الرئيسيةبحث

الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثاني/الفصل الثالث

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد ﷺ
الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى
القرطبي

الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى

من حكاية كلام السائل

قال: ثم نقول لمن ناظرني من باقية المسلمين إن كتابكم يقول إن موسى سمع الله وكلمه تكليما فكيف كان ذلك وأنتم قد أعجزتم جميع الحاسات من إدراكه في الدنيا والآخرة لأنه لا مفطور ولا مشبه بشيء مما يتصور في الأوهام

فإن قلتم إنه كلمه بذاته فقد أوجبتم له جارحة النطق ووقعتم فيما أنكرتموه من الجسم وإن قلتم إن الله خلق له كلاما فقد أثبتم كلاما مخلوقا قائما بخلقه جوهرا في نفسه إذ لم يكن عرضا في الله قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأثبتم أن الكلام واسطة بين الله وبين موسى وأن موسى أقر بالربوبية لقوله رب أرني أنظر إليك وقول الصدى الذي هو المتكلم له لا إله إلا أنا فاعبدني

فإن قلت أن الصدى لم يقل له أنا الله ولكنه في مسامع موسى أنا الله قلت لك أن الصدى هو العامل في مسامع موسى وهو المحرك له وعليه رد وإياه أجاب

والدليل على أنه كان في غفلة فما كان يريد الله من إرساله إلى فرعون حتى خلق له نارا أبصرها فنزع إليها فلما أتاها أحجب الله له فيها صدى قال له أنا الله ولا إله إلا أنا فاعبدني إلا أن تقولوا إن موسى قد كان يعرف ما كان يريد الله من إرساله إلى فرعون دون النار والكلام فيكون خبر النار والكلام لا معنى لهما وخبرهما لم يفد شيئا

وهذا من القول تشنيع الكذب وإذا لم يكن بد من أن موسى لم يدرك المرسل له إلا بواسطة اتحد له يسمى باسمه فالواسط هو العامل في موسى وعنه تحمل الرسالة حتى يأتي فرعون بمصر ويقول إن الله تراءى لي بطور سيناء وبعثني إليك لترسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم مجددا الموضع الذي أقبل منه من عندالله وكان الله بمصر وفي كل مكان ولا كان يعجز موسى عن معرفة الأمر والنهى إلا بكلام محدود من جسم مفطور خلق الله له نارا أبصرها فنزع إليها ثم أحجب فيها صدى سمعه منها قام عنده مقام خالق فسماه إلها

الجواب عنه

أما قولك ثم نقول لمن ناظرني من باقية المسلمين فلتعلم يا هذا أنك غلطت في نفسك وغفلت عن حسبك حيث ظننت أنك ممن يستحسن مناظرته أحد من المسلمين للذي أمروا به من الأعراض عن الجاهلين وكيف وأنت لا يمكنك النطق بكلام فصيح ولا تقدر على نظر صحيح وأنى لك بمناظرتهم ولم تسلك شيئا من طريقتهم وكيف يمكنك النظر معهم وأنت لم تعرف طريقه ولا التزمت شروطه

فوحق دين الإسلام الذي هو دين إبراهيم عليه السلام لقد وددت أن تكون من عقلاء الأنام لتعرف قدر ما يلقى من الأسئلة عليك وما يكتب به من الحكم إليك فلعل مقلب القلوب يستنقذك من عبادة إله مصلوب ويبدلك بها إخلاص العبادة لعلام الغيوب ولولا رجاء ذلك لما كان ينبغي لي أن أعطى الحكمة غير أهلها كما لا ينبغي أن أسمعها من هو من أهلها

وأما قولك إن كتابكم يقول إن موسى سمع الله وكلمه تكليما فكيف يسوغ لك أن تجنح بما أنت منكر لأصله ولا تعترف بأنه كلام الله وأنت منكر لتصديق من جاء به فلا يحل لك أن تحتج لنفسك ولا لغيرك بما تعتقد أنه كذب وأما نحن فيمكننا أن نحتج عليكم وعلى اليهود بالتوراة والإنجيل لأنا نعتقد أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى وهما هدى قبل أن يغيرا ويبدلا وينسخا بغيرهما

