→ خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد ﷺ النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد القرطبي |
الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن ← |
النوع الثالث: الاستدلال على نبوته ﷺ بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
ولقد كان ينبغي أن نقدم الاستدلال بهذا النوع لكونه أعظم المعجزات وأوضحها وأشهرها لكن قدمنا النوع تسكيتا للنصارى واليهود وتأسيسا
وقدمنا النوع الثاني بناء وتأسيسا
فنقول أيضا محمد بن عبد الله رسول صادق فيما يقوله عن الله والدليل على ذلك أنه قد جاء بالمعجزات وكل من جاء بها فهو صادق فمحمد إذن رسول من الله صادق فإن قيل لم قلتم أنه قد جاء بالمعجزات قلنا قد نقل إلينا نقلا متواترا بحيث لا يشك فيه أنه جاء بالقرآن وبمعجزات كثيرة فإذن هو صادق
ونبدأ الآن بالكلام على القرآن وبعد الفراغ منه نشرع في الكلام على غيره من المعجزات إن شاء الله تعالى
فإن أنكر منكر أن يكون جاء بالقرآن فقد تبين عناده وسقط استرشاده ويقال له قد حصل بذلك لك الأمم واستوى في ذلك العرب والعجم وسبيلك إن كنت منصفا أن تعاشر المتشرعين وتسألهم عن أخبار الماضين حتى يحصل لك العلم اليقين ولن ينازع في ذلك عاقل منصف بل إما معتوه أو متعسف
فإن قيل سلمنا أنه جاء بالقرآن قلم قلتم أنه معجزة قلنا لأنه قد تحدى به كافة الفصحاء البلغاء ومدة مقامه بينهم فلم يقدروا على معارضة شيء منه فإذن هو معجزة
بيان ذلك أنه ﷺ بعثه الله إلى قوم كان معظم علمهم الكلام الفصيح البليغ المليح فلقد خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم وأوتوا من دراية اللسان ما لم يؤته إنسان ومن فصل الخطاب ما يتعجب منه أولوا الألباب جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقه فيهم غريزة ووضعا فيأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب فيخطبون بدلها في المقامات وشديد الخطب ويرتجزون به بين الطعن والضرب فربما مدحوا شيئا وضيعا فرفع وربما ذموا شريفا فوضع فيصيرون بمدحهم الناقص كاملا والنبيه خاملا وذلك لفصاحتهم الرائقة وبلاغتهم الفائقة فكانوا يأتون من ذلك بالسحر الحلال ويوردونه أعذب من الماء الزلال فيخدعون بذلك الألباب ويذللون الصعاب ويذهبون الأحن ويهيجون الفتن ويجرءون الجبان ويبسطون يد الجعد البنان فهم يعرفون أصناف الكلام ما كان منه نثرا وما كان ذا نظام قد عمروا بذلك أزمانهم وجعلوا ذلك مهمتهم وشأنهم حتى بلغوا منه أعلى الرتب وأطلوا منه على كل غابة وسب لا ينازعهم في ذلك منازع ولا يدافعهم عن ذلك مدافع فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول كريم بقرآن حكيم فعرضه عليهم وأسمعهم إياه واستدل على صدقه بذلك
وقال لهم إن كنتم في شك من صدقي فائتوا بقرآن مثله وعند سماعهم له راعهم ما سمعوا وعلموا أنهم دون معارضته قد انقطعوا فلم يقدروا على ذلك ثم إنه طلب منهم أن يأتو بعشر سور مثله فعجزوا ولم يقدروا ثم طلب منهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يستطيعوا وعند ذلك أخبرهم وقال لهم لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا يعنى عونا فعند ذلك ظهر عجزهم وتبلدهم وإن كانوا هم اللسن الفصحاء اللد البلغاء
وعند ظهور عجزهم تبينت حجته ووضحت محجته وهكذا حال غير واحد من الرسل ألا ترى أن الله تعالى أرسل موسى بن عمران إلى قوم كان معظم علمهم وعملهم السحر فأيده بقلب العصى حية تسعى فرام السحرة معارضته ومقاومته فلم يقدروا من ذلك على شيء وعند عجزهم تبين صدقه وأنه رسول من عند الله وكذلك عيسى عليه السلام بعثه الله في زمان كان معظم علم أهله الطب فأيده بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وعند عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك تبين صدقه وأنه رسول من عند الله فعلم بهذا البرهان الذي يتطرق إليه خلل أن محمدا رسول الله قد خلت من قبله الرسل
فإن قيل لا نسلم أنه لم يعارض بل لعله عورض ولم ينقل أو نقل فأخفى
والجواب من وجهين
أحدهما أنا نقول لليهود والنصارى هذا السؤال ينقلب عليكم في معجزات موسى وعيسى إذ يمكن أن يقال إن ساحرا من السحرة عارض موسى عليه السلام وأنه أتى بعصا فقلبها ثعبانا أعظم من ثعبان موسى والتقم ثعبان موسى
ويمكن أن يقال للنصارى إن عيسى عليه السلام عورض في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولم ينقل إلينا أو نقل فأخفى
وكذلك نقول لغير اليهود والنصارى من الأمم في معجزات أنبيائهم فبالذي ينفصلون عن معجزات أنبيائهم به بعينه ننفصل عن معجزات نبينا عليه السلام
وجملة ما قيل في جواب هذا لو عورض لنقل إذ العادات تقتضي ذلك فإن هذا الأمر مهم عظيم تكثر العناية به فيكثر نقله لا سيما في شريعتنا فإنهم قيل لهم إذ لم تصدقوا ولم تعارضوا فأذنوا بحرب فلما لم يؤمنوا ولم يعارضوا قاتلهم فقتلهم وسبى ذراريهم وانتقم منهم غاية الإنتقام فلو قدروا على المعارضة لعارضوا ولو عارضوا لنقل نقلا متواترا فإن هذا الأمر من أهم المهمات عند العقلاء
الوجه الثاني من الجواب
وهو الانفصال الحق والكلام الصدق أن نقول من وقف على القرآن وسمعه وفهم معانيه وكان عارفا بأصناف كلامهم علم عجز الخلائق عن الإتيان بمثله ضرورة كما يعلم عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بنفس العلم بهذه الأمور والوقوف عليها وكذلك من شاهد قلب العصى ثعبانا مبينا يتلقف ما جاءوا به من السحر والتخييلات حصل له العلم القطعي بأن قلب العصى ثعبانا يعجز عنه الخلائق أجمعون إذ ذاك خارج عن مقدورهم
فإن قيل
إحياء الموتى وقلب العصى وما ينزل منزلتها جلي لا يشك فيه من شاهده عام بالإضافة إلى كل العقلاء لا يبقى معه ريب لأحدهم بل يحصل لهم العلم القطعي بذلك وليس كذلك ما ادعاه نبيكم من إعجاز القرآن إذ لا يحصل العلم بإعجازه لكل أحد بل إنما يحصل العلم بذلك عندكم وعلى زعمكم للفصحاء من العرب وأما من ليس فصيحا أو أعجميا لا يفقه لسان العرب فلا يحصل له العلم بإعجازه فإن الأعجمي لو كلف أن يتكلم بكلمة واحدة من لسان العرب لم يقدر على ذلك فعدم قدرته على ذلك لا يدل على صدق المتحدى به وكذلك من ليس فصيحا من العرب لو كلف أن يأتي بكلام فصيح لم يقدر عليه فلا يكون ذلك معجزا في حقه
الجواب أن نقول سنبين إن شاء الله وجوه إعجازه وأنها متعددة وإن منها ما يدركه الجفلا ويشترك في معرفة إعجازه أهل الحضارة والفلا فيكون هذا النوع كقلب العصى وإحياء الموتى ولو سلمنا جدلا أنه معجز من حيث بلاغته وأسلوبه المخالف لأساليب كلامهم فقط لقلنا إن العلم بإعجازه وإحياء الموتى وقلب العصى لا يحصل لكل العقلاء على حد سواء ولا في زمان واحد بل يحصل ذلك لمن علم وجه إعجاز ذلك الشيء المعجز حين يعرف أنه مما ليس يدرك بجبلة بشرية ولا يتوصل إلى ذلك بالإطلاع على خاصية
وقد لا يبعد أن تقوم شبهة عند جاهل بصناعة الطب والسحر تمنعه من تحصيل العلم بالإعجاز فيقول لعل موسى اطلع من السحر على شيء لم يعلمه السحرة ولا اطلعت عليه وكذلك عيسى لعله وقع على خاصية بعض الأحجار أو بعض الموجودات فكان يفعل بها ما يظهر على يديه وهذه الشبهة إنما ممكن أن تظهر للجاهل بالطب والسحر وأما العالم بالطب وبالسحر فلا تكون هذه شبهة في حقه لعلمه الذي حصل له بالذوق والممارسه بأن الذي جاء به هذا مما ليس يدرك بحيلة صناعية ولا بالوقوف على خاصية بل هو صنع خالق البرية وأنه أراد به التصديق لهذا المدعي والشهادة واليقينية فحصل من هذا أن العلم بإعجاز إحياء الموتى وقلب العصى إنما يحصل أولا للسحرة والأطباء ولا يحصل لكثير من الجهال بالطب والسحر الأغبياء فكذلك إعجاز القرآن ولا فرق حصل العلم به لمن يعلم لسان العرب بالذوق بضرورة الفرق الذي بينه وبين لسان العرب فعلم أنه ليس داخلا تحت مقدور العرب وإذا عجز عنه العرب الفصحاء واللد البلغاء فغيرهم أعجز كما أنا نقول إذا عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فغير الأطباء أولى وإذا عجز السحرة عن قلب العصى ثعبانا فغير السحرة أعجز وأعجز
وقولهم إنما يعجز عنه العرب لا العجم
معارض بأن يقال لهم إنما يعجز عن إحياء الموتى الأطباء لا غيرهم وإنما يعجز عن قلب العصى السحرة لا غيرهم فبالذي ينفصلون به ننفصل بل نزيد عليهم في الانفصال بوجوه ترفع الأشكال فإنا سنبدي وجوها في إعجاز القرآن يدركها كل إنسان عجميا كان أو عربيا مجوسيا كان أو كتابيا وسنبينها إن شاء الله أثر هذا
فقد حصل من هذا الكلام كله العلم بأن محمدا صلى الله عيله وسلم جاء بالقرآن وتحدى به وهو معجزة وكل من جاء بالمعجزة وتحدى بها فهو صادق فالنتيجة معلومة وهي أن محمدا ﷺ صادق
فإن قيل فبينوا لنا وجوه إعجاز القرآن وهل هو من جنس ما يقدر عليه البشر فصرفوا عنه أو ليس من جنس ما يقدرون عليه
فالجواب أن نقول ذهب بعض علمائنا إلى أن وجه إعجازه إنما هو من جهة أن صرفوا عن الإتيان به وأنه من جنس مقدور البشر لكن لم يقدروا عليه وهذا إن كان فهو بليغ في الإعجاز وذلك أن المعجزات ضربان ضرب خارج عن مقدور البشر كانفلاق البحر وانشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع وضرب يكون من جنس مقدور البشر إلا أنهم يمنعون من فعله ولا يقدرون عليه
فلو أن نبيا ادعى أنه رسول الله واستدل على صدقه بأن قال لقومه آيتي ألا تقدروا اليوم على القيام فكان ذلك فهذا دليل صدقه وهو معجزة جلية أبلغ في الإعجاز من الإتيان بما ليس بمقدور ولا يبعد أن يكون إعجاز القرآن من هذا القبيل فإن البشر قد صرفوا عن الإتيان بمثله بل عن الإتيان بآية طويلة من آياته ومن تنازع في ذلك فعليه بأن يأتى بقرآن مثله أو بسورة من مثله وهذا من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم
وذلك أن معجزته موجودة بعده وحاضرة مشاهدة في كل وقت لم تنقطع بإنقطاع وجوده ولا ماتت بموته بل هي موجودة مستمرة إلى قيام الساعة فكل من أبدى نكيرا في نبوته أو قدحا في رسالته قلنا له إن كنت صادقا في تكذيبك له فعارض قرآنه ومنزله فإن لم تفعل تبين العقلاء منه أنه متواقح مبطل
ثم نقول والذي ذهب إليه أكثر علمائنا أن القرآن خارج عن مقدور البشر وليس من جنس مقدورهم وأن القرآن وإن كان كلاما فليس بينه وبين كلام العرب من المناسبة والإلتقاء إلا ما كان بين الحية التي انقلبت عصى موسى عنها وبين حيات السحرة التي كانت تخيل للناظر إليها أنها حيات تسعى
ووجوه إعجازه كثيرة لكنا نبدي منها أربعة ونقتصر عليها لبيانها وظهورها
[وجوه إعجاز القرآن]