→ 18 | إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الباب الثالث عشر ابن قيم الجوزية |
20 ← |
المثال الحادي والسبعون: قال الإمام أحمد في رواية مهنى: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه وهو أحب إلي من المقاطعة يعني أن يقاطعه على كيل معين أو دراهم أو عروض
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز
وقال أحمد أيضا: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر: أن النبي ﷺ
أعطى خيبر على الشطر ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: إذا كان على النصف والربع فهو جائز
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه أنه جائز
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز
وقال في المغني: وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها
وحكى عن ابن عقيل المنع منه واحتج بأن رسول الله ﷺ نهى عن قفيز الطحان قال الشيخ وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته: وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها والسمك بينهما نصفين قال في المغني: فقياس قول أحمد صحة ذلك والسمك بينهما شركة وقال ابن عقيل: السمك للصائد ولصاحب الشبكة أجرة مثلها
ولو كان له على رجل مال فقال لرجل: اقبضه منه ولك ربعه أو قال: كل ثلثه أو ما قبضته منه فلك منه الربع أو الثلث فهو جائز
وكذلك لو غصبت منه عين فقال لرجل: خلصها لي ولك نصفها جاز أيضا
ولو غرق متاعه في البحر فقال لرجل: ما خلصته منه فلك نصفه أو ربعه جاز ولو أبق عبده فقال لرجل أو قال: من رده علي فله فيه نصفه أو ربعه أو شردت دابته فقال ذلك صح ذلك كله
قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لي هذا الزيتون بالسدس أو الربع أو اعصره بالثلث أو الربع أو اكسر هذا الحطب بالربع أو اخبز هذا العجين بالربع وما أشبه ذالك فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور
ولم يجوز الشافعي وأبو حنيفة شيئا من ذلك
وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعي ولك نصفه فذلك جائز وإن قال: احصد اليوم فما حصدت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وفي العينية أنه يجوز
فإن قال: القط زيتوني فما لقطت فلك نصفه فهو جائز عند ابن القاسم وروى سحنون أنه لا يجوز ولو قال: انقض زيتوني فما نقضت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب
فإن قال: اقبض لي المائة دينار التي على فلان ولك عشرها جاز عند ابن القاسم وابن وهب وعند أشهب لا يجوز
فلو قال: اقبض دينى الذي على فلان ولك من كل عشرة واحد ولم يبين قدر الدين لم يجز عند ابن وهب وأجازه ابن القاسم وأصبغ
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة والأجر فيها مجهول والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات بل من باب المشاركات وقد نص أحمد على ذلك
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر وقد دلت السنة على جواز ذلك كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله ﷺ ليأخذ نضو أخيه على أن له النعصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح وأصل هذا كله: أن النبي ﷺ دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأجمع المسلمون على جواز المضاربة وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل عليها بجزء من ربحها
فهذا محض القياس وموجب الأدلة وليس مع المانعين حجة سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة واستثنى قوم بعض صورها وقالوا: المضاربة على خلاف القياس لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤجراة لأنه في الإجارة يحصل على سلامة العوض قطعا والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر وقاعدة العدل في المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان في الرجاء والخوف وهذا حاصل في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر هذه الصور الملحقة بذلك فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما وإن تلفت تلفت عليهما وهذا من أحسن العدل
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطنى نهي عن قفيز الطحان وهذا الحديث لا يصح وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها فأما إذا كانت معلومة القفزان فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها صح حبا ودقيقا أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة وأما إذا كان دقيقا فقد شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر فيصيرشريكه بالجزء المسمى
فإن قيل فالشركة عندكم لا تصح بالعروض
قيل: بل أصح الروايتين صحتها وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره بخلاف هذا فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجا: يتضمن محذورين أحدهما: أن يكون طحن قدرالأجرة ونسجه مستحقا على العامل بحكم الإجارة ومستحقا له بحكم كونه أجرة وذلك متناقض فإن كونه مستحقا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به وكونه مستحقا له يقتضي مطالبة المؤجر به الثاني: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه وذلك ممتنع
قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة ولو سلم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك فإن جهة الاستحقاق مختلفة فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه فأي محذور في ذلك
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضا فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين وهذا أمر متصور شرعا وحسا
فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس وبالله التوفيق
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غدر أحدهما وإبطاله للعقد والرجوع إلى أجرة المثل
فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب أو نصفه ويقول: انسج لي باقيه بهذا القدر فيصيران شريكين في الغزل والحب فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح وكان بينهما على قدر ما شرطاه والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة فهلا أجازوه من أصله كذلك وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها دون صورها وألفاظها وبالله التوفيق
