الرئيسيةبحث

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/7

فصل

ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن وهو رقية اللواط والزنا وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرا منه وغرورا وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات وعكفت قلوبهم بكليتها عليه وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان وتكسروا في حركاتهم ورقصهم أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق وأثواب تشقق وأموال في غير طاعة الله تنفق حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله واستفزهم بصوبه وحيله وأجلب عليهم برجله وخيله وخز في صدورهم وخزا وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام ويا شماتة أعداء الإسلام بالدين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا واتخذوا دينهم لهوا ولعبا مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ولا أزعج له قاطنا ولا أثار فيه وجدا ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى النار زندا حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت وعلى أقدامه فرقصت وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت وعلى أنفاسه فتصاعدت وعلى زفراته فتزايدت وعلى نيران أشواقه فاشتعلت فيا أيها الفاتن المفتون والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله والجنسية علة الضم قدرا وشرعا والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا فمن أين هذا الإخاء والنسب لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا أفتتخذونه وذرعيته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا.

ولقد أحسن القائل:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة... لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا... والله ما رقصوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن... فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا... تقييده بأوامر ونواهي

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى... زجرا وتخويفا بفعل مناهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس عن... شهواتها يا ذبحها المتناهي

وأتى السماع موافقا أغراضها... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

أين المساعد للهوى من قاطع... أسبابه عند الجهول الساهي

إن لم يكن خمر الجسوم فإنه... خمر العقول مماثل ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه... وانظر إلى النسوان عند ملاهي

وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي

واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله

وقال آخر:

برئنا إلى الله من معشر... بهم مرض من سماع الغنا

وكم قلت: يا قوم انتم على... شفا جرف ما به من بنا

شفا جرف تحته هوة... إلى درك كم به من عنا

وتكرار ذا النصح منا لهم... لنعذر فيهم إلى ربنا

فلما استهانوا بتنبيهنا... رجعنا إلى الله في أمرنا

فعشنا على سنة المصطفى... وماتوا على تنتنا تنتنا

ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة المهدي تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة

قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه والباطل باطلا فنجتنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر ويتوب إليه منها ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين. ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء: 115 ] فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصى الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق

ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب

وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق

قال: وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب

وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان: وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه

قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه

قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره

وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض

قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا وإن شاء أزعجه عن داره

وأما الشافعي: فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته

وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحق وابن الصباغ

قال الشيخ أبو إسحق في التنبيه: ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافا وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم فقد تضمن كلام الشيخ أمورا

أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة

الثاني: أن الاستئجار عليها باطل

الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم

الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة الخامس: أن الزمر حرام

وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور

وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته:

القسم الثاني: أن يغنى ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه قال: وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم ثم ذكر عن الغزالي الجواز قال: والصحيح تحريم اليراع وهو الشبابة

وقد صنف أبو القاسم الدولعى كتابا في تحريم اليراع

قد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه:

أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدفع منفردا فمن لايحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد قال: وقولهم في السماع المذكور: إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء: 115 ]

وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم: المحللون لما حرم الله والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه

والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه: من أغلظ الناس قولا في ذلك

وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله: أنه يصد عن القرآن وهو شعر يزهد في الدنيا بغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين

فصل

وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني: ثم ذكر قول مالك إنما يفعله عندنا الفساق قال عبد الله: وسمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا

قال أحمد: وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله

ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان

ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام

فصل

وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادا للدين

قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته وأغلظ القول فيه وقال: هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا

قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا

قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن

قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما

قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيدالله بن الحسن فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد فإن الساجي حكى عنه: أنه كان لا يرى به بأسا والثاني: عبيدالله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو مطعون فيه قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة وليس في الأمة من رأى هذا الرأى

قلت: ومن أعظم المنكرات: تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء

فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني

وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم:

ألا قل لهم قول عبد... نصوح وحق النصيحة أن تستمع

متى علم الناس في ديننا... بأن الغناء سنة تتبع

وأن يأكل المرء أكل الحمار... ويرقص في الجمع حتى يقع

وقالوا: سكرنا بحب الإله... وما أسكر القوم إلا القصع

كذاك البهائم إن أشبعت... يرقصها ريها والشبع

ويسكره الناى ثم الغنا... ويس لو تليت ما انصدع

فيا للعقول ويا للنهى... ألا منكر منكم للبدع

تهان مساجدنا بالسماع... وتكرم عن مثل ذاك البيع

وقال آخر وأحسن ما شاء:

ذهب الرجال وحال دون مجالهم... زمرمن الأوباش والأنذال

زعموا بأنهم على آثارهم... ساروا ولكن سيرة البطال

لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا... كتقشف الأقطاب والأبدال

قطعوا طريق السالكين وغوروا... سبل الهدى بجهالة وضلال

عمروا ظواهرهم بأثواب التقى... وحشوا بواطنهم من الأدغال

إن قلت: قال الله قال رسوله... همزوك همز المنكر المتغالي

أو قلت: قد قال الصحابة والأولى... تبعوهم في القول والأعمال

أو قلت: قال الآل آل المصطفى... صلى عليه الله أفضل آل

أو قلت: قال الشافعي: وأحمد... وأبو حنيفة والإمام العالي

أو قلت: قال صحابهم من بعدهم... فالكل عندهم كشبه خيال

ويقول: قلبي قال لي عن سره... عن سرع سري عن صفا أحوالي

عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي... عن شاهدي عن واردي عن حالي

عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي... عن سر ذاتي عن صفات فعالي

دعوى إذا حققتها ألفيتها... ألقاب زور لفقت بمحال

تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا... بظواهر الجهال والضلال

جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا... شطحا وصالوا صولة الإدلال

نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم... نبذ المسافر فضلة الأكال

جعلوا السماع مطية لهواهم... وغلوا فقالوا فيه كل محال

هو طاعة هو قربة هو... سنة صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال

شيخ قديم صادهم بتحيل... حتى أجابوا دعوة المحتال

هجروا له القرآن والأخبار... والآثار إذ شهدت لهم بضلال

ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى... من أوجه سبع لهم بتوال

تالله ما ظفر العدو بمثلها... من مثلهم واخيبة الآمال

نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها... فأتى بذا الشرك المحيط الغالي

فإذا بهم وسط العرين ممزقى... الأثواب والأديان والأحوال

لا يسمعون سوى الذي يهوونه... شغلا به عن سائر الأشغال

ودعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا... عنها وسار القوم ذات شمال

خروا على القرآن عند سماعه... صما وعميانا ذوي إهمال

وإذا تلا القارى عليهم سورة... فأطالها عدوه في الأثقال

ويقول قائلهم: أطلت وليس ذا... عشر فخفف أنت ذو إملال

هذا وكم لغو وكم صخب وكم... ضحك بلا أدب ولا إجمال

حتى إذا قام السماع لديهم... خشعت له الأصوات بالإجلال

وامتدت الأعناق تسمع وحى... ذاك الشيخ من مترنم قوال

وتحركت تلك الرءوس وهزها... طرب وأشواق لنيل وصال

فهنا لك الأشواق والأشجان... والأحوال لا أهلا بذي الأحوال

تالله لو كانوا صحاة أبصروا... ماذا دهاهم من قبيح فعال

لكنما سكر السماع أشد... من سكر المدام وذا بلا إشكال

فإذا هما اجتمعا لنفس مرة... نالت من الخسران كل منال

يا أمة لعبت بدين نبيها... كتلاعب الصبيان في الأوحال

أشمتمو أهل الكتاب بدينكم... والله لن يرضوا بذي الأفعال

كم ذا نعير منهم بفريقكم... سرا وجهرا عند كل جدال

قالوا لنا: دين عبادة أهله... هذا السماع فذاك دين محال

بل لا تجىء شريعة بجوازه... فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤال

لو قلتمو فسق ومعصية وتزيين... من الشيطان للأنذال

ليصد عن وحى الإله ودينه... وينال فيه حيلة المحتال

كنا شهدنا أن ذا دين أتى... بالحق دين الرسل لا بضلال

والله منهم قد سمعنا ذا إلى الآذان من أفواههم بمقال

وتمام ذاك القول بالحيل التي... فسخت عقود الدين فسخ فصال

جعلته كالثوب المهلهل نسجه... فيه تفصله من الأوصال

ما شئت من مكر ومن خدع... ومن حيل وتلبيس بلا إقلال

فاحتل على إسقاط كل فريضة... وعلى حرام الله بالإحلال

واحتل على المظلوم يقلب ظالما وعلى الظلوم بضد تلك الحال

واقلب وحول فالتحيل كله... في القلب والتحويل ذو إعمال

إن كنت تفهم ذا ظفرت بكل ما... تبغى من الأفعال والأقوال

واحتل على شرب المدام وسمها... غير اسمها واللفظ ذو إجمال

واحتل على أكل الربا واهجر شنا... عة لفظه واحتل على الابدال

واحتل على الوطء الحرام ولا تقل... هذا زنا وانكح رخى البال

واحتل على حل العقود وفسخها... بعد اللزوم وذاك ذو إشكال

إلا على المحتال فهو طبيبها... يا محنة الأديان بالمحتال

واحتل على نقض الوقوف وعودها... طلقا ولا تستحي من إبطال

فكر وقدر ثم فصل بعد ذا... فإذا غلبت فلج في الإشكال

واحتل على الميراث فانزعه م... الوراث ثم ابلع جميع المال

قد أثبتوا نسبا وحصرا فيكم... حتى تحوز الإرث للأموال

واعمد إلى تلك الشهادة واجعل... الإبطال همك تحظ بالابطال

فالحصر إثبات ونفى غير... معلوم وهذا موضع الاشكال

واحتل على مال اليتيم فإنه... رزق هنى من ضعيف الحال

لا سوطه تخشى ولا من سيفه... والقول قولك في نفاذ المال

واحتل على أكل الوقوف فإنها... مثل السوائب ربة الإهمال

فأبو حنيفة عنده هي باطل... في الأصل لم تحتج إلى إبطال

فالمال مال ضائع أربابه... هلكوا فخذ منه بلا مكيال

وإذا تصح بحكم قاض عادل... فشروطها صارت إلى اضمحلال

قد عطل الناس الشروط وأهملوا... مقصودها فالكل في إهمال

وتمام ذاك قضاتنا وشهودنا... فاسأل بهم ذا خبرة بالحال

أما الشهود فهم عدول عن طريق... العدل في الأقوال والأفعال

زورا وتنميقا وكتمانا... وتلبيسا وإسرافا بأخذ نوال

ينسى شهادته ويحلف إنه... ناس لها والقلب ذو إغفال

فإذا رأى المنقوش قال: ذكرتها... يا للمذكر جئت بالآمال

ويقول قائلهم: أخوض النار في... نزر يسير ذاك عين خبال

ثقل لى الميزان إني خائض... للمنكبين أجر بالأغلال

أما القضاة فقد تواتر عنهم... ما قد سمعت فلا تفه بمقال

ماذا تقول لمن يقول: حكمت أنت... فاسق أو كافر في الحال

فإذا استغثت أغثت بالجلد الذي... قد طرقوه كمثل طرق نعال

فيقول طق فتقول: قط فتعارضا... ويكون قول الجلد ذا إعمال

فأجارك الرحمن من ضرب ومن... عرض ومن كذب وسوء مقال

هذا ونسبة ذاك أجمعه إلى... دين الرسول وذا من الأهوال

حاشا رسول الله يحكم بالهوى... والجهل تلك حكومة الضلال

والله لو عرضت عليه كلها... لاجتثها بالنقض والإبطال

إلا التي منها يوافق حكمه... فهو الذي يلقاه بالإقبال

أحكامه عدل وحق كلها... في رحمة ومصالح وحلال

شهدت عقول الخلق قاطبة بما... في حكمه من صحة وكمال

فإذا أتت أحكامه ألفيتها... وفق العقول تزيل كل عقال

حتى يقول السامعون لحكمه:... ما بعد هذا الحق غير ضلال

لله أحكام الرسول وعدلها... بين العباد ونورها المتلالى

كانت بها في الأرض أعظم رحمة... والناس في سعد وفي إقبال

أحكامهم تجرى على وجه السداد... وحالهم في ذاك أحسن حال

أمنا وعزا في هدى وتراحم... وتواصل ومحبة وجلال

فتغيرت أوضاعها حتى غدت... منكورة بتلوث الأعمال

فتغيرت أعمالهم وتبدلت... أحوالهم بالنقص بعد كمال

لو كان دين الله فيهم قائما... لرأيتهم في أحسن الأحوال

وإذا همو حكموا بحكم جائر... حكموا لمنكره بكل وبال

قالوا: أتنكر حكم شرع محمد... حاشا لذا الشرع الشريف العالي

عجت فروج الناس ثم حقوقهم... لله بالبكرات والآصال

كم تستحل بكل حكم باطل... لا يرتضيه ربنا المتعالي

والكل في قعر الجحيم سوى الذي... يقضى بدين الله لا لنوال

أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا... في النار في ذاك الزمان الخالي

وزماننا هذا فربك عالم... هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي

يا باغى الإحسان يطلب ربه... ليفوز منه بغاية الآمال

انظر إلى هدة الصحابة والذي... كانوا عليه في الزمان الخالى

واسلك طريق القوم أين تيمموا... خذ يمنة ما الدرب ذات شمال

تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى... سبل الهدى في القول والأفعال

درجوا على نهج الرسول وهديه... وبه اقتدوا في سائر الأحوال

نعم الرفيق لطالب يبغى الهدى... فمآله في الحشر خير مآل

القانتين المخبتين لربهم... الناطقين بأصدق الأقوال

التاركين لكل فعل سيء... والعاملين بأحسن الأعمال

أهواؤهم تبع لدين نبيهم... وسواهم بالضد في ذي الحال

ما شابهم في دينهم نفص... ولا في قولهم شطح الجهول الغالي

عملوا بما علموا ولم يتكلفوا... فلذاك ما شابوا الهدى بضلال

وسواهم بالضد في الأمرين قد... تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال

فهم الأدلة للحيارى من يسر... بهداهم لم يخش من إضلال

وهم النجوم هداية وإضاءة... وعلو منزلة وبعد منال

يمشون بين الناس هونا... نطقهم بالحق لا بجهالة الجهال

حلما وعلما مع تقى... وتواضع ونصيحة مع رتبة الإفضال

يحيون ليلهم بطاعة ربهم... بتلاوة وتضرع وسؤال

وعيونهم تجرى بفيض دموعهم... مثل انهمال الوابل الهطال

في الليل رهبان وعند جهادهم... لعدوهم من أشجع الأبطال

وإذا بدا علم الرهان رأيتهم... يتسابقون بصالح الأعمال

بوجوههم أثر السجود لربهم... وبها أشعة نوره المتلالي

ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم... في سورة الفتح المبين العالي

وبرابع السبع الطوال صفاتهم... قوم يحبهم ذوو إدلال

وبراءة والحشر فيها وصفهم... وبهل أتى وبسورة الأنفال

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34