يعتقد صحته لا يتعلق به حكم الله تعالى وإن كان ذلك الخبر في نفسه مخالفا لما في الوجود فإنه إنما يحكى عن اعتقاده وهو حق وإنما الكاذب الذي يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من العلم بذلك وهو حد الكذب عندنا وحقيقته

وهذا إنما يجوز في حكاية الأخبار التي لا يتعلق بها حكم وأما ما تعلق به حكم منها فلا يجوز ذلك إذ الأنبياء معصومون فيما يبلغونه من الأحكام عن الله تعالى وإنما قلنا هذا حذرا من أن ننسب إلى الله تعالى ما لا يليق بجلاله أن ينزله في كتابه ولا أن يناجي به صفوة أحبابه من الفواحش والفجور التي حكوها في التوراة وادعوا أنه فيها مسطور مع أنه ليس في ذكرها فائدة بل هي بكل ضلالة عائدة

وكذلك تنزه موسى والأنبياء بعده صلوات الله عليهم عن ذلك الكلام الغث الركيك الذي لو حكى مثله عن بعض السفلة لأنف منه واستحى منه ولما كان ينبغي لعاقل أن يلتفت ويصغى إليه ولكان يجب عليه أن يعرض عنه وينكره إذا سمعه هذا إذا كان محكيا عن السفلة فكيف إذا حكاه الله عن نفسه أو عن خيرته من خلقه الذين برأهم الله عن الكبائر والنقائص التي تناقض نبوتهم فهم أكرم الخلق عليه وأحظاهم لديه

وأيضا فإن الله تعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والغيبة والبهتان والإحن ثم يتعامل بها مع أكرم الخلق عليه في نفوسهم وذراريهم وبناتهم وينسبها إليهم ويشيعها أبد الآبدين عليهم

هذا مما لا يليق بجلال الله تعالى والقائل بوقوع هذا مستهزئ مفتر على الله

وسننقل عن بعض ما حكوا في التوراة من هذه القبائح إثر هذا إن شاء الله تعالى

ثم نقول لو سلمنا أنها لم تحرف في زمان الأنبياء لأمكن أن نقول فلعله حرف بعدهم وذلك بعد وقعة طيطش حيث أفناهم والذين تنصروا منهم عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم

وإن قلنا إنهم كانوا عددا كثيرا فلم يكن كل واحد منهم ممن يحفظها ولا يضبطها

ثم نقول للنصارى إن أنكرتم أن يكون شيء من التوراة حرف فلأي شيء تقولون إن اليهود حرفوا في التوراة في نسب آدم ونقصوا منه وإذا جاز ذلك في نسب آدم جاز في غيره وهذا بين وأما قولهم يلزم أن لا نقبل خبر متواتر ولا يوثق بكتاب نبي فلا يلزم شيء من ذلك فإن الخبر إذا تطرقت إليه أمثال تلك الاحتمالات فلا يوثق بنقله ولا يعول عليه لا مكان تلك الآفات

أو لعل أشرافكم تتخلب نحو كتابنا فيقولون فكتابكم لا يلتفت إليه ولا يعول عليه فنقول هيهات إنما قلنا كل كتاب تطرق إليه شيء من تلك الاحتمالات وكتابنا منزه عن أمثال تلك الآفات فإن الله تعالى تولى حفظه وأجزل من كل صيانة حظه فصانه بنظمه الذي لا يقدر الجن والإنس على آية منه فلا يختلط به كلام متكلم ولا يقبل وهم متوهم إذ ليس من جنس كلام البشر وهو معدود الآي والسور ثم صانه بأن يسره للحفظ والاستظهار فيستوي في نقله الكبار والصغار لا يختص بحفظه أحد والوالد إذ نقص منه حرفا واحدا أو غير حركة منه رده وأصلحها عليه الولد

ومع هذا فحروفه وكلماته وآياته وسوره في الدواوين معددة وأشكال كتبه حروفه فيها مقيدة ومع هذا فنقل الأمم التي لا تحصى عن الامم التي لا تحصى حتى يصل ذلك إلى النبي ﷺ المصطفى مع قرب العهد والتشمير في صيانته والجد وإستعمال القانون النحوي وتثقيف اللسان العربي فيهما كمل الله له الصون وحصل له بهما على فهمه أكبر العون فلله الحمد على ما أولى والشكر له على نعمه التي لا تحصى فأين اللؤلؤ من الخزف والياقوت من الصدف

