الرئيسيةبحث

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/29

فصل

ومن تلاعبه وكيده تلاعبه بالثنوية وهم طائفة قالوا الصانع اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين مدركين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فالنور فاضل حسن نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخيرات والمسرات والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر

والظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة مضرة منها الشر والفساد

ثم اختلفوا فقالت فرقة منهم إن النور لم يزل فوق الظلمة

وقالت فرقة بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر

وقالت فرقة النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه

وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان وخامس هو الروح فأبدان النور الأربعة النار والنور والريح والماء وروحه النسيم ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان

وأبدان الظلمة الأربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت

وبعضهم يقول الظلمة تتولد شياطين والنور يتولد ملائكة والنور لا يقدر على الشر ولا يجيء منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجي منها

ولهم مذاهب سخيفة جدا

وفرض عليهم صوم سبع العمر وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح ألبتة

ومن شريعتهم أن لا يدخروا إلا قوت يوم وتجنب الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنا والسرقة

واختلفوا هل الظلمة قديمة أو حادثة

فقالت فرقة منهم هي قديمة لم تزل مع النور

وقالت فرقة بل النور هو القديم ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة

فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل:

أحدهما أن شر الموجودات وأخبثها وأردأها كفؤ لخير الموجودات وضد له ومناوء له يعارضه ويضاده ويناقضه دائما ولا يستطيع دفعه

وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى فإنهم جعلوها مملوكة له مربوبة مخلوقة كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك

والأصل الثاني أنهم نزهو النور أن يصدره منه شر ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين وربين وخالقين فجمعوا بين الكفر بالله تعالى وأسمائه وصفاته ورسله وأنبيائه وملائكته وشرائعه وأشركوا به أعظم الشرك

وحكى أرباب المقالات عنهم أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانا فتأذى بها فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب من بينهما هذا العالم المشتمل على النور والظلمة فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة قال: وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم

وقال بعضهم: إن الباري سبحانه لما طالت وحدته استوحش ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته فاستحالت ظلمة فحدث منها إبليس فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات فشرع إبليس في خلق الشر وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصهم: إثبات القدماء الخمسة: الباري والزمان والخلاء والهيولي وإبليس فالباري خالق الخيرات وإبليس خالق الشرور وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال: بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات ورسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم

وقال: أنا أقول: إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان: قدماء وأن العالم محدث

فقيل له: فما العلة في إحداثه

فقال: إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم

ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه

وفي ذلك من قوة الإيمان وظهور جلالته ومعرفة قدره وتمام نعمة الله تعالى على أهله به ومعرفة قدر خذلانه للعبد وإلى أي شيء يصيره الخذلان حتى يصير ضحكة لكل عاقل فأي ضلال وأي خذلان أعجب ممن أن يفني عمره في النظر والبحث وهذا غاية علمه بالله تعالى وبالمبدأ والمعاد

فصل

والمجوس تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض ويقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يصيرون إليها وهم فرق شتى منهم: المزدكية أصحاب مزدك الموبذ والموبذ عندهم: العالم القدوة وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها ومنهم الخرمية: أصحاب بابك الخرمي وهم شر طوائفهم لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام وعلى مذهبهم: طوائف القرامطة والإسماعلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار كما ستأتي ترجمتهم فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل

فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع

ذكر تلاعبه بالصابئة

هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر قال الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك

وذكرهم أيضا في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك كما في قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة

فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد وهما: المجوس والمشركون في آية الفصل ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد

وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل وهم أهل دعوته وكانوا بحران فهي دار الصابئة وكانوا قسمين صائبة حنفاء وصابئة مشركين والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم

ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى والبيع لليهود فلهم هيكل كبير للشمس وهيكل للقمر وهيكل للزهرة وهيكل للمشتري وهيكل للمريخ وهيكل لعطارد وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى

ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة ويصورونها في تلك الهياكل ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين ولها صلوات خمس في اليوم والليلة نحو صلوات المسلمين

وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون

وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابىء صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة وكان يصوم مع المسلمين ويعيد معهم ويزكي ويحرم المحرمات وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ولهذا سموا صابئة أي خارجين فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق وكانت قريش تسمي النبي ﷺ الصابىء وأصحابه الصبأة يقال: صبأ الرجل بالهمز إذا خرج من شيء إلى شيء وصبا يصبو إذا مال ومنه قوله: وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن أي أمل والمهموز والمعتل يشتركان فالمهموز: ميل عن الشيء والمعتل: ميل إليه واسم الفاعل من المهموز: صابىء بوزن قارىء ومن المعتل: صاب بوزن قاض وجمع الأول: صابئون كقارئون وجمع الثاني: صابون كقاضون وقد قرىء بهما

والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم فالحنفاء منهم شاركوا أهل الاسلام في الحنيفية والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام ورأوا أنهم على صواب وأكثر هذه الأمة فلاسفة والفلاسفة يأخذون من كل دين بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا

ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم والمقصود: أن الصابئة فرق فصابئة حنفاء وصابئة مشركون وصابئة فلاسفة وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا

وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن العيوب والنقائص ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه فهم أربابنا وا لهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الا لهة فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا من علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلهكهم، وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات والزكوات وذبح القرابين والبخورات والعزائم فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل فيكون حكمنا وحكمهم واحدا ونحن وإياهم بمنزلة واحدة

قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة وأشكالنا في الصورة يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا

وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين

فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسل بدرجتين وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقي بمنزلة الأنبياء ولم يدعوا أنهم فوقهم

والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى ا خرهم

أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه من إله والثاني: الإيمان برسله وما جاؤا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرة وأبينها ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفولها وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب كما لا يكون إلا غالبا قاهرا غير مغلوب ولا مقهور نافعا لعباده يملك لعابده الضر والنفع فيسمع كلامه ويرى مكانه ويهديه ويرشده ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه وذلك ليس إلا لله وحده فكل معبود سواه باطل

فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا

وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفتقرة إليها ولا قوام لها إلا بها فهي محتاجة إلى محل تقوم به وفاطر يخلقها ويدبرها ويربها والمحتاج المخلوق المربوب المدبر لا يكون إلها فحاجه قومه في الله ومن حاج في عبادة الله فحجته داحضة فقال إبراهيم عليه السلام: أتحاجونىع في الله وقد هدان وهذا من أحسن الكلام أي أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق حتى استبان لي كالعيان وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته وأن ا لهتكم لا تصلح للعبادة وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والا خرة فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن العمى إلى الإبصار ومجادلتكم إياي في الاله الحق الذي كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك

فخوفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء فقال الخليل: ولا أخاف ما تشركون به فإن ا لهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال: إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء منقطع والمعنى: لا أخاف ا لهتكم فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إن شاء ربي شيئا نالني وأصابني لا ا لهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئا وربي له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علما فمن أولى بأن يخاف ويعبد: هو سبحانه أم هي

ثم قال: أفلا تتذكرون فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة والعلم التام ثم قال: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزعل به عليكم سلطانا وهذا من أحسن قلب الحجة وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله وبطلان مذهبه فإنهم خوفوه با لهتهم التي لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه ا لهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف فريق الموحدين أم فريق المشركين

فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصح منه فقال: الذين ا منوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون

ولما نزلت هذه الآية شق أمرها على الصحابة وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم

فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن وللمشركين بضد ذلك وهو الضلال والخوف ثم قال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

قال أبو محمد بن حزم وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا الحوادث وبدلوا شرائعه فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه اليوم وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفية السمحة التي أتانا بها محمد رسول الله ﷺ من عند الله تعالى وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء

قلت هم قسمان صابئة مشركون وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات وقد حكى الشهرستاني بعض مناظراتهم في كتابه

فصل

في ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم 45: 24 وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر

وهؤلاء فرقتان فرقة قالت إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها

وفرقة قالت إن الأشياء ليس لها أول ألبتة وإنما تخرج من القوة إلى الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر

وقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه

وهؤلاء هم المعطلة حقا وهم فحول المعطلة وقد سرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا في سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه

فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها في الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل العارفون بحقيقة ما جاء به المتمسكون به دون ما سواه ظاهرا وباطنا

فداء التعطيل وداء الإشراك وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به أو شيء منه هو أصل بلاء العالم ومنبع كل شر وأساس كل باطل فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة أو من بعضها

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة... وإلا فإني لا أظنك ناجيا

فصل

فسرت هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة لا في جميعهم فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف أصله فيلاسوفا أي محبة الحكمة ففيلا هي المحب وسوفا هي الحكمة والحكمة نوعان قولية وفعلية فالقولية قول الحق والفعلية فعل الصواب وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها

وأصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله تعالى قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام 38: 20 وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال عن المسيح عليه السلام 3: 48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقال عن يحيى عليه السلام 19: 12 وآتيناه الحكم صبيا والحكم هو الحكمة وقال لرسوله محمد ﷺ 4: 113 وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وقال 2: 219 يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقال لأهل بيت رسوله 33: 33 واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة

فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله وجمعها لمحمد ﷺ كما جمع له من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله فلو جمعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءا يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته

والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يجب الحكمة ويؤثرها

وقد صار هذا الإسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه

وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لاتباع إرسطو وهم المشاءون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين

وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق العالم وفوق السموات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم أبو الوليد بن رشد في كتابه مناهج الأدلة

فقال فيه القول في الجهة

وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي ﷺ حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدةإبطال للشرائع

فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه في السماء فوق العالم

والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك أما جهلا وإما عمدا وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس متطفل

وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرره غاية التقرير وقال: لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك وأن نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته قال: والإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه أولى

فصل

وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم العارفون فيهم معظمين للرسل والشرائع موجبين لاتباعهم خاضعين لأقوالهم معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل ويقولون: علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها وكانوا يقرون بحدوث العالم وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره وقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء

وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجودات وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات

فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ

وقد حكى ذلك أبو البركات وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها

فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قبلوه وما خالفه لم يعبئوا به شيئا

ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر

وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني كما أن العروض ميزان الشعر وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته كثيرا وآخر من صنف في ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية ألف في رده وإبطاله كتابين كبيرا وصغيرا بين فيه تناقضه وتهافته فساد كثير من أوضاعه ورأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي

والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني: أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق وبسطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها وبالغ في ذلك وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه متقيدا بشريعة الإسلام نسبوه إلى الجهل والغباوة فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام

فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط

ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الاسلام ببعيد

فاعلم أن الله سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم ولسانهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل: أبو علي بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجودات أصلا لا يعلم عدد الأفلاك ولا شيئا من المغيبات ولا له كلام يقوم به ولا صفة

ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وإنما غايته ان يفرضه الذهن

ويقدره كما يفرض الأشياء المقدرة وليس هذا هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرفته الأمم بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وبين رب العالمين وإله المرسلين من الفرق ما بين الوجود والعدم والنفي والإثبات فأي موجود فرض كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة ونحتته أفكارهم بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود وهذا الرب ليس له وجود ويستحيل وجوده إلا في الذهن هذا وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجبا ووجودا ممكنا هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط وصرح بأنه لا يعقل شيئا ولا يفعل باختياره وأما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه فإنما هو من وضع ابن سينا فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم فهم في غلوهم في تعطيلهم ونفيهم أسد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء

فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله تعالى

وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة ولا يؤمنون بهم وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نورانية هي العقول عندهم وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه ولا فوق السموات ولا تحتها ولا هي أشخاص تتحرك ولا تصعد ولا تنزل ولا تدبر شيئا ولا تتكلم ولا تكتب أعمال العبد ولا لها إحساس ولا حركة البتة ولا تنتقل من مكان إلى مكان ولا تصف عند ربها ولا تصلي ولا لها تصرف في أمر العالم البتة فلا تقبض نفس العبد ولا تكتب رزقه وأجله وعمله ولا عن اليمين ولا عن الشمال قعيد كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال: الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل

وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك فإنه ما قال شيئا ولا يقول ولا يجوز عليه الكلام ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص من استكملها فهو نبي: أحدها: قوة الحدس يحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة الثانية: قوة التخيل والتخييل بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها ويخيلها إلى غيره

الثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين وابن هود وأضرابهما والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع بل من أشرف الصنائع كالسياسة بل هي سياسة العامة وكثير منهم لا يرضى بها ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة والنبوة: فلسفة العامة

وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات وانتثار الكواكب وقيامة الأبدان ولا يقرون بأن الله خلق السموات والآرض في ستة أيام وأوجد هذا العالم بعد عدمه

فلا مبدأ عندهم ولا معاد ولا صانع ولا نبوة ولا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء

وحسبك جهلا بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب واستكمل بغيره وحسبك خذلانا وضلالا وعمى: السير خلف هؤلاء وإحسان الظن بهم وأنهم أولوا العقول

وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم: ما قالوه في سلسلة الموجودات وصدور العالم عن العقول والنفوس إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه ولا إرادة وأنه لم يصدر عنه إلا واحد فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصلوه وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأي الذي هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولي الألباب مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع وهيهات وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة

فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب

والرازي وفروخه لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة غير طريقه

ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا قد حكاها أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته الكبيرة وأبي عيسى الوراق والحسن بن موسى النوبختين وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابن سينا ويغلطه في كثير من المواضع وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34