المثال الثاني والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه وله هو دين على آخر فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة وقد توارى عنه غريمه فيتعذر عليه الحوالة والوكالة
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله فيقول: وكلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا مما لي عليه وأجزت أمرك في ذلك فيقبل الوكيل ويشهد عليه شهودا ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود أو غيرهم: أن فلانا وكلني بقبض ماله على فلان وأن أجعله قصاصا بما لفلان علي وأجاز أمري في ذلك وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك واشهدوا أني قد جعلت الألف درهم التي لفلان على قصاصا بالألف التي لفلان موكلي عليه فتصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال وأراد الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين وهو قول أحمد في الصحيح عنه ومالك والشافعي وعند أبي حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب
فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه
فالحيلة له: أن يجىء برجل فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان ولا أدري كم له عليه ولا أدري: له عليه مال أم لا فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين وحكم على الغائب وعلى هذا الضامن المال بموجب ضمانه ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصما على الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع
المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعا له ويقر له في السر بعينه ويجحده في العلانية ويريد تخليص ماله منه
فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به ويشهد له على ذلك ببينة عادلة ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقتوا بذلك عند الأداء فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له السبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه ويسلم العين للمغصوب منه
وكذلك لو أقر بها المغصوب منه لرجل يثق به ثم باعها بعد ذلك للغاصب ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق
فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك هذه السلعة خشية هذا الصنيع ولكن آمر من يبتاعها منك لي فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته
فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثاني قبض المشتري فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أولا أولى ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب بالثمن الذي دفعه إليه
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالا وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل كما هو قول الشافعي وأبي حنيفة ويدل على التأجيل قوله تعالى: أوفوا بالعقود. وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون. وقوله وأوفوا بالعهد. وقوله ﷺ المسلمون عند شروطهم وقوله آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وقوله ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة بقدر غدرته وقوله لا تغدروا وقوله إن الغدر لا يصلح وقوله في صفة المنافق إذا وعد أخلف وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل
وعلى القول الآخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل
فالحيلة فيه أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها بقدر مدة التأجيل فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل ولا على المحال عليه إلى الأجل فإن الحوالة تنقل الحق
ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل لا على المحال عليه الثاني المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه فالقول قول المرتهن في قدره ما لم يدع أكثر من قيمته هذا قول مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: القول قول الراهن وقول مالك هو الراجح وهو اختيار شيخنا لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق والشهود التي تشهد به وقائما مقامه فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شىء فلم يكن في الرهن فائدة والله سبحانه قد قال في آية المداينة:. التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين وأمر الكاتب أن يكتب ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى وأمر من عليه الحق أن يملل ويتقي ربه فلا يبخس من الحق شيئا فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه أو عدم استطاعته فوليه مأمور بالإملاء عنه
وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذي لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة
ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمة ومللا
وأخبر أن ذلك أعدل عنده وأقوم للشهادة فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها وفي ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه وإلا لم يكن بالتعليل بقوله وأقوم للشهادة فائدة
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين وعدم الريب ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة
إذا كان بيعا حاضرا فيه التقابض من الجانبين يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه
ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك
ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملا وأداء أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق أو بأن يكتم الشاهد بعض الشهادة أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرا يضر بصاحب الحق أو يمطلاه ونحو ذلك أو هو نهي لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله
فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود
ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السفر في الغالب فقال: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود شاهدة مخبرة بالحق كما يخبر به الكتاب والشهود