وبعد هذا فالآن حان أن نذكر بعض ما وقع في التوراة مما تطرق إليها التهم

ومن ذلك ما ذكروه فيها في المصحف الأول منها

ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقتها جدا

وهذا في حق الله تعالى محال إذ الندم إنما يلحق من لا يعلم مصير المندوم عليه ومآله واعتقاد هذا في حق الله كفر إذ ينبئ عن أن الله تعالى جاهل وأنه متغير تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولفظ الندم هنا نص لا يقبل التأويل فهو كذب وباطل قطعا

ومن ذلك ما ظهر في الوجود خلافه وذلك أنهم حكوا فيها أن بني إسرائيل يسكنون تلك الأرض إلى الإنقراض ثم لم يلبثوا أن رأيناهم أخرجوا منها رأي العين

فقد ظهر أن ذلك باطل وكذب

ومن ذلك أيضا أنه حكى فيها أن الله تعالى كالإنسان شخص ذو جوارح وهذا على الله بالضرورة محال ولا للتأويل في هذا اللفظ مجال ثم أنى هذا من قوله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

ومن ذلك أيضا أن الله تعالى حين أمر بني إسرائيل إلى التوجه إلى الشام وعدهم أن يتوجه معهم وأمره أن يعملوا قبة على صفة كذا ينزل فيها في سيره معهم

ثم إن موسى قال له يارب إن هذه الأمة القاسية رقابها لا تمضي إليك إلى الشام حتى تمضي معها كما وعدتها فقال الله نعم اعملوا لي القبة فعلم موسى القبة وسماها قبة العهد ونزل الله من عرشه وسار معهم في داخل القبة ينزل بنزولهم ويرحل برحيلهم هذا نص التوراة

ومما يذكرونه من بقية هذا وليس في التوراة أنهم حين جمعوا المال لعمل هذه القبة أجروا الإتفاق على يد موسى عليه السلام فلما كمل عملها ادعوا عليه أنه قد نقصهم من المال ألف رطل وسبع مائة رطل وخمسة وسبعون رطلا وقالوا لموسى تهكما به أين نقص هذا المال وإنما جرى الإتفاق على يديك فسمعوا صوتا من السماء يقول لهم إن هذا العدد دخل في رؤوس الأعمدة وفي التغشية فحينئذ كفوا عنه فهؤلاء لم يعرفوا الله حق معرفته ولا قدروه حق قدره فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون

ومن ذلك أيضا أنهم ذكروا فيها أن الله قال لهم أن يضربوا القرن في عسكرهم قليلا قليلا حتى يلقوا عدوهم فحينئذ يضربونه بأشد ما يقدرون عليه ليسمعهم الله فيؤيدهم على عدوهم فكأنه سبحانه وتعالى لا يسمع إلا الأصوات العالية فأين هذا من وصف الله تعالى نفسه في كتابه على لسان نبيه ورسوله حيث قال وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى

وفيها من هذا النوع كثير لو ذهبت أنقله لطال الكتاب ولخرجنا من مقصود الباب

وينبغي أن نذكر الآن ما جاء فيها مما ينزه عنه الأنبياء عليهم السلام

من ذلك ما حكوا في السفر الأول عن لوط أنه طلع من صاغار فسكن الجبل هو وابنتاه معه فجلس في مغار هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى قد شاخ أبونا وليس على الأرض رجل يدخل علينا نسقى أبانا الخمر ونضطجع معه في مضطجعه ففعلنا وحملتا منه بولدين موآب وعمون

هذا لوط من رسل الله الأكرمين أوقعه الله في فاحشة كما يوقع الأرذلين ثم خلد ذكرها في الآخرين وهل هذا إلا عين الإهانة وأي نسبة بين هذا وبين النبوة والكرامة؟

وكذلك أيضا حكوا فيها أن اسحق لما شاخ وعمى بصره دعا بعيسو ابنه الأكبر ليبارك عليه وليدعو له بالنبوة فتحيل يعقوب عليه فقال له إسحق أبوه من أنت فقال له بكرك عيسو فقال له إدن مني حتى أجسك فدنا منه وقد كان وضع على رأسه شعرا بمكيدة أمه فقال له الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فبارك عليه ودعا له بالنبوة وبشره بها وهو على غلط فيه ثم بعد ذلك جاء عيسو وقال له باركني أيضا يا أبي فقال له دخل أخوك بمكر فقبل بركاتك فقال عيسو بعد بكاء وحزن أما تركت من البركات شيئا أبركة واحدة لك يا أبتي

فما أعظم هذه الآية التي تشبه حديث خرافة

ومن ذلك ما ذكروه فيها أيضا أن يعقوب بينما هو يصلح خيمته ويبسطها مشى ابنه رأوبين وهو أكبر أولاده فضاجع سرية أبيه بلهة ولما علم بذلك يعقوب قال لابنه رأوبين فضل العز فائرا كالماء فلذلك لم أفضلك بالسهم الزائد حيث أمتهنت فراشي

وتفسير هذا أن سنة الميراث كانت عندهم أن يرث الولد الأكبر سهمين وسائر الولد سهما واحدا فعاتب يعقوب ابنه رأوبين على فعله بسريته بأن لم يفضله بالميراث على أنه كان أكبر ولده

وفي بعض التراجم أن يعقوب قال يا رأوبين أنت بكري وقوتي ورأس حراتي وعوني طائقة الحمولة وطائقة العز والمنعة عديت مثل الماء فلا تمكث إذ صعدت إلى مضطجع أبيك حقا لقد نجست مضطجعي وتناولته

ومن ذلك ما ذكروه فيها أيضا أن يهوذا بن يعقوب زنى بكنته ثامار إمرأة ولديه ولقد كانا هلكا عنها واحدا بعد واحد فردها يهوذا إلى بيت أبيها ووعدها بتزويج ولده الثالث المسمى بشيلا إذا كبر ثم أنها قعدت ليهوذا في طريق غمنه وتسترت جهدها فظنها بغيا فعدل إليها ودعاها إلى نفسه فسألته أجرا فوعدها بجدى من غنمه فطلبت منه رهنا فأعطاها خاتمه ومنديله وعصاه وواقعها بزعمهم فحملت منه ثم إن يهوذا أرسل بالجدي ليطلب رهنه فلم توجد المرأة فجاء بنفسه إلى أهل القرية وقال لهم أين قحباكم المتبلطة على الطريق فقالوا ما كان منا على الطريق قحبا ثم قيل له بعد حين إن كنتك ثامار حبلى فقال تحرق بالنار فأخرجت لتحرق بالنار فقالت إنما أنا حامل منه وهذه رهنه بيدي حين زنى بي ليفكها بجدي من غنمه فعرف ذلك يهوذا وقال هي أصدق مني

وفي بقية هذا الخبر خرافة وذلك أن ثامار لما جاءها المخاض كان في بطنها توأمان فتناولت القابلة خيط عهن فربطته على يده وقالت هذا يخرج بديا فلما مد يده خرج أخوه فقال لقد انحزمت فيك ثلمة عظيمة

وحكى فيها أيضا أن دينة بنت يعقوب خرجت لبعض شأنها فنظر إليها شخيم بن حمورا الزناتي فعشقها واحتملها فواقعها وافتضها ثم أن شخيم قال لأبيه حمورا اخطب لي هذه الجارية لتكون لي إمرأة فبلغ ذلك يعقوب وأنهم قد نجسوا دينة ابنته فصمت يعقوب وأطرق حتى أتاه بنوه فلما بلغهم ذلك اغتموا وساءهم ذلك واشتد عليهم ذلك جدا لأنهم ارتكبوا النجاسة في إسرائيل ثم إن بني يعقوب عاقدوا شخيم وحمور أباه وقومه أنهم إذا اختتنوا أنكحوه أختهم دينة فإنهم قالوا لشخيم لا نقدر أن نزوج أختنا من رجل له غرلة ولكن إذا اختتنتم زوجناكم أختنا وبناتنا ونتزوج بناتكم، ففعل القوم ذلك فلما اشتدت بهم أوجاعهم تناول شمعون ولاوى كل واحد منهما حربة ودخلا على القرية بغتة فقتلا كل ذكر فيها

ومثل هذا كثير مما يخرج استقصاؤه إلى التطويل

وكذلك حكوا فيها أيضا من وعيد الله لبني إسرائيل بالفاحشة والقبيح مالا يقبله ذو عقل صحيح

مثل ما حكوا أن موسى قال لبني إسرائيل في الوصية التي وصاهم بها حيث قال لهم إن كفرت بربك وحدت عن سبيله وعبدت الآلهة الأجنبية يضربك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حتى لا تستطيع الشفاء تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها

وهذا الكلام تضمن أن الله تعالى توعد بني إسرائيل من عبد غير الله منهم بثلاثة أنواع من الفواحش لا ينبغي لذوى المروءات أن يتلفظوا بها ولو أسقطوا مروءتهم فتلفظوا بها لما كان ينبغي لهم أن يتوعدوا بها ولا أن ينفذوا ذلك الوعيد لفحشه ثم إنهم يلزمهم على هذا أحد ثلاث أمور أحدها أن يكون هذا الكلام باطلا أو كذبا على الله تعالى عن ذلك أو يكون بني إسرائيل كل من أشرك منهم وعبد غير الله أن يبتلى بهذه الأدواء الثلاثة وأن يكونوا بني زنى ولا يقدرون على أن ينكروا أنهم قد أشركوا بالله وأنهم عبدوا الأوثان بعد موسى فيلزم من ذلك إن لم يكن ذلك الكلام محرفا أن يكونوا كلهم بني زنى وقرحانين وموصوفين بالفاحشة الكبرى

وحكوا في سفر صموئيل الثاني أن داوود عليه السلام اطلع من قصره فرأى إمرأة من نساء المؤمنين تغتسل في دارها فعشقها وبعث فيها فحبسها أياما حتى حبلت تعالى الله أن يجرى ذلك على رسله ثم ردها وكان زوجها يسمى أوريا غائبا في العسكر ولما علمت المرأة بالحمل أرسلت به إلى داوود فبعث داوود إلى يوآب بن صوريا قائده على العسكر يأمره أن يبعث إليه بأوريا زوج المرأة فجاء فصنع له طعاما وخمرا حتى سكر وأمره بالإنصراف إلى أهله ليوقعها فينسب الحمل إليه ففهم الأمر أوريا وتخابث فلم يمش إلى أهله وقال حاشى لله أن يكون الملك هنا دون أهله وأمشى أنا إلى أهلي فلما يئس داوود منه رده إلى العسكر وكتب إلى القائد أن يصدر به في القتال مستقتلا له فقفل أوريا وقتل معه من المؤمنين سبعة آلاف وفزع القائد من داوود لقتل العدد العظيم من المؤمنين وقال للرسول إذا أنت أخبرت الملك داوود بقتل الناس ورأيته قد غضب قل له سريعا إن أوريا قتل فيهم ففعل الرسول وسكن داوود من بعد الغضب وسر بموت أوريا وهانت عليه من أجل موته دماء المؤمنين

فاعتبر هذه الفواحش المنكرة وهذه الصفات المذمومة المستقذرة هل تليق بأولي الديانات فكيف بمعدن النبوات وهل يحمد ذكرها عند ذوي المروءات فكيف عند الحي الكريم إله المخلوقات تبا لهم ولمصدقهم وخسرا براحنة وجذعا وعقرا فوالله لقد افتروا على رسل الله وكذبوا على كتب الله إفتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

وكتبوا في هذا المصحف أن أمنون بن داوود عشق أخته تامار بنت داوود وتمارض فعاده أبوه فتمنى عليه طعاما تطعمه تامار أخته فبعث بها داوود إليه فلما قربت إليه الطعام وضع يده فيها وافتضها فخرجت باكية فلقيها أخوها الآخر سقيقها أبشالوم فأخبرته فهون عليها ثم بعد أيام وثب على أمنون فقتله من أجل ذلك

وكتبوا في هذا المصحف أن أبشالوم بن داوود نافق على أبيه وأخرجه عن قصره ودخل على نسائه فوطئهن كلهن على أعين بني إسرائيل استبلاغا في الإنتقام من أبيه

ومن أفضح ما كتبوا في هذا المصحف عن سليمان بن داوود أنه ختم عمره بعبادة الأصنام والسحر وسيبت نساؤه دينه كذبوا قاتلهم الله أنى يؤفكون إذ بالأباطل والفواحش يتقولون ويتخرصون فلقد صدق الله العظيم ورسوله الكريم حيث قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الحكيم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فغضب الله عليهم وعلى من يصدقهم إلى يوم الدين ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين

فهذه الحكايات الوخيمة والأقوال غير المستقيمة تضمنت الأخبار عن لوط بأنه زنى بإبنتيه وأنهما حملتا منه من الزنى وأن نبوة يعقوب إنما حصلت له بأن خدع إسحق ومكر به وإنما كانت لعيسو وأن داوود زنى بإمرأة مؤمنة زوجة مؤمن وأن داوود تحيل على زوجها حتى قتل وقتل لقتله جماعة من المؤمنين فسر بذلك وأن رأوبين زنى بسرية أبيه يعقوب وكذلك يهوذا زمى بكنته ثامار وولدت له من الزنى توأمين وأن ابنة يعقوب زنى بها شخيم بن حمورا وأن أولاد يعقوب بعد أن أمنوه وعقدوا معه غدروا به وقتلوه وأباه وأهل القرية وأن أمنون بن داوود زنى بأخته تامار بنت داوود وأن أخاها أبشالوم قتله غيلة وغدرا وأن أبشالوم زنى بنساء داوود أبيه وأن سليمان ارتد عن نبوته وعبد الأصنام

فإن ثبت هذا الذي ذكروه في كتبهم تعالى الله والأنبياء عن قولهم فهذا الشعب الذي ذكروه فيه هذه الفواحش ليس هو شعب النبي إسحق بل هو شعب غدر ونفاق وزنى وكفر وكيف يصح أن تكون هذه الأفعال القبيحة أفعال أهل نبوة صحيحة بل كل ذلك ناقض للنبوات لا سيما مع دعاء إبراهيم وإسحق لذريتهما بالبر والبركات فإن كان هذا شعبهما الذي دعوا له بالبر والبركة فدعاؤهما غير مسموع وقولهما مردود مدفوع

ثم هذه الحكايات الوخيمة الفاحشة غير المستقيمة في التوراة لها أمور أخر تعارضها بل وأدلة العقل تناقضها

من ذلك ما حكى فيها من مدح لوط على لسان إبراهيم وشهادته له بالبر وذلك أن الله تعالى لما أعلم إبراهيم بأنه يريد أن يهلك سدوم وعمورا وهما مسكن قوم لوط قال يا رب أتهلك الأبرار مع الفجار يعنى بالأبرار لوطا وبنتيه فسماهم أبرارا وشهد له بذلك بين يدي الله تعالى وكيف يصح أن يكون ابنتا لوط من الأبرار ويوقعان أنفسهما في أن يزنى بها أبوهما نبي الله ثم لم يعصمه الله تعالى من مثل هذه الرذيلة ثم إن الله شهد عنه هذه الفضيحة التي يتحدث بها على مد الدهر مع أنه لم يسمع قط من المتشرعين من أجاز نكاح البنات وهل هذا من ناقله وناسبه إلى الله إلا جرأة وتواقح على الله

وكذلك ما كتبوه فيها من الحكايات التي ذكرناها في ذرية إسحق يعارضه ما حكوا فيها عن الله أنه قال لإبراهيم في غير موضع ما منها لأباركك بركة تامة ولأكثر نسلك ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني

وكذلك قال الله لاسحق بعد موت إبراهيم أنا معك أكون وأباركك لأني أعطيك ونسلك جميع هذه المتملكات ويتبارك بنسلك جميع الشعوب

وكذلك قال إسحق ليعقوب حيث مكر به يعقوب بزعمهم قاتلهم الله قال به يؤتيك الله من ظل السماء وخصب الأرض تعبدك الأمم وتسجد لك الشعوب كن رئيسا لاخوتك تسجد لك بنو أمك مباركوك مباركوك ولا عنوك ملعونون

تأمل بعقلك هذه المخازي البادية وما نسبوا في كتبهم إلى أكرم الخلق من المناكر الفاشية

فإذا أنت أمعنت النظر وأشتدت منك العبر علمت أن هذه الحكايات بواطل وأن ملحقها في التوراة وناسبها إلى الله متزندق جاهل وإنما ألحقها عدو للأديان أراد أن يقول في صفوة الله البهتان فحصل له مراده حيث أفسد على المتشرعين الإيمان

ثم نقول للنصارى بعد ذلك العجب منكم ومن جهلكم حيث صدقتم بوقوع هذه الفواحش من الأنبياء واعترفتم مع ذلك بنبوتهم ثم لم تجوزوا على الحواريين وقوع الغلط منهم فيما حكوا لكم إن صحت الحكايات عنهم من اتحاد العلم باللحمة فإن العقل يدل بضرورته على أن ظاهر ذلك فاسد محال فهلا عليكم تأولتم ذلك أو قلتم أنه يجوز عليهم الغلط ولا يدل ذلك على نقضهم كما قلتم في الأنبياء الذين حكيت عنهم تلك الفواحش ولو فعلتم ذلك لكان الأولى عند العقلاء

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد ﷺ | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله ﷺ | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام