→ 32 | إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الباب الثالث عشر ابن قيم الجوزية |
34 ← |
فصل
قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور والنسخ الذي ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبي بخلاف تحريم ما كان مباحا فإنا نكون متعبدين بتحريمه
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة
فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقاها خالف منهم عن سالف
والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم
ولعمر الله إنه بما يبطل شبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم: هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم أو تغيير التحريم بالإباحة
والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة باباحته فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد وحاشا لله تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح وكلاهما باطل قطعا
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد ﷺ هي بعينها رد بها أسلافهم نبوة المسيح وتوارثوها كافرا عن كافر وقالوا لمحمد ﷺ كما قال أسلافهم للمسيح: لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد ﷺ فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول أو يكون المسيح رسولا ومحمد ﷺ ليس برسول
ويقال للأمة الغضبية أيضا: لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان ومكان دون مكان وحال دون حال
فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام
وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة وفي وقت دون وقت وفي مكان دون مكان وفي حال دون حال وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض.
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت
فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته: بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء
ومن العجب أن هذه الامة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم
فمن ذلك: أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا: اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا: أردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أو رشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا بابتنائها سبحانك ياباني يورشليم
فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم
وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون وكذلك صوم صلب هامان ليس شيء من ذلك في التوراة وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم
هذا مع أن في التوراة ما ترجمته لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام أو باجتهاد علمائهم وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزاني وهو نص التوراة وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم كما تكبر إبليس أن يسجد لأدم ورأى أن ذلك يغض منه ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه لئلا يلزم الحصر ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم ما شددوه على أنفسهم في باب الذبائح وغيرها مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام ولا هو في التوراة وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم وهم فقهاؤهم
ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشأم والعراق والمدائن مدارس وفقهاء كثيرون وذلك في زمن دولة البابليين والفرس ودولة اليونان والروم حتى اجتمع فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود
فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد وإنما ألفوه جيلا بعد جيل فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه وأن في الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده قطعوا الزيادة فيه ومنعوا منها وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه وإضافة شيء آخر إليه وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار
وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب وهم من كان على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الجلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم ومناكحتهم ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون بها على الله تعالى لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك وحرم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا إلى الأصنام لأنه قد سمي عليها اسم غير الله تعالى فأما الذبائح التي لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونها على اسمها
فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام ولا يذكرون اسمها عليها
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مواكلتهم ومخالطتهم خوف استدارج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم ووجدوا جميع هذا واضحا في التوراة اختلقوا كتابا في علم الذباحة ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا فإن خرج منها الهواء حرموها وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه طريفا يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام
وهذه التسمية هي أصل بلائهم
وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا والطريفا: هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرها من السباع وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى: وما أكل السبع
والدليل على ذلك: أنه قال في التوراة: ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوه وللكلب ألقوه
وأصل لفظ طريفا طوارف وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في قصة يوسف عليه السلام لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب افترسه وقال في الترواة: ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوا والفريسة إنما توجد غالبا في الصحراء وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوي أخبية يسكنون البر لأنهم مكثوا يترددون في التيه أربعين سنة وكانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى وهو طائر صغير يشبه السمان وفيه من الخاصية: أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخنزوانه والقساوة فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها
والمقصود: أن مشايخهم تعدوا في تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو دحيا ومعنى هذه اللفظة أنه طاهر وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو طريفا وتفسيرها: أنه حرام
قالوا: ومعنى نص التوراة ولحما فريسة في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه أي إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم
وفسروا قوله للكلب ألقوه أي لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب [ فرقتا اليهود ]
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود هم فقهاء اليهود وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبي وهم أصحاب حماقات وتنطع ودعاوى كاذبة يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم يقول: الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول فلما نظرت اليهود القراءون وهم أصحاب عانان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة وهذا الافتراء الفاحش والكذب البارد وانفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم وكذبوهم في كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم حيث ادعوا النبوة وأن الله تعالى كان يوحي إليهم كما يوحي إلى الأنبياء
وأما تلك الترهات التي ألفها الحاخاميم وهم فقهاؤهم ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين أطرحوها كلها وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التي يتولون ذباحتها البته ولم يحرموا سوى لحم الجدي بلبن أمه فقط مراعاة لنص التوراة لا تنضج الجدي بلبن أمه وليسوا بأصحاب قياس بل أصحاب ظاهر فقط وأما الفرقة الثانية فهم الربانون وهم أصحاب القياس وهم أكثر عددا من القرائين وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألة مسألهبالصوت الذي يسمونه بث قول
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات فصار أحدهم ينظر إلى من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان الهيم وينظر مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العذرة
وهذا من كيد الشيطان لهم ولعبه بهم فإن الحاخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم والإزراء عليهم ونسبتهم إلى قلة العلم وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات
وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا وأكثر تحريما قالوا: هذا هو العالم الرباني
ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد: أنهم مبددون في شرق الأرض وغربها فما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينهم والمبالغة في الاحتياط فإن كان من المتفقهة فهو يسرع في إنكار أشياء عليهم ويوهمهم التنزه عما هم عليهم وينسبهم إلى قلة الدين وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه وإلى أهل بلده ويكون في أكثر تلك الأشياء كاذبا وقصده بذلك إما الرياسة عليهم وإما تحصيل بعض مآربه منهم ولا سيما إن أراد المقام عندهم
فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم ويتأمل سكين ذابحهم وينكر عليهم بعض أمره ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي فتراهم معه في عذاب لا يزال ينكر عليهم المباح ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها حتى لا يشكون في ذلك
فإن قدم عليهم قادم آخر فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم تلقاه وأكرمه وسعى في موافقته وتصديقه فيستحسن مافعله الأول ويقول لهم: لقد عظم الله تعالى ثواب فلان إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشد سياج الشرع عندهم وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره
وإن كان القادم الثاني منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع وينسبونه إما إلى الجهل وإما إلى رقة الدين لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم الحلال هو المبالغة في الدين
وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم هذا إن كان القادم من فقهائهم
فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذي يعتمد والسنن التي يحدثها ويلحقها بالفرائض فتراهم مسلمين له منقادين وهو يحتلب درهم ويجتلب درهمهم حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت أو اشترى لبنا من مسلم ثلبه وسبه في مجمع اليهود وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة
فمن ذلك: أنهم إذا أقام أخوان في موضع واحد ومات أحدهما ولم يعقب ولدا فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل ولد حميها ينكحها وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه تقول: قد أبى ابن حمي أن يستبقى اسما لأخيه في إسرائيل ولم يرد نكاحي فيحضره الحاكم هناك ويكلفه أن يقف ويقول: ما أردت نكاحها فتتناول المرأة نعله فتخرجها من رجله وتمسكها بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه: كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه ويدعى فيما بعد: بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببني مخلوع النعل
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه فإن كان مبغضا لها زهدا في نكاحها أو كانت هي زاهدة في نكاحه مبغضة له استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم ويلقنونها أن تقول: أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل لم يرد نكاحي فيلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرهته وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها فيأمرونه بالكذب وأن يقوم ويقول: ما أرت نكاحها ولعل ذلك سؤله وأمنيته فيأمرونه بأن يكذب ولم يكفهم أن كذبوا عليه وألزموه أن يكذب حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق في وجهه ويسمون هذه المسألة البياما والجالوس
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية
فالقوم بيت الحيل والمكر والخبث
وقد كانوا يتنوعون في عهد رسول الله ﷺ بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم
فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم
فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظلحائط فأتاه الوحي فقام منصرفا وأخذ في حربهم وإجلائهم
ومكروا به وظاهروا عليه أعدائه من المشركين فظفره الله تعالى بهم
ومكروا به وأخذوا في جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم فقتله
ومكروا به وأرادوا قتله بالسم فأعلمه الله تعالى به ونجاه منه
ومكروا به فسحروه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله فشفاه الله تعالى وخلصه
ومكروا به في قولهم: آمنوا به وجه النهار واكفروا آخره يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوته فإنهم إذا اسلموا اول النهار إطمأن المسلمون إليهم وقالوا: قد اتبعوا الحق وظهرت لهم أدلته فيكفرون آخر النهار ويجحدون نبوته ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به
وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم
ولم يزالوا موضعين مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه ﷺ ورضي عنهم أعظم الخزي ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت
وكانوا يعاهدونه ﷺ ويصالحونه فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده
ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها وأذلها وقطعهم في الأرض انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان إلى التدبير بالمكر والدهاء والخيانة والخداع وكذلك كل عاجز جبان سلطانه في مكره وخداعه وبهته وكذبه ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أنه قال: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم
وهذا من غاية جهلهم وسفههم فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالي حيطانه الشوك حفظا له وحياطة وصيانة ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار كما يفعل الناس بالشوك ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم وأن هذا المنتظر يزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به
وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال فهم أكثر أتباعه وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه السلام يقتلهم ولا يبقي منهم أحدا
والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج في آخر الزمان فإنهم وعدوا به في كل ملة والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء لكسر الصليب وقتل الخنزير وقتل اعدائه من اليهود وعباده من النصارى وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم: لم تقول الأمم: أين إلههم انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يستحسنه إلا أمثالهم وتجرؤا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحمي لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه ولأبناء أنبيائه فينخونه للنباهة واشتهار الصيت
فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم وأنها تؤثر فيه وتحركه وتهره وتنخيه ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل فمن ذلك: قولهم في التوراة التي بأيديهم: وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين في الأرض وشق عليه وعاد في رأيه
وذلك عندهم في قصة قوم نوح
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر
وكثير منهم يقول: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها
وقالوا أيضا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بني إسرائيل وأنه قال ذلك لشمويل
وعندهم أيضا: أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى وقرب عليه قرابين وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت
وقد واجهوا رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات
فقال قائل منهم للنبي ﷺ إن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح فشق ذلك على النبي ﷺ فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب
وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك: فاصبر على ما يقولون فإن أعداء الرسول ﷺ نسبوه إلى ما لا يليق به وقالوا فيه ما هو منزه عنه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى حيث قال أعداؤه فيه مالا يليق
وكذلك قال فنحاص لأبي بكر رضي الله عنه: إن الله فقير ونحن أغنياء ولهذا استقرضنا من أموالنا فأنزل الله سبحانه وتعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن اغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق.
وقالوا أيضا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويقولون في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: يا إلهنا وإله آبائنا املك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة: الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطة
ويقولون في هذه الصلاة أيضا: وسيكون لله تعالى الملك وفي ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا واسمه واحدا
ويعنون بذلك: أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته وأمته فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه وتعالى خامل الذكر عند الأمم مطعون في ملكه مشكوك في قدرته
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يقولون بالقدح في الأنبياء وأذيتهم
وقد أذوا موسى عليه السلام في حياته ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك حيث يقول يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالت بنو إسرائيل: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه ا در فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال: فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس فقال الحجر حتى نظر إليه بنو إسرائيل وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا قال أبو هريرة: والله إن بالحجر لندبا ستة أو سبعة من أثر ضرب موسى الحجر وأنزل الله تعالى هذه الا ية يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا الآية
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد قالت بنو إسرائيل: إن موسى ا در وقالت طائفة: هو أبرص من شدة تستره
وقال ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ كان موسى حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه فا ذاه من ا ذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما ا فة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وذكر الحديث
وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن ابن عباس عن على بن أبي طالب في قوله تعالى: لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك وآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات فبرأه الله تعالى من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الرخم فجعله الله تعالى أصم أبكم
وقال الله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم
وتأمل قوله: وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فإنها جملة في موضع الحال أي أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم وذلك أبلغ في العناد
وكذلك المسيح قال: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم
وأما أذاهم لهم بالقتل والبغي فأشهر من أن يذكر
ولقد بالغوا في أذى النبي ﷺ بجهدهم بالقول والفعل حتى ردهم الله تعالى خاسئين
ومن قدحهم في الأنبياء: ما نسبوه إلى نص التوراة أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ونجى لوطا بابنتيه فقط ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه نسلا فقالت الصغرى للكبرى: إن أبانا شيخ ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر فهلمي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقي من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم
فنسبوا لوطا النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما فولدت إحداهما ولدا أسمته مواب يعني أنه من الأب والثانية سمت ولدها بني عمو يعني أنه من قبيلها
وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم
فإن فيها أن إبراهيم الخليل خاف في ذلك العصر أن يقتله المصريون حسدا له على زوجته سارة فأخفى نكاحها وقال: هي أختي علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا في ذلك الزمان فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يشرع ولا في زمن آدم عليه السلام
وعندهم أيضا في التوراة التي بأيديهم: قصة أعجب من هذه، وهي أن يهوذا بن يعقوب النبي زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها تامار فكان يأتيها مستدبرا فغضب الله تعالى من فعله فأماته فزوجها يهوذا من ولده الآخر فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه فكره الله تعالى ذلك من فعله فأماته أيضا فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا ويتم عقله حذرا من أن يصيبه ما أصاب أخويه فأقامت في بيت أبيها ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا وصعد إلى منزل [ يقال له تمناث ] ليحرس غنمه فلما أخبرت المرأة تامار بإصعاد حموها إلى المنزل لبست زي الزواني وجلست في مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة فوعدها بجدى ورهن عندها عصاه وخاتمه ودخل بها فعلقت منه فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن بإحراقها فبعثت إليه بخاتمه وعصاه فقالت: من رب هذين أنا حامل فقال: صدقت ومني ذلك واعتذر بأنه لم يعرفها ولم يستحل معاودتها ولا تسليمها إلى ولده وعلقت من هذا الزنا بفارص قالوا: ومن ولدها داود النبي
ففي ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام
وهذا كله عندهم وفي نص كتابهم وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر ومن العجب: أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا ويسمونهم ممزيريم واحدهم ممزير وهو اسم لولد الزنا لأن شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ممزيريم بزعمهم
قالوا: وكان محمد ﷺ قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة واجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين في القرآن إلى عبد الله بن سلام وأن من جملة ما دبره عبد الله بن سلام: أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين ممزيريم أولاد زنا
ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم
وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة كما جعل للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت
وليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم ورمتهم بالعظائم: أن ينسبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وبجل وكرم وعظم إلى ذلك وعداوته لهم وملاحمه فيهم وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم: معلوم غير مجهول
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر ولد بغية ونسبت أمه إلى الفجور
ونسبت لوطا إلى أنه وطىء ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال: يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء فقام حينئذ
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة
ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائهم وأنه داوى جماعة من المرضى في يوم السبت فأنكرت عليه اليهود ذلك فقال لهم: أخبروني عن الشاة من الغنم إن وقعت في بئر أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها قالوا: بلى قال: فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم فأفحموا
ويحكون أيضا عنه: أنه مشى مع قوم من تلاميذه في جبل ولم يحضرهم الطعام فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت ألستم تجيزون له قطع النبات قالوا: بلى قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه وليتغذوا به لا لقطع السبت
ومن العجب: أن عندهم في التوراة التي بأيديهم: لا يزول الملك من آل يهوذا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك
فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح ثم انقضى ملككم ولم يبق لكم اليوم ملك وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل
ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس وانقضت دولتهم وتفرق شملهم
فيقال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم
فيقولون: إنه ولد يوسف النجار لغية لا لرشدة وقد كان عرف اسم الله الأعظم يسخر به كثيرا من الأشياء
وعند هذه الأمة الغضبية أيضا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا وبه شق البحر وعمل المعجزات فيقال لهم: فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله فلم صدقتم نبوته وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم
فأجاب بعضهم عن الإلزام: بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم فعلمه بالوحي وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه وهو يسد عليهم العلو بنبوة موسى لأن كلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيلة أو بعلم فالآخر يمكن ذلك في حقه وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أجرى ذلك على أيديهما وأنه ليس من صنعهما فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين
وأيضا فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى عليه السلام وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بعد العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن وأعظمها معجزة كتاب باق غض طري لم يتغير ولم يتبدل منه شيء بل كأنه منزل الآن وهو القرآن العظيم وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا
فصل
ولا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد ﷺ ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد ﷺ
وبيان ذلك: أن يقال لهاتين الأمتين:
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة وكلمة قائمة وآيات باهرة ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم ولم ينفعه إيمانه به قال الله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلك آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته فبالضرورة يقول: لا فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصدقه فله جوابان: أحدهما: أن يقول: أبي عرفني ذلك وأخبرنى به
والثاني: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندي كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية والبحار والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها ! فإن اختار الجواب الأول وقال: إن شهادة أبي وإخباره إياى بنبوة موسى هي سبب تصديقى بنبوته
قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال فلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله
فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم كفاه معارضة غيره له بمثل قوله
فإن قال: أبي أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك فإن قال: أنا أعرف حال أبي ولا أعرف حال غيره قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك وأفضل وأعرف وبكل حال: فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثاني وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التي تضطرني إلى تصديقه
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قيل لك هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد ﷺ أضعاف أضعافكم بكثير والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وأنت لا تقبل خبر التواتر في ذلك وترد ه فيلزمك أن لا تقربه في أمر موسى عليه السلام
ومن المعلوم بالضرورة: أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض وإذا اشتهر النبي ﷺ في عصر وصحت نبوته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به وموسى ومحمد والمسيح في هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق وقطعها في الأرض وسلبها ملكها وعزها فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها بخلاف أمة عيسى عليه السلام فإنها قد انتشرت في الأرض وفيهم الملوك ولهم الممالك وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا !
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد ﷺ ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد ﷺ
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم آمنوا بهما على يد محمد ﷺ وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وبما جاء به فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد ﷺ ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين فمحمد ﷺ وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح لا اليهود ولا النصارى بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما فإنهما أخبرا بظهوره وبشرا به قبل ظهوره فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي مجيئه تصديق لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروه به ومطابقة ما جاءو به لما جاؤا به فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا في المكان ولا تلقى عنه ما جاء به وأخبر بمثل ما أخبر به سواء دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به ولا تلقى عنه ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني والمعنى الثاني: أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة لم يصدق من قبله بل كان يزري بهم ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 |