وأما اليوم بعد أن ثبت عندنا ما ذكرته فلا نحتج بشيء منهما على جهة انتزاع الأحكام فإن الله تعالى قد أخرجنا بالنور من الظلام وهدانا لما اختلفتم فيه من الحق بنبينا محمد عليه السلام وسنبين إن شاء الله ما يدل على صدقه من المعجزات وواضح الدلالات

ثم نقول إن الله تعالى كلم موسى بكلامه الذي هو صفته وسمعه موسى بالإدراك الذي خلقه الله له وقولك كيف ظلم وحيف إذ سؤالك بكيف في هذا المحل دليل على أنك جاهل بمطلبها فينبغي لك أن تعلم أن صيغ المطالب كثيرة وهي مع كثرتها لا يتوجه شيء منها على الله تعالى وعلى صفاته وذلك أن من صيغ المطالب ما وأي ولم وكيف ومتى وأين وغيرهما مما في معناها ولا يتوجه على الله تعالى بشيء منها لاستحالة معانيها على الله تعالى فلا تسأل عنه ب ما ولا ب أي إذ لا جنس له ولا فصل ولا ب لم إذ لاعلة له ولا أصل ولا ب متى إذ هو مقدر الزمان ولا ب أين إذ هو خالق المكان ولا ب هل إذ لانشك في وجوده وهو خالقنا ولا ب كيف إذ لايناسب جوده ولا صفاته شيئا من أحوالنا وأوصافنا، وجوده إثباته وإثباته ذاته وعلمه كل شيء صنعه ولا علة لصنعه لا يتوجه لمخلوق عليه حق ولا يعجزه خلق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

ثم نقول ومما يبين لك أنه يصح السؤال بكيف هنا لأن المطب بكيف إنما هو سؤال عن حال موجود يناسب حال السائل بكيف فإذا قلت كيف زيد إنما معناه على أي حال هو من الأحوال التي تناسب أحوالنا في حال صحة 2 أو في حال مرض أو في حال علم أو في حال جهل إلى غير ذلك من أحواله المناسبة لأحوالنا فإذا قلت كيف سمع موسى كلام الله فكأنك قلت على أي حالة سمع موسى كلام الله من الأحوال التي نكون نحن عليها حين يسمع بعضنا من بعض ونحن والعقلاء الذي يعرفون ما يجب لله وما يجوز وما يستحيل في حقه يعلمون بالبراهين القاطعة أنه يستحيل أن يسمع موسى كلام الله على شيء من الأحوال التي يسمع عليها بعضنا من بعض على ما نبينه إن شاء الله

فعلى هذا إذا سألنا سائل كما سألت أنت قلنا له السؤال عن الله تعالى وصفاته ب كيف ظلم وحيف فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد سألت ب كيف في موضع لا مدخل لها فيه فتأدب مع الله قبل حلول عقاب الله فإن من لم يستعمل مع الله الأدب فقد استحق التعب وحرم الرتب ومن لم يستنكر هذا الكلام لحق بالبهائم والهوام فإنه لو سألك عنين لم يذق قط لذة الجماع وقال لك كيف أدركت أنت لذة الجماع لكان الجواب يصعب عليك ولم يمكنك تفهيمه إذ لم يذق لذة الجماع وكذلك كل من لم يسمع كلام الله كما سمعه موسى عليه السلام فهو كالعنين بالإضافة إلى إدراك الكلام القديم إذ لم يسمعه ولا اتصف بالإدراك الذي اتصف به موسى عليه السلام وكما لا يقال كيف يسمع الله كلام الخلق كذلك لا يقال كيف يسمع كلامه أحد من الخلق وكما لا يقال كيف يرى الله الخلق كذلك لايقال كيف يراه الخلق فإن الكيفية محال على الله تعالى وعلى صفاته من جميع الوجوه

ولولا خوف الإكثار وأنا وضعنا هذا الكتاب على الإختصار لملأت صدرك من عظمة الله تعالى إن كنت عاقلا حتى يتبين لكم أنكم لم تعرفوا الله حق معرفته ولا قدرتموه حق قدره

وأما قولك فإن قلتم أنه كلمه بذاته فقد أوجبتم له جارحة النطق ووقعتم فيما أنكرتموه من الجسم فلا يلزم من هذا كله شيء وإنما كان يلزمنا هذا لو قلنا إن الله تعالى كلمه بصوت وحرف يخرج من لهوات ويقطعه لسان ونحن لا نقول بشيء من ذلك بل نقول إن الله تعالى متكلم بكلام هو وصف قائم بذات الله ليس بحرف ولا صوت وهذا معقول مفهوم فإنا نحس من أنفسنا كلاما قائما بذواتنا فنتحدث به مع أنفسنا ليس بحرف ولا صوت وهذا مما يجده الإنسان من نفسه بالضرورة ويكون الحرف والصوت دالين على ذلك المعنى الذي في النفس وهذا لاستحالته في كلام بناسبه من بعض الوجوه لله تعالى لكن على القدر الذي يجوز في حقه تعالى وإنما ذكرنا لك أنفسنا مثالا لذلك على جهة التأنيس كما أنا نقول حقيقة العلم واحدة في القديم والحادث ونعنى بذلك إنكشاف المعلوم لأن العلم القديم يشبه الحادث فافهم وهذا كله يتبين في موضعه ويعرف بدليله

فعلى هذا الأصل الذي قررناه نقول الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام هو كلام الله القديم القائم بذات الله الذي ليس بحرف ولا صوت فإن قلتم كيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت قلنا الجواب عنه قد تقدم إذ لا يصح السؤال عنه ب كيف لاستحالة شرط السؤال بها

ثم نقول سلمنا جدلا أنه يصح السؤال ثم يكون الجواب عنه أن تقول يسمع ما ليس بصوت ولا حرف كما يعلم موجود ليس بجوهر ولا عرض وكما يرى الله الخلق وليس بذي حدقة ولا عين وكما يسمع أصواتهم وليس بذي صماخ ولا أذن وكما يعلم وليس بذي قلب ولا دماغ وكما يراه المؤمنون في الدار الآخرة كرامة لهم وليس بذي جسم ولا لون فكما تصح هذه الأمور كلها وإن كانت مستبعدة بالإضافة إلى أوهامنا في حق الله تعالى فكذلك يصح أن يسمع موسى ما ليس بحرف ولا صوت

ثم نقول للذي لا تبقى معه حسيكة في النفس ولا استبعاد في الوهم إن الله تعالى خلق لموسى إدراكا لكلامه القديم وصل به إلى تحصيل مفهوم كلام الله تعالى ومراده منه فسمى ذلك الإدراك سماعا وعبر عنه بسمع كما أنا نجوز أن يكرم الله من شاء من أصفياء خلقه بأن يطلعهم على بعض ما في نفوس بعض الناس من غير تعبير عنه بصوت ولا حرف وذلك كما في بعض كتبكم أن عيسى عليه السلام أعلم بعض الحواريين عما في نفسه ولو عبر عن ذلك بأن يقال سمع عيسى كلام ذلك الرجل لكان صدقا وحقا وهذا كله جائز عقلا لا استحالة فيه

فإن قيل كيف ينبغي لك أن تقول إن الله تعالى متكلم بكلام ليس بصوت ولا حرف وقد جاء في التوراة أن الله تكلم بصوت لآدم وحواء وذلك أنهما لما طفقا يلفقان ورق التين ليسترا بهما عورتهما فسمعا صوت الله الرب يتمشى في الفردوس إلى أن قال فدعا الرب آدم وقال أين أنت يا آدم وقال آدم سمعت صوتك في الفردوس فرأيت أنى عار فاستترت واستخفيت وهذا يدل على أن لله تعالى صوتا وهو خلاف ما ذكرت فيلزمك على هذا تكذيب التوراة أو تقول بمقتضاها فترجع عما قلته آنفا

فنقول ما أمرنا به نبينا عليه السلام عندما تحدثونا بشيء آمنا بالله وكتبه ورسله وبعد ذلك نقول في التوراة بمثل ما قلناه في الإنجيل أو قريبا منه فجدد به عهدا وفيه نظرا

ثم إن سلمنا صحتها فليس في هذا الذي ذكرته ما يدل على أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت وإنما الظاهر منه أن آدم سمع حس مشى الله في الفردوس ألا ترى قوله فسمعا صوت الرب يتمشى في الفردوس هذا هو الظاهر من هذا اللفظ وأنتم لا تقولون به ولا نحن وإن كانت اليهود أو أكثرها قد قالت بمقتضى ظاهره فجسمت وأنتم إن قلتم بظاهره يلزمكم ما لزمهم فإذن هذا اللفظ مؤول عندكم وعندنا أعنى من المتشابهات التي يعلمها الراسخون في العلم فما لم يستقم جعله على ظاهره تأولتموه أنتم وصرفتموه عن ظاهره وقلتم أن هذا إنما يراد به كلام الله تعالى الذي هو حرف وصوت عندكم وهو فعل من أفعال الله تعالى عندكم

وإلى نحو من هذا صار أغشتين وإذا تأولتم أنتم هذا اللفظ وأخرجتموه عن ظاهره فنحن نخرجه عن ظاهره بتأويل آخر أحسن من تأويلكم لا يلزم عليه شيء من المحالات التي تلزمكم وسنبينها إن شاء الله

ولنا في ذلك تأويلان:

أحدهما أن الله تعالى خلق صوتا في بعض طرق الفردوس يشبه صوت الماشي وهو الذي يسمى بلسان العرب الهمس والخشخشة فلما سمع آدم ذلك الصوت تنبه لمخاطبة الله تعالى ولحضوره معه ثم أضاف الصوت إلى الله تعالى لأنه هو الذي تنبه آدم عنده لمحاضرة الله وكأن آدم كان في غفلة لشدة حزنه وعظيم ما حل به وهذا كما يعتري الواحد منا إذا كان ملهوفا بأمر هائل فإنه يشتغل بنفسه بل ويغفل عن حسه ثم قد يتنبه عند سماع صوت شيء وحس إنسان فيرجع عند ذلك لنفسه ويتنبه لمن معه وعلى هذا التأويل يكون في يتمشى ضمير يعود على الصوت فكأنه قال يتمشى الصوت في الفردوس لا على الله إذ يستحيل على الله تعالى ظاهر المشي ومفهومه السابق منه وهذا تأويل حسن سائغ عند المنصف

والتأويل الثاني أن الصوت يراد به الكلام القائم بذاته وإن كان ليس بصوت فيجوز أن يسميه صوتا لأنه يمكن أن يدل عليه بالصوت كما نقول إن موسى عليه السلام سمع كلام الله القائم بذاته بمعنى أدركه وفهمه بإدراك خص به موسى ثم عبر موسى عنه لنا بصوت مقطع إذ ليس في قوتنا إدراك ما ليس بصوت وبقريب من ذلك نقول نحن في القرآن

وهذا النوع من التأويل نوع جائز جار في الكلام فإنه تسمية الشيء بما يدل عليه كما تقول سمعت علم فلان وإنما سمعت كلامه الذي دل على علمه والكلام ليس هو العلم وعلى هذا التأويل يكون في الفردوس معلقا ب سمعا لا ب يتمشى ويكون معنى يتمشى يبلغ والبلوغ عبارة عن الإدراك الذي به أدرك كلام الله تعالى يعني سمعه وكذلك قوله سمعت صوتك في الفردوس أي وأنا في الفردوس

ولو كنت تعرف لسان القوم الذين ترجمت التوراة والإنجيل بلغتهم لذكرت لك من هذا أمثلة كثيرة وفي القليل المبصر غنية عن الكثير فهكذا ينبغي لك ولكل عاقل أن يفهم تأويل الصوت الذي وقع في التوراة ولعمري لا يبعد أن يتأول تأويلات أخر جاريات على السنن القويم والمنهج المستقيم وفيما ذكرناه مقنع للعاقل فتدبر فهمك الله ما ذكرته ولا تعتقد في الله تعالى أنه متكلم بصوت محدث فإن ذلك محال

ونحن نبين استحالته مستعينين بالله ومتوكلين عليه فنقول:

من المتقرر الثابت عند المشرعين كلهم أن الله تعالى متكلم ومن لم يعول في ذلك على ما أخبرت به الرسل ولا وافق على الشرائع أقيمت عليه القواطع التي لا يردها إلا معاند وليس هذا موضع ذكرها فإذا تقرر ذلك فنقول:

إما أن يكون متكلما بصوت أو بغير صوت فإن كان متكلما بصوت فذلك الصوت إما أن يكون قائما به أو قائما بغيره أو لا قائما به ولا قائما بغيره

محال أن يكون قائما به فإن الصوت لا يكون مفيدا حتى يتقطع بالحروف وتلك التقطيعات لا بد أن تكون حادثة فيلزم عليه أن يكون محلا للحوادث وإذا كان محلا للحوادث لم يخل عنها وإذا لم يخل عنها كان حادثا مثلها على ما تحقق في موضعه وذلك كله محال على الله تعالى وإن قام بغيره فذلك الغير يكون المتكلم به سواء كان ذلك المحل جمادا أو حيوانا فإن قلنا إنه يجوز قيامه بجسم جماد وإن جاز أن قوم الصوت بمحل ويكون الباري تبارك وتعالى متكلما به جاز أن تقوم صفة بمحل وتوجب حكمها لمحل آخر فيلزم على ذلك أن تقوم حركة بجسم يكون جسما آخر متحركا بها ويقوم بمحل لون ويكون محل آخر متصفا به وذلك كله محال بالضرورة ويلزم عليه أن يكون الباري تعالى متكلما بما يقوم بنا من كلامنا الى غير ذلك من المحالات وباطل أن يقال لايقوم به ولا بغيره لأنه يكون قائما بنفسه وخرج عن كونه صفة زائدة على النفس وإذا بطلت هذه الثلاثة الأقسام وهو ما قدمنا ذكره ومن أراد مزيدا فليرحل ويرتد للحق بعد أن يبحث ويسأل

وإذا ثبتت هذه القاعدة الوثيقة العظيمة الأنيقة التي لا يعرف قدرها ولا عظم خطرها إلا من نور الله بنور اليقين بصيرته وأصلح بجزيل التوفيق سريرته بطل ما أملتموه ولم يلزم شيء مما ألزمتموه ولا تم لكم شيء مما أردتموه

فإن جملة ما تريد أن تقوله في هذا الفصل أن الله تعالى متكلم بصوت وأن موسى سمع بذلك الصوت وهو يقول أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وذلك الصوت غير الله

ومع ذلك خاطبه موسى بقوله رب أرني أنظر إليك وقد اعترف له موسى بالربوبية فكذلك المسيح في قوله أنا الله صادق إذ قد اتخذه واسطة بينه وبين خلقه كما اتخذ جسم النار والكلام واسطة بينه وبين موسى فينبغي لنا أن نعترف بربوبيته كما اعترف موسى بربوبيه الصوت وهذا الهذيان كله الذي ذكرته وليتك ما أنحلته الذي والله لا شرع يعضده ولا عقل يقبله ويريده مبنى على أن الله تعالى متكلم بصوت وقد أبطلناه فبطل كل ذلك

ومع ذلك فلنتكلم على أجزاء كلامك بعد أن بينا جملة مقصودك ومرامك حتى يتبين أنكم لستم على شيء مما ينتحله العقلاء بل يتبرأ منه الفضلاء فنقول

أما قولك وإن قلتم إن الله خلق له كلاما فقد أثبتم كلاما مخلوقا قائما بخلقه جوهرا في نفسه فنقول بعد أن أبطلنا الصوت الذي ترومون البناء عليه نسلمه لكم جدلا ونبين بعد ذلك أنه لا يلزم شيء مما ذكرته إذ لا يلزم من تقدير صوت الله تعالى عن ذلك مخلوق أن يكون الصوت قائما بنفسه جوهرا فإن الصوت إنما حقيقته أنه صفة لموصوف وعرض في محل والعرض لا ينقلب جوهرا فإن قلت فيلزمك أن يكون عرضا قال لك المجيب وما الذي يلزم منه إن كان عرضا فإن قلت يلزم منه أن يكون العرض هو الذي قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني والصوت لا يتكلم وإنما يتكلم به قلنا لك جوابك أن الصوت لا يتكلم عن نفسه وإنما يتكلم به كما قلت أنت ثم يلزمك أنت إن جعلته جوهرا غير الله تعالى أن يكون هو الذي قال عن نفسه أنا الله لا إله إلا أنا وله اعترف موسى بالربوبية لا الله وله سجد لا الله وإذا انتهى إنسان إلى هذه المخازي فقد كفر بموسى وباإله موسى نعوذ بالله من أنظار تقود في الدنيا إلى الفضيحة والعار وفي الآخرة إلى الخلود في عذاب النار

وعلى هذا الكفر الصريح يدل قولك إن موسى أقر لها بالربوبية تريد للواسطة وإذا أقر لها بالربوبية ولم يعرف قط من موسى عليه السلام أنه أقر بالربوبية لالهين فقد اعترف بربوبية الواسطة وأنكر ربوبية الله وكذلك يفعل الله بكل مسرف مرتاب أعاذنا الله من الاختلال المفضى بصاحبه إلى الضلال ثم هذه المخارق بلزم منها قلب الحقائق فإن الصوت لا يقوم بنفسه ولا بخلقه والقائل بذلك يشهد العقلاء بحمقه فإن حقيقته صفة لموصوف يستدعى وجودها محلا كما سائر الصفات إذ لايعقل قيام صفة بنفسها بل بغيرها وهذا ضروري

وأما قولك فإن قلت إن الصدى لم يقل له أنا الله ولكنه كان في مسامع موسى أنا اللة قلت لك ان الصدى هو العامل في مسامع موسى وهو المحرك له وعليه رد واياه أجاب فيلزمك على هذا الانفصال أن يكون موسى رسول الصدى لا رسول الله وعليه يدل كلامك وعنه تحمل الرسالة لا عن الله وإذا كان كذلك فقد كذبت موسى عليه السلام على ما يلزمكم حيث قال لفرعون أنا رسول الله فإن كان بزعمك رسول الصدى فإذا كان الصدى يقول أنا الله ويعترف له موسى بالربوبية ويأمر لموسى بتبليغ رسالته فقولوا أن الصدى إله وأضيفوه إلى آلهتكم المتقدمة فيكون عددهم خمسة وذلك أن الأقانيم الثلاثة عندكم آلهة وعيسى إله رابع والصدى إله خامس ومنكم طائقة تدعى أن مريم إله فتكون الآلهة عند هذه الطائفة ستة

وإذا انتهى عقل إنسان يقول هذه المخازي بلسانه ولا يشعر بها سقطت مكالمته ووجبت مجانبته

ولا معنى لتطويل الكلام مع من يرتكب ذلك الهذيات فقد تم للشيطان فيهم أمله وأنجح معهم سعيه وعمله ومع هذا ف إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وينبغي أن يتعدى أكثر كلام هذا السائل مما هو ظاهر الفساد ولعلنا نصل إلى ما هو المهم والمراد من نقل مذاهب المتقدمين أعنى المطارق والقسيسين إذ كلامهم يمكن أن يعقل أعنى ينفهم ويتحصل ولا بد مع ذلك من نقل كلام هذا السائل ليعلم الناظر فيه أنه ليس تحته طائل وأن المتكلم به ليس بعاقل

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد ﷺ | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله ﷺ | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام