→ الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد ﷺ الفصل الرابع: تجسد الواسطة القرطبي |
الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين ← |
الفصل الرابع: تجسد الواسطة
من حكاية كلامه
قال: فإذا لم يكن بد من الصدى فقد قال أنا الله فأسألك إن كنت تصدق الصدى أم تكذب فإذا لم يكن بد من تصديقه في قول الربوبية إذ قال أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني قلنا لكم وكذلك صدق المسيح في قوله أنا الله وانا لنرى كذا صدق الحواريون ومن اتبعه من غيرهم في قوله في الربوبية كتصديق موسى للكلام وألا يتمارى له برسالته إلى أهل مصر وقد أوجبتم أن جسم المسيح وكلامه لما خطب بالربوبية مثل جسم النار والكلام إذا خاطب موسى بالربوبية
فإن قلت إن موسى لم يعبد النار كما تعبد النصارى المسيح
قيل لك إن الكلام قال له اعبدني وسجد له موسى وقال تبت إليك وأنا أول المؤمنين فإن قال المسلم عند الإضطرار إن النار والصدى واسطة ولكنها خلاف المسيح وكلامه لأن النار ليس من طبعها الكلام وأما المسيح فإنه كان إنسانا معروفا بالكلام فلا آية فيه قلنا لك إذ قد أوجبتم أن الخليقة لا تدرك الخالق إلا بجسم مخلوق تتخذه وتجعله واسطة بينه وبين من خاطب من الأنبياء ويصير الواسطة لهم إلها فقد جامعتموه على الإقرار بواسطة مخلوق بالربوبية للمسيح ووقعتم فيما أنكرتم وليس ينفعكم ملجؤكم إلى القول بأن النار والمسيح ليس آية
وإنما أوجبتم علينا الشرك في قولنا بواسطة فإذن العقل والحق لا يعيب الواسط فكلا الواسطين بين الله والخلق
وإذا ذهبتم إلى أن النار صادقة لا يتخوف عليها الكذب وأن المسيح يتخوف عليه الكذب فإن موسى قد أوجز في النار والكلام وإنما قطع الشك باليقين بآية العصا واليد الذي أدخلها في جيبه وكذلك قطع المؤمنون بربوبية المسيح شكهم بإقرار الموتى عند إحيائه لهم بربوبيته وإن ذهبتم إلى أن خلق النار في ذاتها أشرف فإن كل مخلوق في الدنيا هو منافع لولد آدم مسخرة لهم وكفى بقولكم في قرآنكم إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وأن ابليس مسخوط عليه في الأبد لابائه السجود له وقوله أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
فإن قلتم كذبتم على المسيح لأنه لم يدع مما قلتم شيئا قلنا إنما أنكرتم علينا القول بما وجدنا في كتابنا نحن لا نستدل بمثل هذا في الأبد فاضررناكم من كتابكم إلى القول بمثله فلما أبينا قلتم كذبتم على المسيح فلم تكذبونا وكتابنا على القول بمثل قولكم في واسطة موسى وعبادته لها وأنتم لما أوجبتم أن الأمة تحاسب بعملها يوم القيامة أن محاسبها يخاطبها يوم القيامة ويكافئها بأعمالها ثم يقول قرآنكم وجاء ربك والملك صفا صفا
فما تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطة للوعظ أن يكون هذا المقبل مع الملائكة كما قدمه في الإنجيل حيث قال يقعد ابن الإنسان يعني الحجاب المتخذ من نسل آدم في مجلس عظمته وتقدم جميع الأمم بين يديه ويميزهم كما يميز الراعي الغنم من المعز فيحمل المؤمنين عن يمينه والمجرمين عن شماله ثم يعاتبهم ويأمن كل طائفة بمثل ما قدموا في دنياهم
وإذا أوجبتم أن الله لا مفطور ولا مدرك بحاسة فقد وجب أن المحاسب المسموع مدرك بالحواس مع إقراركم أن ربكم قال ترون ربكم ولا تضامون في رؤية القمر ليلة البدر أو لم تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطا للوعظ أن يكون هو المقبل مع الملائكة كما قال عنه قرآنكم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور
الجواب عما ذكره
اعلم يا هذا المتكلف في بغيته المتعسف في تأويل دينه أنك قلت في هذا الفصل من الباطل والكفر مالا حجة له ولا أصل خالفت فيه دين النصارى المتقدمين ولم تعرج على مذاهب القسيسين بل رغبت عن ملة أئمتك لل مطارين فوجب على أهل ملتك أن يعدوك في الخارجين ومن الجهال المبتدعين
وذلك أنك زعمت أن الذي قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إنما كان الصدى ولم يكن الله تعالى وزعمت أن موسى اعترف للصدى بالربوبية وأنه هو الذي كلم موسى وإياه حارب وعنه تحمل الرسالة حتى اتى فرعون وأن ذلك الصدى قام عند موسى مقام خالقه فسماه إلها وزعمت أن موسى سجد لذلك الصدى وأنه هو الذىسأل موسى رؤيته ولذلك زعمت أن موسى قال للصدى تبت إليك وأنا أول للمؤمنين فإذا كان للصدى فلا حاجة لموسى ولا لأحد إلى الله تعالى فإنه لم يقل لا إله إلا أنا وإنما قالها الصدى والصدى صادق بزعمك فقد بطلت إلهية الله تعالى وثبتت الهية الصدى
وإذا كان كذلك فلم لا تعبدون هذا الصدى الذي عبده موسى وسجد له وتاب له بعد أن اعترف بربوبيته وما بال حبقوق النبي لم يعبد هذا الصدى كما عبده موسى ولم يذكره ولم يعترف بربوبيته وكذلك ما بال حزقيال لم يعبد هذا الصدى كما عبده موسى ولم يذكره ولم يعترف بربوبيته
وكذلك أشعياء ويحيى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والحواريون ما بالهم لم يعبدوا ما عبد موسى وسجد له واعترف بربوبيته وأنه لا رب سواه فهؤلاء الأنبياء والأولياء أما أن يكونوا علموا أنه إله إلا الصدى كما قال الصدى بزعمك أو جهلوا ذلك فإن كانوا علموا فلأي شيء لم يعترفوا بذلك وسكتوا عنه إذ لم يصح قط عن واحد منهم أنه قال لا إله لكم إلا الصدى فليزمكم أن يكون سكوتهم عن ذلك أما عن جحد أو تلبيس فإن كانوا علموا الحق فجحدوه فذلك كفر منهم وهم صلى الله عليهم أجمعين مبرأون عن ذلك منزهون ولو كان ذلك لاستحال أن يظهر عليهم من الآيات شيء مما ظهر وإن كان سكوتهم عن تلبيس فإن جاز عليهم التلبيس في مثل هذا جاز عليهم التلبيس في كل ما أخبروا به من الشرائع إذ كل الشرائع والأحكام تحتقره بالإضافة إلى معرفة الربوبية وإن كانوا جهلوا ذلك فكيف علمت أنت يا أحمق ما جهله الأنبياء والأولياء
فإن كانوا تكلموا بذلك وقالوا به ففي أي سفر من أسفار التوراة هو أن موسى أخبر أن الله لا إله له ولا لكم إلا الصدى وأن الصدى أرسله إلى فرعون وأنه إله فإن كان ما تدعيه حقا فائت بالتوراة فاتلها إن كنت من الصادقين وفي أي كتاب من كتب الأنبياء جاء مثل ذلك أفي كتاب حبقوق أو في كتاب حزقيال أو في كتاب أشعياء أو في كتاب دانيال أو في إنجيل لوقا أو في إنجيل متاؤوش أو في إنجيل ماركش أو في إنجيل يوحنا أو في مصحف الإعلان أو في أي كتاب من رسائل الحواريين وجد مثل ذلك هل وقع شيء منه هنالك وهذه الكتب التي ترجعون إليها وتعولون عليها إذا لم يوجد فيها شيء مما ذكرت علم من حالك أنك على الله ورسله كذبت وافتريت ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين
بل قد تواردت الرسل على الأخبار بالقواطع التي لا تجهل بأن الله إله واحد وأنه ليس له في ألوهيته شبيه ولا مضاد وإذا تبين بهذا أنك كفرت وأن الله ربك سببت وعلى رسله كذبت وأنك من جميع الملل خرجت تعين على اليهود والنصارى أن يشتوروا في أمرك ويأتمروا في حرقك أو نحرك ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق
ثم نقول هذا الصدى الذي وصفت وهو إله عندك كما زعمت أهو الله تعالى رب العالمين وخالق السموات والأرضين أم إله غيره فإن كان هو الله تعالى فلم سميته الصدى ولم جعلته واسطا بين نفسه وبين خلقه وهل هذا إلا محال فإنه لا يتصور في العقل واسط لا بين إثنين ويكون الواسط ثالثا
ثم يلزمك على هذا أن تجعل ذات الباري الرب تعالى صوتا حادثا فإن ذلك الصدى عندكم حادث وهذا كله محال بضرورة العقل وإن قلت أنه غيره فيلزم أن يكون ذلك الصدى هو المتكلم عن نفسه والمخبر بحقيقته فإذا سمعه موسى يقول أنا الله لا إله إلا أنا فأما أن يخبر عن نفسه أو عن رب العالمين فإن أخبر عن نفسه فهو كاذب فإن الرب تعالى يكون إلها آخر وإن أخبر عن الرب فلأي شيء قلت أنه إله وأن موسى اعترف له بالربوبية وسجد له بل الإله الحق رب العالمين والصدى ليس بإله ولا رب
فقولك اعترف موسى بربوبيته وعبده باطل بالضرورة ثم نقول هب أن ذلك الصدى هو المتكلم عن الله وأنه إله فهل يقدر الله تعالى على ان يتكلم ويخبر عن إرادته بغير ذلك الصدى فإن قلتم لا فذلك تعجيز لله تعالى وهو القادر على كل شيء ويلزم عليه أيضا أن يكون محتاجا لذلك الصدى وكل من كان محتاجا فهو ناقص معيب وليس بغنى والله تعالى هو الغنى عن كل الموجودات وليس لشيء من الموجودات عنه غنى وإن كان قادرا على أن يسمع كلامه بغير واسطة فلعل موسى سمعه بغير واسطة وإذا جاز أن تسقط الواسطة أنهدم كل ما رمت بناءه على أنا قد كنا هدمناه أولا في أوحى لحظة بأيسر نفخة وإنما أردنا أن نبين لك ولكل من وقف على كلامك بعض ما يلزمك وأنت لم تشعر بشيء من ذلك ولولا خشية التطويل لأوردت عليك من النقوض واللوازم ما يتعجب منه كل حبر نبيل
ثم نقول هب أنا نسلم جدلا أن الله تعالى تكلم مع موسى بواسطة الصدى فلم قلت أن عيسى مثل الصدى أعنى أنه واسطة كما أن ذلك الصدى واسطة وما الذي دلك على ذلك ولأي شيء سويت بينهما والفرق بينهما ظاهر وذلك أن الصدى الذي زعمت أن موسى سمعه إنما سمعه موسى بعد أن احتجت له بالنار كما زعمت والنار جماد
وإذا قام بالجماد صوت يفهم منه أنا لله لا إله إلا أنا فيمكن أن يعقل هنا غالط مثلك أن المتكلم بذلك الصوت أما غير الجماد لاستحالة الإلهية عن الجماد وأما حيوان ممكن أن يتوهم فيه أنه إله كما توهمتم أنتم في ذلك ولا يصح ذلك في الله لأنه إذا قال لا إله إلا أنا فعن نفسه يخبر وإليه يرجع حكم خبره بخلاف الجماد فكيف قست أحد الواسطين على الآخر وليس في معناه ولو أردنا تطويل الكلام لذكرنا فروقا أخر تمنع مقايسة النار بالبشر
وأما قولك إن عيسى علي السلام قال أنا الله وأن الحواريين صدقوه في ذلك فكذب صراح وافك بواح فإنه لم يرووا عنه عليه السلام في ذلك أقوال بوجه صحيح ولا بنص صريح بل الذي صح منه ونقل بالتواتر عنه أنه كان يقول اعبدوا الله الذي لا إله إلا هو وأناجيلكم تشهد بذلك عليكم
ثم نقول لو ثبت أن عيسى قال ذلك اللفظ بعينه فمن الممكن سوغ حمله على محمل قويم في العقول غير مخالف للمنقول وهو أن عيسى عليه السلام كان محبا لله تعالى مشتهرا في محبته ومن عادة المشغوف بشيء المشتهر به أن يستحضر ذلك الشيء المشتهر فيه في قلب ويجعله نصب عينيه حتى لا يلاحظ شيئا سواه بل ربما ينتهى ذلك به إلى أن يذهل عن نفسه ويغيب عن حسه ففي مثل تلك الحالة يظن المشتهر أن الشيء الذي شغف به هو هو حتى يقول
أنا من أهوى... ومن أهوى أنا
وكذلك قال الآخر
فكل شيء رآه ظنه قدحا... وكل شخص رآه ظنه الساقي
وكذلك عيسى عليه السلام لما انكشف له من سلطان الحقيقة أمر ما غاب عن نفسه وفنى عن حسه لما شاهد من جمال الربوبية والحضرة الإلهية فذهل عن كل ما سوى الله فقال أنا الله وهذه أمور عجيبة وأذواق غريبة لا يدركها إلا من اختاره الله من خلقه واصطفاه بحضرته
فليس بعشك فادرج
وأما قولك لنا قد أوجبتم أن الخليقة لا تدرك الخالق إلا بجسم مخلوق تتخذه وتجعله واسطة بينه وبين من خاطب من الأنبياء فقول باطل علينا فاسد لدينا فأنا قد أحلنا تلك الواسطة فيما تقدم بوجوه متعددة وقد حكمنا بتكفير من أثبت واسطا على نحو ما زعمت ولا أعلم أن أحدا من المسلمين قال شيئا من ذلك بل ولا من أهل الملل غيرك
ثم نقول هذا الواسط الذي زعمت لا يخلو أن يدرك الله تعالى أعنى يعرفه ويسمع كلامه أو لا يدرك فإن قلتم لا يدرك فقد شهدتم على أنفسكم أن الواسط ليس بالله اذ الاله لا بد أن يكون دراكا ويلزمكم على ذلك أن يكون عيسى لا يعرف الله تعالى ولا يسمع كلامه وهو محال
وإن قلتم أنه يدرك الله تعالى فهل يدركه بواسطة أو بغير واسطة فإن أدركه بواسطة أخرى فالكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأولى ويلزم التسلسل وإن أدركه بغير واسطة فيجوز لنا نحن أن ندركه بغير واسطة وفي هذا إبطال ما ذكرت من إثبات الواسطة الذي ذكرت أن المسلم قد اضطر إليه
وأما قولك إنما أوجبتم علينا الشرك في قولنا بواسطة فإذن الحق والعقل لا يعيب الواسط فلنعلم أنا لم نوجب عليك الشرك من حيث الواسط فقط بل من حيث أثبت واسطا إلهيا وذلك أنك زعمت أن الصدى قال لموسى مخبرا عن نفسه أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني واعترف له موسى بالربوبية وتحمل عنه الرسالة وعبده وسجده له فهذا إثبات إله غير الله وكذلك قلتم في المسيح أنه قال أنا الله واعترف الحواريون له بالربوبية فهذان الهان ثم إن الأقانيم ثلاثة آلهة فصارت آلهتكم خمسة فيا ليت شعري هذه الآلهة الخمسة هل اشتركوا في إيجاد الموجودات واختراع الكائنات أو انفرد بها أحدهم فإن كان قد انفرد بها أحدهم فهو الإله الحق الواحد الفرد وإن كانوا قد اشتركوا وتعاونوا على خلق المخلوقات فلا معنى للشرك إلا هذا ويلزم على تقدير إجتماعهم وتوافقهم على الخلق أن يكون كل واحد منهم مضطرا إلى مساعدة الآخر وكل مضطر ناقص والناقص ليس بااله وإن قدرنا اختلافهم في الخلق بحيث يريد أحدهم أن يخلق ويريد الآخر أن لا يخلق فيؤدي ذلك إلى أن لا يخلق أحدهم شيئا فلا يوجد الخلق وقد وجد الخلق فدل ذلك على أن الإله واحد لا شريك له ولا إله غيره
ثم نقول عباد الأصنام والأوثان أشبه حالا منكم لأنهم في عباداتهم إنما كانوا يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى وأنتم إنما تعبدون هذه الآلهه لأنها أرباب من دون الله متقربون منها وهذه جهالات بينة وضلالات ظاهرة عميت عنها بصائركم فأفطرت عليها قلوبكم وأعجب من ذلك لكه قولك العقل والحق لا يعيب الواسط أما من قال هذا فقد خرج عن غريزة العقل وتارة وقع في مفازة الجهل فإن العقل الصريح يشهد بضرورته بإبطال الواسطة وأما الحق فهذه كتب الأنبياء بين أيدينا وأيديكم ففي أي كتاب منها أن الآلهة خمسة أنها تدل كلها على أن الإله واحد ولا ولد له ولا والد وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا وستقدم فتعلم وأنت قد اضطربت في هذا الفصل ولم يثبت لك فيه فرع ولا أصل والكثير مع من لا يعقل عمل من لا يحصل
وأما قولك وأنتم لما أوجبتم أن الأمة تحاسب بعملها يوم القيامة أن محاسبها يخاطبها يوم القيامة ويكافئها بأعمالها فقد كان ينبغي لك ألا تحتج بشيء لم يثبت عندك أصله ولا تصدق بنقله ثم لا حجة لك في شيء مما ذكرته وذلك أن محاسبة الله تعالى للعباد في الدار الآخرة مما يجب الإيمان بها ومما قد تواردت عليه الشرائع أما بالتصريح وإما بالإيماءات والتلويح
وذلك يكون ولابد ولأجل مجازاة العباد بأعمالهم في الدار الآخرة خلق الله الخلق وبسط الرزق وأرسل الرسل وأنزل الكتب أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ومحاسبة الله للخلق تكون على وجوه جائزة في العقل وإرادة في النقل لا تحتاج إلى شيء مما تخيلته منها أن العبد يوقف في موضع الفصل والقضاء فيعطى كتابا أحصيت فيه أعماله ويقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا فإذا وقف عليها علم أن المكتوب فيها هو أعماله فإن كان سعيدا قال هاؤم اقرأوا كتابيه أنى ظننت أنى ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية فعند ذلك يقال لهم كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وإن كان شقيا فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه
عند ذلك يقال للملائكة خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعا سبعون ذراعا فاسلكوه
فهذا وجه من وجوه المحاسبة لا تحتاج معه إلى إثبات واسط ويمكن أن يكون هنالك وجوه ممكنة في المحاسبة ليس هذا موضع ذكرها ولا أنت أهل لفهمها لا تحتاج في شيء منها إلى ما رمت من الواسطة فكأني والله بك إن مت على ما أنت عليه يؤخذ بناصيتك وقدمك وتحيط بك ملائكة ربك ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فتنادي فتقول: يا عيسى يا سيدي يا إلهي يا ولد الله! فيقول لك: كذبت ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ولست باإله ولم أقل لك كذلك ولا أبلغتك ذلك وإنما بلغتك أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له فكيف ترى خجلتك بين يديه وحيرتك إذا طلبت في نفسك جوابا ترده عليه فذلك المقام لا ينفعك فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا ما قدمت يداك من حسن إيمان وصالح عمل وسعادة قضت لك بها سابقة الأزل فإن الملائكة والنبيين لا يشفعون إلا لمن ارتضى رب العالمين
فالله الله انظر في خلاص نفسك لتجتني ثمار غرسك
وأما قولك يقول قرآنكم وجاء ربك والملك صفا صفا
فلست لها فما شأنك وإياها أنت لا تعرف لسان من خوطب بها ولا تعرف مضمونها فكيف يمكنك الاستدلال بها والتطواف حولها وأنت عرى عن الشرط الذي به يعرف معناها ويفهم فحواها وليس مفهومها عند من خوطب بها من العرب الفصحاء البلغاء على شيء مما ذكرت ولا يقرب مما توهمت بل معناها عندهم لا تخالفه العقول ولا يخرج عن أسلوب لسان العرب المنقول وإنما أكره أن أشافهك به لأنك فاقد شرطه فإن كنت ممن ينور الله بصيرته ويحسن سريرته شرعت في أن تتعلم ويجب علينا أن نفهمك حتى إن شاء الله تفهم
وأما قولك في الإنجيل يقعد ابن الإنسان في مجلس عظمته وتقدم جميع الأمم بين يديه ويميزهم كما يميز الراعي الغنم فنقول آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ومع ذلك فنعلم على القطع والثباب أن كل أمة تدعى يوم القيامة بإمامها وتنادي بمعبودها وأنبيائها فيتبع كل من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع كل من كان يعبد الطواغيت الطواغيت
وإذا كان ذلك فلا بد لعيسى أن يجمع له كلا من لزمه اتباع شرعه فحينئذ يميزهم كما يميز الراعي الغنم فمن آمن به وانتبه على النحو الذي رسم له فهو من الفائزين ومن اعتقد فيه أنه إله أو ابن إله فالنار مأواه بعد أن يتبرأ عيسى من دعواه
