الرئيسيةبحث

الإعلام بما في دين النصارى/الباب الأول/الفصل الأول

الفصل الأول: الأقانيم أسماء أفعال

في حكاية كلام السائل والجواب عنه

قال السائل:

الآن وجب على أن أسألك في أمر التثليث عن خلق الله لجميع ما خلق إن كان خلقهم بقدرة وعلم وإرادة أم خلقهم بغير هذا فإذا اضطرتك المسألة إلى القول بها فإنى أسألك إن كانت أسماء لذاته أو أسماء لأفعاله فإن قلت هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسماء للذات ووقعت فيما أنكرت من الجسم وإن قلت من أسماء أفعاله التي منها سمى قادر عالم مريد فهو التثليث الذي أمرنا به

=الجواب عنه

سألت يا هذا المقدام بعد إعجام واستبهام هل خلق الله تعالى الخلق بقدرة وعلم وإرادة أم بغيرهم وهذا السؤال كان ينبغي لك ألا تسأل عنه حتى تفرغ من معرفة المراتب التي قبله وذلك أنك لا تصل إلى ما سألت عنه حتى تعرف معنى الخلق وهل العالم مخلوق وإن كان مخلوقا فهل يحتاج إلى خالق أم لا فإذا بلغت إلى هنا وقطعت هذه المفاوز التي لا تقطع بالمنى ولا يتخلص منها بالهوينى ولا يكتفي في تحصيل العلم بذلك بالتقليد بل بالنظر الشديد والبرهان العتيد

حينئذ كان ينبغي أن تسأل عما سألت عنه لكنك يجهلك بطريقة النظر قدمت وأخرت وفعلت فعلتك التي فعلت ولو كانت ممن له في النظر نصيب لضربت فيه بسهم مصيب ولاقتديت بمعلمكم الأزعم وأسقفكم الأعظم أغشتين فها هو يقول في مصحف العالم الكائن في أول ورقة منه ينبغي أن يجعل الكلام في النظريات على منازل ودرجات ليكون من اجتمع معنا في الدرجة الأولى تكلمنا معه في الدرجة الثانية ومن اجتمع معنا في الدرجة الثانية تكلمنا معه في الدرجة الثالثة ثم نمضى كذلك إلى أقصى نهايات الكلام فإنما يكون فساد الكلام وتناقضه وإشتباهه من قبل النقص في معرفة هذا الدرج لأنا متى ناظرنا في الدرجة الثانية من لم يجتمع معنا في الأولى لم يبلغ الكلام غاية ولم يقف على نهاية

وعلى منواله نسج حفص بن البر في أقواله ولقد كان لك فيهما أسوة لو كنت أهلا للقدوة فبينك وبين من سؤالك هذا ثلاثة أدراج حارت فيها عقول كثير من النظار وفنيت أزمان ونفدت أعمار فكلامك يا هذا فاسد هجين بشهادة قسيسكم أغشتين

وأما قولك فإذا اضطرتك المسألة إلى القول بها فقول غير صحيح والجهل على قائله يلوح وكيف تضطر المسألة مع نظر سقيم أخذت مقدماته بالتحكم والتسليم وإنما كان يلزم ذلك لو نزلت في كلامك على شرط السبر والتقسيم ونهجت منهج النظر القويم والا فبم تنكر على الدهرى حيث يقول لا أسلم أن العالم مخلوق وبم تنكر على الفلسفي حيث يقول أسلم أنه مخلوق لكن لا أسلم أنه محتاج إلى خالق مخترعه بعد العدم وبم تنكر على الطبيعي حيث يقول لا يحتاج عالم الطبائع إلى خالق ذي قدرة وعلم وإرادة وحياة ثم لأي شيء تحكمت وقلت إنها ثلاثة فلعلها أكثر أو أقل ولا بد لك من معرفة إبطال مذاهب هؤلاء بالبرهان وحينئذ تحصل على مرتبة الإيقان وهذا ليس بغشك فاضطجع على نمشك... خلى الطريق لمن يبنى المنار به... واقعد ببرزة حيث اضطرك القدر...

وأما قولك فإني أسألك إن كانت أسماء لذاته أو أسماء لأفعاله فإن قلت هي أسماء لذاته هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسماء للذات ووقعت فيما أنكرت من الجسم فسؤال لا يستحق أن يسمع ولا لصاحبه في العقل مطمع قسمت وسبرت وبقيت عليك أقسام وما شعرت إذ لقائل أن يقول ليست هذه الأسماء من أسماء الذات ولا من أسماء الأفعال بل هي قسم آخر وهو أسماء الصفات والتقسيم متى لم يكن دائرا بين النفى والإثبات فهو معرض للنقوض والآفات ثم أطرف من العنقاء شرعة في أول كلامه في المسميات ثم أخذه في الكلام في الأسماء ولم يفرق بين الاسم والمسمى فهو جاهل أعمى

ثم انظر بله هذا السائل وعدم حسه فلقد خرج بجهله عن أبناء جنسه كيف قال فإن قلت هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسما للذات وأي فرق بين قوله في المقدم وبين قوله في التالي وهل هذا إلا بمثابة من يقول إن قلت هذا اليوم نهارا فقد نقضت وجعلته نهارا

فما أعرفك يا هذا بنتيجة الشرطى المتصل وحدوده وبحد النقيض وشروطه فلو استرزقت الله عقلا لكان الأحرى بك من الكلام في المعتقدات والأولى ثم أعجب من ذلك كله أنك لزمت من قال إن العلم والقدرة والإرادة أسماء للذات القول بالتجسيم وهذا نتيجة الجهل الصميم والفهم المستقيم وهذا من أين يلزم أمن نقيض التالي أو عين المقدم فوالذي خص الأذكياء بالعقول لقد أربيت في جهلك على كل جهول وأتيت بما ليس بمفهوم ولا معقول

وأما قولك وإن قلت من أسماء أفعاله التي منها سمى قادر عالم مريد فهو التثليث الذي أمرنا بالقول به فيقضى أن الأقانيم من أسماء الأفعال فهذا قول لا يقول به المجانين ولا الأطفال فإن معنى تسمية الله تعالى بأسماء الأفعال إنما معناها عند العقلاء أن يخلق الله فعلا يسمى ذلك الفعل باسم فيشتق لله تعالى من ذلك الفعل اسم مثال ذلك خالق ورازق يقالان على الله تعالى باعتبار خلق الخلق ورزق الرزق فإن أردت هذا المعنى كان ذلك محالا على الصفات العلى فإن صفاته سبحانه وتعالى ليست بمخلوقة على ما يعرف في موضعه وأيضا فلو جاز أن يسمى بعلم يخلقه عالما وبإرادة يخلقها مريدا وبقدرة يخلقها قادرا جاز أن يسمى بحركة يخلقها متحركا وبصوت يخلقه مصوتا وذلك مجرى إلى جهالات لا يقول بها عاقل فإن أراد هذا السائل بأسماء الأفعال أمر آخر فهو إنما اصطلح مع نفسه فكان ينبغي له أن يفسر ما يقول إذ لم يتكلم بما اصطلح عليه أرباب العقول

وأما قولك فهو التثليث الذي أمرنا بالقول به فقول فيه كذبت وعلى الله ورسله افتريت فإن الرسل عليهم السلام لم تأمر باعتقاد التثليث لأحد من الأنام بل قالت الأنبياء عليهم السلام ما يعرفه الخاص والعام فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ولقد حصل للعقلاء بالتواتر وعلموا بالوراثة أن الله تعالى قال لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة ثم قولك هذا تريد به أنكم أمرتم باعتقاد آلهة ثلاثة وإنكم قيل لكم اعتقدوا في الله تعالى أنه آلهة ثلاثة إله واحد وقولوا به وليس الأمر كذلك عند رهبانكم المتقدمين وأساقفتكم الماضين. هذا أغشتين يقول بعد أن تكلم في الأقانيم ما تثبت أنها صفات على ما يقتضيه كلامه ذلك أنه قال وهذا قولنا في الأقانيم الثلاثة التي لا يمكن جحدها منه ولا وصفه بغيرها وهذا تصريح منه بأنها صفات ثم قال بعد ذلك فهذا قولنا في التثليث الذي وصفه الإنجيل وأمرنا بالإيمان به وسيأتي نص كلامه ولم يقل أمرنا بأن نعتقد أن الله واحد ثلاثة فإن الواحد لا يكون ثلاثة والثلاثة لا تكون واحدا كما قد تبين فساده بل مفهوم قوله أن الإنجيل وصف أن الله تعالى موصوف بهذه الصفات وأمرنا بالتصديق بذلك ولو أنكتم عن ألسنتكم أمر التثليث واعتقدتم أن الله تعالى واحد موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال لوفقتم في هذه المسألة للصواب ولحصلتم منها على الحق بلا ارتياب ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق ونكل عن التحقيق

على أن ما ذكرته في أمر التثليث لا يستقيم على رأي المتقدمين من أحباركم هذا صاحب كتاب المسائل السبع والخمسين يقول فيها لا نقول إن التثليث ممتزج في أقنوم واحد كقول شباليش ولا إلهية متحدة أو متبعضة الذات كفرية آريش بل أن أقنوم الأب غير أقنوم الابن وأقنوم الابن غير الروح لكن التثليث المقدس ذات واحدة فإذا لم تكن ممتزجة وكان كل أقنوم منها غير الآخر والأقنوم معناه عندكم الشيء المستغنى بذاته عن أصل جوهره في إقامة خاصة جوهريته فكيف يتسع عقل لأن يقول إن هذه الثلاثة المتغايرة التي هي على ما ذكر واحد وهل قائله إلا معتوه أو معاند

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد ﷺ | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله ﷺ | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام