→ 11 | إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الباب الثالث عشر ابن قيم الجوزية |
13 ← |
فصل
فلما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر وظنوا أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته
فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعي رحمه الله: الاجماع أكبر من الخبر المنفرد وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الاجماع فإنه معصوم
قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك
فثبت في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن شفيق سمع أنسا يقول قال عمر: في الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال: هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وكان إذا أتي به أوجعه
وروى البيهقي من حديث ابن أبي ليلى عن على رضي الله عنه فيمن طلق ثلاثا قبل الدخول قال: لا تحل حتى تنكح زوجا غيره
وروى حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على لا تحل له حتى تنكح غيره وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه قال جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: طلقت امرأتي ألفا فقال: ثلاث تحرمها عليك واقسم سائرها بين نسائك
وقال علقمة بن قيس: أتى رجل ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة قال: قلتها مرة واحدة قال: نعم قال: تريد أن تبين منك امرأتك قال: نعم قال: هو كما قلت وأتاه رجل فقال: إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم فقال له مثل ذلك ثم قال قد بين الله سبحانه أمر الطلاق فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له ومن لبس جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون إلا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس: إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل
وفي الموطأ أيضا في هذه القصة أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير فقال: إن هذا لأمر مالنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة: فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لابي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال: أبو هريرة الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس مثل ذلك
فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير
وفي الموطأ أيضا: عن النعمان بن أبي عياش عن عطاء بن يسار قال جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء: فقلت: إنما طلاق البكر واحدة فقال لي عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها: حتى تنكح زوجا غيره
وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره
وروي البيهقي من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة عن طارق بن عبد الرحمن: سمعت قيس بن أبي عاصم قال: سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاثة تحرم وسبع وتسعون فضل
وروى البيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن فلما قتل علي رضي الله عنه قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال: بقتل علي تظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق يعني ثلاثا فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فقالت لما جاءها الرسول: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثة مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره: لراجعتها
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام والبتة والبائن والخلية والبرية: ثلاثا ثلاثا قال شعبة: فلقيت عطاء فقلت: من حدثك عن هذا قال أبو البختري قال أحمد: وأنا أهابها ولا أجيب فيها لأنه يروي عن عامة الناس أنها ثلاث: علي وزيد وابن عمر وعامة التابعين وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير ومعاوية بن أبي عياش وغيرهم: أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأي شيء ترد حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة بأي شىء تدفعه قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس: أنها ثلاث وإلى هذا نذهب
وذكر البيهقي: أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال: رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس فقال: أثم بربه وحرمت عليه امرأته فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبي موسى يريد بذلك عيبه فقال: ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد
قالوا فهذا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العربي وأبو بكر الرازي وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه
قال في رواية الأثرم وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يرد إلى السنة: إنه ليس بشيء وقال هذا مذهب الرافضة وظاهر هذا: أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة
قال الآخرون: قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يعلم فيه مخالف: أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة هذا إذا لم يعلم مخالف فكيف إذا علم المخالف وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى عاص لله تعالى ورسوله ﷺ متعرض للحوق الوعيد به فإن الله تعالى يقول: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ النساء: 59 ] فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعا ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذه
المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا
وبيان هذا من وجوه:
أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وهذا الإسناد على شرط البخاري
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا فقال: سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها وأخبره بقول الزهري قال: فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة
أخبرنا ابن جريح قال وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا قال: فأخبرت طاوسا فقال أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة
فقوله إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا أي إذا كن متفرقات فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة وهذا هو الذي حلف عليه طاوس: أن ابن عباس كان يجعله واحدة
ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك وأنها ثلاث فهما روايتان: ثابتتان عن ابن عباس بلا شك
الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وأنه كان يقول: يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسمعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة
الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم
الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود عن الحصين حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فجعلها النبي ﷺ واحدة قال أبو عبد الله: وكان هذا مذهب ابن إسحق يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة
الوجه السادس: أنه مذهب إسحق بن راهوية في البكر قال محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء له: وكان إسحق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر يجعل واحدة: على هذا قال: فإن قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن سفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى وليست الثنتان بشيءلأن غير المدخول بها تبين بواحدة ولا عدة عليها وقال مالك وربيعة وأهل المدينة والأوزاعي وابن أبي ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق نسقا متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية
فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم
أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثاني: أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثالث: أنه إن أقوعها بلفظ واحد فهي ثلاث وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحد
الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول قال ابن المنذر في كتابه الأوسط: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة
الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه إنما هو مذهب سعيد بن جبير
الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه قال ابن المنذر: واختلف في هذا الباب عن الحسن فروي عنه كما رويناه عن أصحاب النبي ﷺ وذكر قتادة وحميد ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك فقال: واحدة بائنة وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق في المصنف فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا فقال الحسن: وما بعد الثلاث فقلت صدقت وما بعد الثلاث فأفتى الحسن بذلك زمنا ثم رجع فقال: واحد تبينها ويحطها قاله حياته
الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى ابن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا فقال: إنما طلاق البكر واحدة فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره فذكر عطاء مذهبه وعبد الله بن عمرو مذهبه
الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه
الوجه الثاني عشر: أنه مذهب مقاتل الرازي حكاه عنه المازرى في كتابه المعلم بفوائد مسلم قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وأبي عاصم النبيل روى عنه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وكان ثقة الوجة الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك حكاها عنه جماعة من المالكية منهم التلمساني صاحب شرح الخلاف وعزاها إلى ابن أبي زيد: أنه حكاها رواية عن مالك وحكاها غيره قولا في مذهب مالك وجعله شاذا
الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب الوثائق وهو مشهور عند المالكية عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك هكذا قال واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا: كذب لأنه لم يطلق ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة كما لو قال: حلفت ثلاثا كان يمينا واحدة ثم ذكر حججهم من الحديث
الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشطي صاحب كتاب الوثائق الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه قال ألبتة أو لم يقل قال: وقال بعض الموثقين يريد المصنفين في الوثائق: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث وبه القضاء وعليه الفتوى وهو الحق الذي لا شك فيه قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة وأحاديث مسطورة أضربنا عنها واقتصرنا على الصحيح منها فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله ﷺ ثلاثا في مجلس واحد فقال له النبي ﷺ إنما هي واحدة فإن شئت فدعها وإن شئت فارتجعها ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها
الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه تهذيب الآثار فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت في وقت سنة وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله تعالى إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق أمرأته في وقت فطلقها في غيره أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة: أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه وبسوء قصده لا بحسن فهمه ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه والله تعالى عند لسان كل قائل وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل
الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا وقال في بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد
قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد ابن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم
الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفي في وثائقه وقد ذكر الخلاف في المسألة
ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: الطلاق مرتان وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب ومحمد بن بقى ومحمد بن عبد السلام الخشني وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه
الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه وذكر من كان يفتي بها من المالكية والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك كثير الفوائد جدا ونحن نذكر نصه فيه بلفظه فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث ثم نتبعه كلامه ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلا منه وظلما ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما
قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة وطلاق البدعة فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه وطلاق البدعة: نقيضه وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمة واحدة فإن فعل لزمه الطلاق
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق
فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة وقاله ابن عباس وقال: قوله ثلاثا لا معنى له: لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح ولو قرأها مرة واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات لكان كاذبا وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة فالطلاق مثله ومثله قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة: 229 ] يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة ومعنى قوله: أو تسريح بإحسان يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما قال الله تعالى: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يريد الندم على الفرقة والرغبة في المراجعة وموقع الثلاث غير محسن لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا فدل على أنه إذا جمع: أنه لفظ واحد فتدبره
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك
من ذلك: قول الرجل: مالي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه
أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم سبحانك ! هذا بهتان عظيم بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود وأصحابه وذنبهم عند كثير من الناس: أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم ونبذهم القياس وراء ظهورهم فلم يعبئوا به شيئا وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك فأباح جمع الثلاث وأوقعها
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير
وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس ولعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس: الألزام بالثلاث لمن أوقعها جملة وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقل على نقف صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك فلذلك لم نعد ما حكى عنهم في الوجوه المبينة للنزاع وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها وبالله التوفيق
فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم الذي أمرنا باتباع سنته والاقتداء به أفتظنون به أنه كان يرى رسول الله ﷺ وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة مع أنه أيسر على الأمة وأسهل وأبعد من الحرج ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة ويوافقونه ولا يخالفونه ! ثم هب أنهم خافوا منه في حياته وكلا فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك وكان إذا بينت له المرأة ما خفي عليه من الحق رجع إليه وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق وأن يمسكوا عنه خوفا من عمر رضي الله عنه فقد دار الأمر بين القدح في عمر رضي الله عنه والصحابة معه وبين ردع تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسوله ﷺ من جميع من بعدهم
قيل: لعمر الله إن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف فنقول:
الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث
فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية
وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله
وعزر بالعقوبات المالية في عدة مواضع
وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه
وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالا قطع فيه وكاتم الضالة
وعزر بالهجر ومنع قربان النساء
ولم يعرف أنه عزر بدرة ولا حبس ولا سوط وإنما حبس في تهمة ليتبين حال المتهم وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده
فكان عمر رضي الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب ويحرق حوانيت الخمارين والقرية التي تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية
وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزيز اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم لم يكن مثلها على عهد رسول الله ﷺ أو كانت ولكن زاد الناس عليها وتتابعوا فيها
فمن ذلك: أنهم لما زادوا في شرب الخمر وتتايعوا فيه وكان قليلا على عهد رسول الله ﷺ جعله عمر رضي الله عنه ثمانين ونفى فيه
ومن ذلك اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب
ومن ذلك: اتخاذه دارا للسجن
ومن ذلك: ضربه للنوائح حتى بدا شعرها
وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما
ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها
وذلك إما من التعزير العارض يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن وكما منع النبي ﷺ الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الإجتماع بنسائهم فهذا له وجه
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر
وإما لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث
فإن الحكم ينتفي لانتفاء شروطه أو لوجود مانعه والإلزام بالفرقة فسخا أو طلاقا لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد لكن تارة يكون حقا للمرأة كما في العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك وتارة يكون حقا للزوج كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله وتارة يكون حقا لله تعالى كما في تفريق الحكمين بين الزوجين وعند من يجعلهما وكيلين وهو الصواب وكما في وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفىء في مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: أنهما إذا تطاوعا على الإتيان في الدبر فرق بينهما
وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قاله أحمد رحمه الله وغيره
واحتجوا بأن النبي ﷺ أمر عبد الله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره بطلاق زوجته
فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد وأصل هذا: أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوعه إبليس حيث يفرح بذلك ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه ومفارقة طاعته بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية وغير ذلك من مفاسد الطلاق وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه: شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة وحرمه على غير ذلك الوجه فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة
فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش كما كان وإلا تركها حتى انقضت عدتها فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها وتجديد العقد عليها برضاها وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار
فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه
ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق
فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق
فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه
فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه
قيل: نعم لعمر الله قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله
قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى: حدثنا صالح بن مالك: حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي وعلى أن لا أكون قتلت النوائح
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول الله ﷺ جوازه ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة. هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله ﷺ وأبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة ولا يصلح الناس سواه ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لا بد لهم منهما: إما الدخول فيما لعن رسول الله ﷺ فاعله وتابع عليه اللعنة وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة
والذي شرعه الله تعالى ورسوله ﷺ ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأبى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده الراغبين عن تقواه وطاعته: أبواب الفرج واليسر والسهولة فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله كما قال تعالى في السورة التي بين فيها الطلاق وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. وقال فيها: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. وقال فيها: ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقا أن لا يجعل الله له مخرجا وأن لا يجعل له من أمره يسرا
وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس وابن مسعود لمن طلق ثلاثا جميعا: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال شعبة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
وقال الأعمش: عن مالك بن الحارث عن ابن عباس: أن رجلا أتاه فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجا فأندمه الله تعالى وأطاع الشيطان فقال: أفلا يحللها له رجل فقال: من يخادع الله يخدعه
والله تعالى قد جرت سنته في خلقه بأن يحرم الطيبات شرعا وقدرا على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فهذا نهاية أقدام الناس في باب الطلاق
يبقى أن يقال: فإذا خفي على أكثر الناس حكم الطلاق ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلا وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم: كيف يطلقون وماذا أبيح لهم من الطلاق وماذا يحرم عليهم منه أم يقال: لا يستحقون العقوبة لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعا ولا قدرا إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها والتعزيرات ملحقة بالحدود
فهذا موضع نظر واجتهاد وقد قال النبي ﷺ التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلا ثم علم به فندم وتاب فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتقاه ويجعل له من أمره يسرا
والمقصود: أن الناس لا بد لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها: أحدها: باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسوله ﷺ وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم
والثاني: باب الآصار والأغلال الذي فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه
والثالث: باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى واتخاذ آياته هزوا ما فيه ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 |