وأما قولك وإذا أوجبتم أن الله لا مفطور ولا مدرك بحاسة فقد وجب أن المحاسب المسموع مدرك بالحواس فهذا لا يلزم منه شيء مما ذكرت فأنا إذا قلنا أن الله تعالى ليس مدركا بالحواس فإنما نريد به أن الله ليس مدركا بالحواس كما تدرك الأجسام والألوان فيكون محاطا به فيكون ذا حدود وأقطار وذلك محال
وإذا قلنا إن الله تعالى يرى في الدار الآخرة إنما نريد به أن الله تعالى يخلق لنا إدراكا آخر لا تناسب حاله حالة إدراك الأجسام ولا الألوان فإن الإدراكات مختلفة باختلاف متعلقاتها وذلك إدراك خاص له حكم نفسه لم يذق منه ذوقا في هذه الدار فإنه إنما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه يوم القيامة
وإذا أنعم الله تعالى على وليه بذلك الإدراك المعبر عنه بالرؤية خلق له من اللذة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإن أنكرت أن يرى ما ليس بجسم ولا لون فلتنكر أن يعلم موجودا ليس بجسم ولا عرض وإن زعمت أن الرؤية غير جائزة عقلا فقد جهلت موسى حيث سأل الله ما يستحيل عليه فكيف جهل موسى من وصف الله ما علمه جاهل مثلك
وأما استشهادك بحديث نبينا عليه السلام على رؤية ذي الجلال والإكرام فأنت ممنوع منه لاعراضك عنه وهو من عمدنا على إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة لكوننا عالمين بحقه ودليل صدقه
ثم إنك نقلت ذلك الحديث فأجحفت وبالمعنى أخللت وإنما صوابه إنكم ترون ربكم ولا تضاهون في رؤيته إلا كما تضاهون في رؤي القمر ليلة البدر وهذا لا حجة لك فيه فأنا نقول إن الله تعالى هو المرئى لا غيره بالأبصار في الدار الآخرة على ما تقدم وأنتم تقولون إن المرئى الواسطة وهذا الحديث يعرف معانيه أهله وهم الذين يصدقون برسالة من هو قوله فلا تطمع في معرفته فإنك لست أهلا لداريته
وأما قولك لم تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطا للوعظ أن يكون هو المقبل مع الملائكة كما قال عنه قرآنكم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة فكيف لا ننكر ذلك ولم يدل على وقوعه دليل عقل ولا صحيح نقل وليس معنى الإتيان في هذه الآية إلا كالمجيء في الآية المتقدمة وكلاهما ليس المراد به المجيء الذي هو نقل الأقدام بل المجيء والإتيان لهما معان أخر يعرفها العرب المؤمنون
وهذه الآية فيها محذوف تفسره آية أخرى تقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله كما قال تعالى في آية أخرى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك فقد ذكر في هذه الآية ما حذف هنالك وهذا على المعروف في لسان العرب من حذف المضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك الكلام على الآية الأولى وهذا لا خفاء به عند البصير بلسان العرب فإنها تستعمل الحذف والإضمار والمجاز والإختصار ثم مالك ولكتابنا ولأي شيء تنشد ضالتنا دعها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها
ألق السلاح فلست من أكفائنا... واقعد مكانك بالحضيض الأسفل
ثم نقول من عجيب أمر هذا السائل أنه لا يصلح أن ينسب لمقلد ولا ناقل وذلك أن هذا المذهب الذي أبداه من اتخاذ الله واسطة صوت الصدى إنما حمله عليه تقليده لكتاب أغشتين
وذلك أنه أشار في مصحف العالم الكائن إلى نحو مما ذكره هذا السائل ولعله وقف عليه ولم يفهمه صحيحا ولا أورده فصيحا بل زاد عليه كلاما فاحشا قبيحا وأنا إن شاء الله تعالى أذكر كلام أغشتين في الفصل الذي بعد هذا وأبين فيه أنه ليس كما فهمه هذا السائل ثم أعطف على أغشتين بتبيين فساد مذهبه وأوضح أنه غير مصيب في مطلبه وأحقق فيه أن أغشتين مخالف لغيره من القسيسين