وهذا والله أعلم سر تقييد الرهن بالسفر لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذي ينطق بالحق غالبا فقام الرهن مقامه وناب منابه وأكد ذلك بكونه مقبوضا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده
فلا أحسن من هذه النصيحة وهذا الإرشاد والتعليم الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان
فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم
والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولا
حافظا لدينه ولا بدلا من الكتاب والشهود فإن الراهن يتمكن من أخذه منه ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه ومن يجعل القول قول الراهن فإنه بصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر
فالذي نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة فإذا أراد الرجل حفظ حقه وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب
فالحيلة في قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته ويدفع إليه ما اتفقا عليه ويشهد الراهن أن الباقي من قيمته أمانة عنده أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه ويأمن ظلم الآخر له والله أعلم
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم وفي يده رهن بالألف فطلب صاحب الدين الغريم بالألف وقدمه إلى الحاكم وقال: لي على هذا ألف درهم وخاف أن يقول: وله عندي رهن بالألف وهو كذا وكذا فيقول الغريم: ماله علي هذه الألف التي يدعيها ولا شيء منها وهذا الذي ادعى أنه لي رهن في يده هو لي كما قال ولكنه ليس برهن بل وديعة أو عارية فيأخذه منه ويبطل حقه
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يدعي بالألف فيسأل الحاكم المطلوب عن المال فإما أن يقر به وإما أن ينكره فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه أو بيع في وفائه وإن أنكره وقال: ليس له علي شيء ولي عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة فليقل صاحب الحق للقاضي: سله عن هذا الذي يدعي علي: على أي وجه هو عندي أعارية أم غصب أم وديعة أم رهن فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه وكان صادقا وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن قال للقاضي: سله: على كم هو رهن فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين وطالب بحقه وإن جحد بعضه حلف على نفي ما ادعاه وكان صادقا المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها أو آجره دارا ولم يتسلمها أو زوجه ابنته ولم يسلمها إليه ثم ادعى عليه بالثمن أو الأجرة أو المهر فخاف إن أنكر أن يستحلفه أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به
فالحيلة في تخلصه: أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه أو إجارة دار لم تسلمها إلي أو نكاح امرأة لم تسلمها إلي أو كانت المرأة هي التي ادعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمي إلي نفسك فيه ولم تمكنيني من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به وإن كان غير ذلك فلا أقر به وهذا جواب صحيح يتخلص به
فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط والإقرار لا يصح تعليقه كما لو قال: إن شاء الله أو إن شاء زيد فله علي ألف
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فهذا إقرار صحيح ولا يلزمه قبل مجيء الشهر وكذا لو قال: إن شهد فلان علي بما ادعاه صدقته صح التعليق فإذا شهد به عليه فلان كان مقرا به ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع
وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه وكان إقرارا ناجزا وهذا ضعيف جدا فإن الكلام بآخره ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة فإن ذلك يغير الكلام ويخرجه من العموم إلى الخصوص والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد فهو أولى بالصحة
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار كقوله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم.
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح وجها واحدا وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار وعلى هذا فلو قال: له علي ألف مؤجلة صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلا
وقيل: القول قول خصمه في حلوله وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لتأجيله وهذا ظاهر البطلان فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب أو استثنى منها شيئا
وكذا لو قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو أجرة عن دار لم أتسلمها أو قال: هلك قبل التمكن من قبضة على أصح الوجهين لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا
وكذا لو قال: كان له علي ألف فقضيته لم يلزمه لأنه إنما أقر به في الماضي لا في الآن هذا منصوص أحمد وليس الكلام بمتناقض في نفسه فيكون بمنزلة قوله: له علي ألف لا تلزمني والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه فلا يقبل منه إلا ببينة وهذا قول الأئمة الثلاثة
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح فيطالب برد الجواب وعلى هذا فإذا قال: له علي ألف قضيته إياه ففيه ثلاث روايات منصوصات
إحداهن: أنه غير مقر كما لو قال: كان له علي والثانية: أنه مقر مدع للقضاء فلا يقبل منه إلا ببينة والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء ولو أقام به بينة بل يكون مكذبا لها وعلى هذا إذا قال: كان له علي ولم يزد على هذا فهو مقر وخرج أنه غير مقر من نصه على أنه إذا قال: كان له علي وقضيته: أنه غير مقر وهو تخريج في غاية الصحة فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته فإن هذا دعوى منه للقضاء وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال وهو لم يقر به
والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلوما فالحيلة في تخصله أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غير مقر به وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به كان جوابا صحيحا ولم يكن مقرا على الإطلاق
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه بل يجبر على تسليمه إلى المشتري ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدىء بالتسليم جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما وإن كان دينا أجبر البائع على التسليم ثم يجبر المشتري على دفع الثمن فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن وإن كان غائبا عن البلد فوق مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ وإن كان دونها فهل يحجر عليه أو يثبت للبائع الفسخ على وجهين وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله هذا منصوص أحمد والشافعي وللشافعية وجه أنه تباع السلعة ويقضي دينه من ثمنها فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن حتى يقبضه هذا هو موجب العدل وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاما أو شرابا فيستهلكه ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه
وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهما منه فله حبس المبيع كله على باقي الثمن كما نقول في الرهن
وفيه قول آخر: أنه يملك أنه يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن فإذا سلم بعض الثمن ملك تسلم ما يقابله
والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة فملك حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين والأول هو الصحيح لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن ولم يرض بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم ثم يحال على تقاضي المشتري
فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه ومن غير البائع بل رهنه على ثمنه أولى فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى
وأيضا فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض فجوازه من البائع أولى لأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن أو من الأجنبي
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف فيكون من ضمان البائع وكونه رهنا يقتضي أن يكون من ضمان راهنه فتنافى الأمران حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة وهذا بخلاف رهنه من أجنبي قبل القبض فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبي ومضمونا له من البائع ولا تنافي بين أن يكون مضمونا له من شخص ومضمونا عليه لغيره كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثاني ومضمونة له من المؤجر الأول وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها وهي مضمونة له على البائع ومضمونة عليه للمشتري الثاني
فإن قيل: هذا هو الفرق الذي بني عليه هذا القول ولكن يقال: أي محذور في ذلك وأن يكون مضمونا له وعليه وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة ليس كذلك فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريا فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه ومضمون عليه من جهة كونه راهنا فإذا تلف تلف من ضمانه حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضومنا له وعليه من جهة واحدة كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره فتكون المنافع مضمونة عليه وله فأي محذور في ذلك
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن فمن ضمان من يكون فالبائع يقول للمشتري: تلف من ضمانك لأنه رهن والمشتري يقول: تلف من ضمانك لأنه مبيع لم يقبض وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه كما لو حبسه من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة وأن لا يعرضه للبطلان
فالحيلة له: أن يقبضه من البائع ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه فيصح الرهن ولا يتوالى هناك ضمانان فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري ولا يسقط الثمن عنه فإن خاف البائع أن يغيب المشتري أو يؤخر فكاك الرهن كتب كتابا وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه وما بقى منه فهو أمانة في يده
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط كتب في الكتاب: أنه قد وكله الآن ويعلعق تصرفه فيه بالبيع بمجىء الوقت فيعلق التصرف وينجز التوكيل
فإن خاف أن يعزله الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه فالحيلة له: أن يوكله وكالة دورية عند من يرى ذلك فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل وإن شاء أن يقول: على أني متى عزلته فلا حق لي عنده ولا دعوى وما ادعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواي باطلة والله أعلم
المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينقق عليها ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة والحس والعرف يكذبها لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها ولا يطالبه برد الجواب فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة وفي الصحيح عنه ﷺ من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة وفي الصحيح أيضا عنه ﷺ من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار
فلا يجوز لأحد حاكم ولا غيره أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له وأن دعواه كاذبة ففي سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة
ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هي التي كانت تنفق على نفسها وتكسو نفسها هذه المدة كلها مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذي كان ينفق عليها ويكسوها مع شهادة العرف والعادة له ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة وغير ذلك فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدي عدل على الإنفاق وعلى الكسوة أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها أو يتصدى هو لخدمتها وشراء حوائجها فيكون هو العاني الأسير المملوك وهي المالكة الحاكمة عليه وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة والمعاشرة بالمعروف فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة وأبعدها من المعروف
ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك !
فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج ولا يمكن الزوج أحدا يدخل عليها وهي في منزله عدد سنين تأكل وتشرب وتلبس كيف لا يسألها الحاكم: من الذي كان يقوم لك بذلك ومتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك ومتى تركه كان تاركا للحق فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك وإن قالت: أنا الذي كنت أطعم نفسي وأكسوها في هذه المدة كان كذبها معلوما ولم يقبل قولها فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها وهو يدعي أنه هو الذي فعل هذا الواجب وقام به وأسقطه عن نفسه ومعه الظاهر والأصل
أما الظاهر: فلا يمكن عاقلا أن يكابر فيه بل هو ظاهر ظهورا قريبا من القطع بل يقطع به في حق أكثر الناس وأما الأصل: فهو أيضا من جانب الزوج فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها وهي تضيف ذلك إلى نفسها أو إلى أجنبي وهو يدعي أنه هو الذي قام بهذا الواجب فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها وهي تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة بل بطريق الأصالة
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل
ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين فيقول: وصل إلي الدين الذي لي لكن ليس من جهتك بل غيرك أداه عنك فهل يقبل قوله ههنا أحد ويقال: الأصل بقاء الدين في ذمته
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء فإنها مقرة بوصول النفقة إليها ولو أنكرتها لكذبها الحس ومدعية أن وصول ذلك إلي لم يكن من جهتك فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعا ولهذا لا يقبلها مالك وفقهاء أهل المدينة وقولهم هو الصواب والحق الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه
وأي قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهي لا تدخل ولا تخرج ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه فيؤخد ذلك كله منه ويحبس على الباقي ويجعل دينا مستقرا في ذمته تطالبه به متى شاءت وهي تعلم كذب دعواها ووليها يعلم ذلك وجيرانها والله وملائكته والذي يساعدها ويخاصم عنها ولما علم فقهاء العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتي به شريعة أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضي الزمان فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول وأشموهم رائحة الحياة ونفسوا عنهم بعض الكرب ولقد أقام رسول الله ﷺ بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة فما ألزم زوجا قط بنفقة وكسوة ماضية ولا ادعتها عنده امرأة وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده وكذلك عصر الصحابة جميعهم وعصر التابعين ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك ولا على صداق امرأته مع صيانة نسائهم ولزومهن بيوتهن وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات والأزواج في الحبوس وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن
فوالله لو رأى هذا رسول الله ﷺ لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره
وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها
ومن ههنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزا لدار متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريا عن ذلك كله ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويزعم أنها له ويريد أن يقيم بذلك بينة فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينة وتقر الدار بيد حائزها
قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة قال تعالى: وأمر بالعرف. وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى وغيرها قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين أو شاهد ويمين أو مجرد النكول أو الرد
وأيضا فإن البينة على المدعي والبينة هي كل ما يبين الحق والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة ولا يدخل عليها أحد ولا هى ممن تخرج تشتري لها ما تأكل وتلبس
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها واجتياح ماله كله وسلبه نعمة الله عليه وجعله مسكينا ذا متربة وجعله أسيرا لها ينافي ما ادعت به بل هذا من أنكر المنكر ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحا
وأيضا: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته فالشارع جعل إليه ذلك وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتيها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه كما قال تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما واززقوهم فيها واكسوهم. قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم
فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم كما جعل ولي الطفل قواما عليه والقوام على غيره أمير عليه ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواما على المرأة فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج كانت هي القوامة
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية حتى في مالها فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لما لها ونفسها فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه وقد سوى النبي ﷺ بين نفقة الزوجات ونفقة المماليك وجعل المرأة عانية عند الزوج والعاني: هو الأسير وهو نوع من الرقفقال في المرأة: تطعمها مما تأكل وتكسوها مما تلبس وكذلك قال في الرقيق سواء فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده بحكم قيامه عليهم ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاما وإداما ولا دراهم أصلا وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع
وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا أحد من الأئمة الأربعة
فإن الناس لهم قولان منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعي ومنهم من يردها إلى العرف وهم الجمهور ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتة
ثم إن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب أو الواجب بالعرف ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا ولأقوال جميع السلف والأئمة وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشتري لها طعاما وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج وجعله كالأجير والأسير معها
وبالجملة: فمبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة ومن البينة تارة ومن النكول مع يمين الطالب المردودة أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهرا فهو بينة وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه حيث لا بينة ولا إقرار ولا نكول ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية
فإذا كان في جانب المدعي بينة شرعية قدم لقوة الظن في جانبه بالبينة وكذلك إذا كان في جانبه قرينة ظاهرة كاللوث قدم جانبه
ولذلك قدم جانبه في اللعان إذا نكلت المرأة فإنها ترجم بأيمانه لقوة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين
وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تزف إلى الزوج ليلة العرس وإن لم يكن رآها ولا وصفت له من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد اكتفاء بالظن الغالب بل بالقطع المستفاد من شاهد الحال
وكذلك يجوز الأكل من الهدي المنحور إذا كان بالفلاة ولا أحد عنده اكتفاء بشاهد الحال
وكذلك درج السلف والخلف على جواز أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبي ويخرجه من البيت: من كسرة ونحوها اعتمادا على شاهد الحال
وكذلك يكتفى بشاهد الحال في بيع المحقرات بالمعاطاة وهو عمل الأمة قديما وحديثا
واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان وجعله دليلا على رضاها اكتفاء بشاهد الحال واكتفت الأمة في الاعتماد على المعاملات والهدايا والتبرعات بكونها بيد الباذل لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهرا واكتفت بمعاملة مجهول الحرية والرشد وإقراره وأكل طعامه وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله اعتمادا على شاهد الحال والظن الغالب واكتفى الشارع بقول الخارص الواحد في محل الظن والخرص نظرا إلى الظن المستفاد من خرصه واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم
وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين في جزاء الصيد واكتفى بواحد في الخرص
واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده أو بقول اثنين وكذلك القائف أو القائفين واكتفت بقول المؤذن الواحد
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير وميل طبعه إلى من ادعاه من رجلين أو أكثر اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه وهو من أضعف الظنون ولذلك كان في آخر رتب الإلحاق عندهم عند عدم القائف
وكذلك الاعتماد في وجوب دفع اللقطة أو جوازه على الظن المستفاد من وصف الواصف لها وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة والنجاسة والقبلة والاعتماد على قول الكيال والوزانوقال كثير من الفقهاء يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين إلا أن يعدلا إذ الغالب من المستورين العدالة
فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم بمثل هذا الظن وقالوا تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره اعتمادا على ظن الرشد والاختيار
وقالوا: إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعي أو بين ملكه وبين موات اختص به المدعي لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالا بدواخل وترصيف اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه إذ معه دلالتان إحداهما: الإتصال والثانية: التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما ومن الطرف الآخر في الملك الآخر اشتراكا فيه: لتساويهما في الدلالتين
وقالوا: إن الأبواب المشرعة في الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك في الدرب إلى حد كل باب منها فيكون الأول شريكا من أول الدرب إلى بابه والثاني شريكاإلى إلى بابه والذي في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه قولا واحدا وإلى آخر الدرب على الصحيح وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق وأنه بحق
وقالوا: إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتمادا على غلبة الظن بذلك وأنها وضعت باستحقاق وكذلك القنوات والجداول الجارية في ملك الغير دالة على اختصاصها بأرباب المياه بناء على الظن المستفاد من ذلك وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق
ومن ذلك: دلالة الأيدي على الاستحقاق اعتمادا على الظن الغالب مع القطع بكثرة وضع الأيدي عدوانا وظلما ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه إلى يد مستأجره كالأراضي والدواب والحوانيت والرباع والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها وقد اعتبرتم اليد وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا واعترف بأن جوابه مشكل جدا ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها
ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة في الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة
قالوا: لأن وازع المقر طبعي ووازع الشهود شرعي والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعي ولذلك يقبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر لقيام الوازع الطبعي
ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه لكونه فرعه ولما كان الوازع الشرعي عاما بالنسبة إلى جميع الناس كان حجة عامة فإن خوف الله يزع الشاهد عن الكذب في حق كل أحد فكان قوله حجة عامة لكل أحد ولما كان وازع الكذب مختصا بالمقر قصر عليه فهو خاص قوى والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار قوية بالنسبة إلى الأيدي وإلى ما ذكرناه من الدلالات
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها
فمن أسبابها: الاستصحاب واطراد العادة أو كثرة وقوعها أو قول الشاهد أو شاهد الحال ولا يقع في الظنون تعارض وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها فإذا تعارضت أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء وإن وجد الظن في أحد الطرفين حكم به والحكم للراجح لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه فإذا تعارض سببا ظن وكان كل واحد منهما مكذبا للآخر تساقطا كتعارض البينتين والأمارتين وإن لم يكن كل واحد منهما مكذبا للآخر عمل بهما على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان وعبد ممسك بيديه اثنان ودار فيها ساكنان وخشبة لها حاملان وجدار متصل بملكين ونظائر هذا
فإن كان أحدهما أرجح من الآخر عمل بالراجح كالشاهد مع البراءة الأصلية ومع اليد يقدم عليهما لرجحانه
ولما كانت اليد لها مراتب في القوة والضعف كانت يد اللابس لثيابه وعمامته وخفه ومنطقته ونعله: أقوى من يد الجالس على البساط والراكب على الدابة ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدي ويد من هو داخل الحمام والخان أضعف من هذا كله قدم أقوى الأيدي على أضعفهما
فلو كان في الدار اثنان وتنازعا فيها وفي لباسهما الذي عليهما جعلت الدار بينهما لاستوائهما في اليد وكان القول قول كل منهما في لباسه المختص به لقوة يده بالقرب والاتصال ولو تنازع الراكب والسائق والقائد قدمت يد الراكب وكذلك قال الجمهور لو تنازع الزوجان في متاع البيت أو الصانعان في حانوت كان القول قول من يدعي منهما ما يصلح له وحده لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به
وكذلك لو رأينا رجلا شريفا حاسر الرأس وأمامه داعر على رأسه عمامة وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه
وكذلك فقيه له كتب في داره وامرأته غير معروفة بشيء من ذلك البتة فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول ومن الظن المستفاد من اليد بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتب كثيرة بل تكاد تقرب من القطع كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين ويبيح شتمهما وضربهما
وهل تقديم قول المدعي في القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصيلة لقوته
وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة بقوله إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. وسمى الله سبحانه ذلك آية وهي أبلغ من البينة فقال ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر وذلك يدل على رضاه به
ومن هذا: حكم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان فقضى به داود للكبرى فخرجتا على سليمان فقصتا عليه القصة فقال سليمان عليه السلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبي الله هو ابنها فقضى به للصغرى ولم يكن سليمان ليفعل ولكن أوهمهما ذلك فطابت نفس الكبرى بذلك استرواحا منها إلى راحة التسلي والتأسي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها ولم تطب نفس الصغرى بذلك بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها فناشدته أن لا يفعل استرواحا إلى بقاء الولد ومشاهدته حيا وإن اتصل إلى الأخرى
وتأمل حكم سليمان به للصغرى وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه وبطلانه لم يلتفت إليه ولم يحكم به على المقر وكان وجوده كعدمه وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره
وكذلك إذا غلط المقر أو أخطأ أو نسي أو أقر بما لا يعرف مضمونه لم يؤاخذ بذلك الإقرار ولم يحكم به عليه كما لو أقر مكرها
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين لكون الحلف لم يقصد موجبها وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب والغالط والمخطىء والناسي والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه فلا يؤاخذ به
والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعي عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها أو مدة مقامها عنده إذا تبين كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها فضلا عن مطالبته برد الجواب فله طرق في التخلص من هذه الدعوى
أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران
الثاني: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها ويكسوها في هذه المدة
فإن ادعت أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم تسمع دعواها وكانت الدعوى لذلك الغير ولا يقبل قولها على الزوج أن غيره قام بهذا الواجب عنه وهذا مما لا خفاء به ولا إشكال فيه وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسي قال الزوج: سلها: هل كانت هي التي تدخل وتخرج تشتري الطعام والإدام فإن قالت: نعم ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار
وإن قالت: كنت أوكل غيري في ذلك ألزمت ببيانه وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحر للحق لا تأخذه فيه لومة لائم فليعدل إلى التحيل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبه إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به ولا يعدل إلى الجواب المفصل فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة وأمكنه إقامة البينة بذلك سقطت نفقتها في مدة النشوز وإن لم يمكنه إقامة البينة وادعى عدم تمكينها له من الوطء وادعت أنها مكنته فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان والأصل عدمه وهذا إنكار لاستيفاء حقه والأصل عدمه فتأمله
فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يخبىء شاهدي عدل بحيث يسمعان كلامها ولا تراهما ثم يدفع إليها مالا أو ما ترضى به ويتلطف بها ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حل حتى تطيب أنفسنا ولعل الموت يأتي بغتة ونحو ذلك من الكلام
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة وأنه يرضيها من الآن ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك ويكتمه منها فإن أعجله الأمر عن ذلك وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكي أو حنفي بادر إلى ذلك
وبالجملة: فالحازم من يستعد لحيلهن ويعد لها حيلا يتخلص بها منها وهذا لا بأس به ولا إثم فيه ولا في تعليمه فإن فيه تخليص المظلوم وإغاثة الملهوف وإخزاء الظالم المعتدي والله الموفق للصواب وإنما أطلنا الكلام في هذا المثال لشدة حاجة الناس إلى ذلك ولعموم البلوى وكثرة الفجور وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها وجعل القول قولها وفي ذلك كفاية وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 |