الرئيسيةبحث

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/32

فصل

في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود قال الله تعالى في حقهم ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب﴾ وقال تعالى: ﴿قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون﴾

وقال تعالى: ﴿ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون﴾

وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيها وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال لهم موسى عليه السلام إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون فأي جهل فوق هذا والعهد قريب وإهلاك المشركين أمامهم بمرأى من عيونهم فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلكها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه والمجعول مربوب مصنوع فيستحيل أن يكون إلها

وما أكثر الخلف لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان في بعض غزواته فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم يسمونها ذات أنواط فقال بعضهم: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة

فصل

ومن تلاعبه بهم عبادتهم العجل من دون الله تعالى وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة والأخذة الرابية ونبيهم حي لم يمت هذا وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ويصليه النار ويدقه بالمطرقة ويسطو عليه بالمبرد ويقلبه بيديه ظهرا لبطن ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم حتى جعلوه إله موسى فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعا عن نفسه بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل فجعلوه إله كليم الرحمن

ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا فقالوا: فنسي

قال ابن عباس: أي ضل وأخطأ الطريق

وفي رواية عنه أي إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه

وعنه أيضا نسي أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم وقال السدي: أي ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه وقال قتادة: أي إن موسى إنما يطلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر

هذا هو القول المشهور: أن قوله فنسى من كلام السامريع وعباد العجل معه وعن ابن عباس رواية أخرى أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري: أنه نسى أى ترك ما كان عليه من الإيمان والصحيح: القول الأول والسياق يدل عليه ولم يذكر البخاري في التفسير غيره فقال: [ فنسى موساهم ] يقولونه: أخطأ الرب فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بني إسرائيل يوردونه عليه فيقولون له: إذا كان هذه إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله فنسى وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم فانظر إلى هؤلاء كيف اتخذوا إلها مصنوعا مصنوغا من جوهر أرضى إنما يكون تحت التراب محتاجا إلى سبك بالنار وتصفية وتخليص لخبثه منه مدقوقا بمطارق الحديد مقلبا في النار مرة بعد مرة قد نحت بالمبارد وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم وجعلوه إله موسى ونسبوه إلى الضلال حيث ذهب يطلب إلها غيره

قال محمد بن جرير: وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم

قال حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادي حدثنا سيفان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم [ ذنوب ] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى [ وديق ] فلما رآها الحصان تقحم خلفها قال: وعرف السامري جبريل [ لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه فيجد في بعض أصابعه لبنا وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه ] فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ قبضة من تحت الحافر

قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول

قال أبو سعيد قال عكرمة عن ابن عباس: وألقي في روع السامري: إنك لا تلقيها على شيء فتقول: كن كذا وكذا إلا كان فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر وأغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ومضي موسى لموعد ربه قال: وكان مع بني إسرائيل حلىك من حلى آل فرعون قد استعاروه فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا [ وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا ] فقذفها فيه وقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت: فقال هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى

وقال السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله فأقبل على فرس فرآه السامري فأنكره ويقال: إنه فرس الحياة فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا فأخذ من تربة حافر الفرس فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة فأتمها الله تعالى بعشر فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم وإن حلي القبط إنما هو غنيمة فاجمعوها جميعا واحفروا لها حفرة فادفنوها فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها [ وإلا كان شيئا لم تأكلوه ] فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار [ وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل ] فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسى يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشي فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به يقول: إنما ابتليتم بالعجل وإن ربكم الرحمن فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم وانطلق موسى إلى الله يكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى قال: هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك [ وأضلهم السامري فأخبره خبرهم قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل فالروح من نفخها فيه قال الرب تعالى: أنا قال: يا رب أنت إذا أضللتهم وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان السامري [ من أهل باجرما ] وكان من قوم يعبدون البقر فكان يحب عبادة البقر في نفسه وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هرون: أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها نجس وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى فيقذفون به فيها حتى إذا انكسر الحلي فيها ورأى السامري أثر فرس جبريل فأخذ ترابا من أثر حافره ثم أقبل إلى النار فقال لهرون: يا نبي الله ألقى ما في يدي ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة فقذفه فيها فقال: كن عجلا جسدا له خوار فكان البلاء والفتنة فقال: هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط يقول الله تعالى: فنسى أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [ وكان اسم السامري موسى بن ظفر وقع في أرض مصر فدخل في بني إسرائيل ] فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى فأقام هرون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي وكان له هائبا مطيعا

فقال تعالى مذكرا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده يعني من بعد ذهابه إلى ربه وليس المراد من بعد موته وأنتم ظالمون أي بعبادة غير الله تعالى لأن الشرك أظلم الظلم لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها

فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتبه له وأخذ برأس أخيه ولحيته ولم يعتب الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضب لله وكان الله تعالى قد أعلمه بفتنة قومه ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة

فصل

ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله تعالى في كتابه حيث يقول: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا قال ابن جرير: ذكرهم الله تعالى بذلك اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور وتطمئن بالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم فيقولون: حبة في شعيرة ويدخلون من قبل أستاههم ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة إلى غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم التي يكثر إحصاؤها فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا ﷺ وجحودهم نبوته وتركهم الإقرار به وبما جاء به مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم

وقال محمد بن إسحق: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامري ما قال وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال: انطلقوا إلى الله تعالى فتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم فصوموا وتطهروا وطهروا نياتكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم ان ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى عليه السلام: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا

فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: لو شئت أهلكتهم من قبل فقد ذكر فيه وجوه

فقال السدي: لما ماتوا قام موسى يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتتهم وقد أهلكت خيارهم

وقال محمد بن إسحق: اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا

وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني

وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود والذي يظهر والله اعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل حين عبد قومهم العجل ولم ينكروا عليهم يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك ولم تهلكهم فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل

وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم لو شئت واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم ولكن وسعني عفوك أولا فليسعني اليوم

ثم قال نبي الله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا

فقال ابن الإنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد أي لست تفعل ذلك

والسفهاء هنا: عبدة العجل قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل فقال: أتهلكنا بما فعل

السفهاء منا وإنما كان إهلاكهم بقولهم أرنا الله جهرة ثم قال: إن هي إلا فتنتك وهذا من تمام الاستعطاف أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم فالأمر كله لك وبيدك لا يكشفه إلا أنت كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت فنحن عائذون بك منك ولاجئون منك إليك

فصل

ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم أنهم قيل لهم وهم مع نبيهم والوحي ينزل عليه من الله تعالى أدخلوا هذه القرية قال قتادة وابن زيد والسدي وابن جرير وغيرهم: هي قرية بيت المقدس فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي هنيئا واسعا وادخلوا الباب سجدا قال السدعي: هو باب من أبواب بيت المقدس وكذلك قال بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال والسجود بمعنى الركوع وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره

قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم وفيه نهي صريح عن النبي ﷺ

ثم قيل لهم: قولوا حطة أي حط عنا خطايانا هذا قول الحسن وقتادة وعطاء

وقال عكرمة وغيره: أي قولوا: لا إله إلا الله وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تحط بها الخطايا وهي كلمة التوحيد

وقال سعيد بن جبيرعن ابن عباس: أمروا بالاستغفار

وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم فتلاعب الشيطان بهم فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم وفعلا غير الذي أمروا به

فروى البخاري في صحيحه ومسلم أيضا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة فبدلوا القول والفعل معا فأنزل الله عليهم رجزا من السماء قال أبو العالية: هو الغضب وقال ابن زيد: هو الطاعون

وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا

فصل

ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البرية قد ظلل عليه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى فملو ذلك وذكروا عيش الثوم والبصل والعدس والبقل والقثاء فسألوه موسى عليه السلام وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها ولهذا قال لهم موسى عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا أي مصرا من الأمصار فإن لكم ما سألتم

فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبها هواء وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار سقفهم الذي يظلهم من الشمس: الغمام وطعامهم: السلوى وشرابهم: المن

قال ابن زيد: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا وشرابهم واحدا كان شرابهم عسلا ينزل من السماء يقال له: المن وطعامهم طير يقال له: السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل لم يكن لهم خبز ولا غيره

ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة

وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى والغي بالرشاد والشرك بالتوحيد والسنة بالبدعة وخدمة الخالق بخدمة المخلوق والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفاني في هذه الدار

فصل

ومن تلاعبه بهم أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه حتى أمر الله سبحانه جبريل فقلع جبلا من أصله على قدرهم ثم رفعه فوق رؤوسهم وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم فقبلوه كرها قال الله تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال عبد الله بن وهب قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول: هذا كتابي فخذوه فجاءت غضبة من الله تعالى فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا: لا فقال: أي شيء أصابكم قالوا: متنا ثم حيينا فقال: خذوا كتاب الله قالوا: لا قال: فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم فقيل لهم: أتعرفون هذا قالوا: نعم الطور قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال: فأخذوه بالميثاق وقال السدى: لما قال الله تعالى لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فأبوا أن يسجدوا فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا على شق ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا ولم يعملوا بما في كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين

فصل

ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين

ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون

وتأمل تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا: انقلبوا خاسرين

فجمع لهم بين الأمر والنهى والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: يا موسى إن فيها قوما جبارين فلم يوقروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا: يا نبى الله وقالوا: إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يذل الجبابرة لأهل طاعته وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه

ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد

أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم إن فيها قوما جبارين

والثاني: تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو إن ثم حققوا النفي بأداة لن الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل

ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله هذا قول الأكثرين وهو الصحيح وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين أسلما واتبعا موسى عليه السلام ادخلوا عليهم الباب أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ثم ارشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل

فكان جواب القوم أن قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسعهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلل عليهم الغمام من الحر وينزل عليهم المن والسلوى

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله ﷺ أشرق وجهه لذلك وسر به

فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

فصل

ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضا ما قصه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها

وفي هذه القصة أنواع من العبر:

منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول الله ﷺ

ومنها: الدلالة على نبوة موسى وأنه رسول رب العالمين

ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان وقيام الموتى من قبورهم

ومنها: إثبات الفاعل المختار وأنه عالم بكل شيء قادر على كل شىء عدل لا يجوز عليه الظلم والجور حكيم لا يجوز عليه العبث

ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات زيادة في هداية المهتدي وإعذارا وإنذارا للضال

ومنها: إنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت وكثرة الأسئلة بل يبادر إلى الإمتثال فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الإمتثال بذبح أي بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال بل هو بمنزلة قوله: اعتق رقبة وأطعم مسكينا وصم يوما ونحو ذلك ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فإن الآية غنية عن البيان المنفصل مبينة بنفسها ولكن لما تعنتوا وشددوا شدد عليهم

قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبي العالية: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم

ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار وذلك نوع من الكفر فإن القوم لما قال لهم نبيهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قابلوا هذا الأمر بقولهم أتتخذنا هزوا فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا: أتتخذنا هزوا وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك ولم يكن هو الآمر به ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك فلما قال لهم: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال ولم يكادوا يفعلون

ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم الآن جئت بالحق فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة فتلك ردة وكفر ظاهر وإن أرادوا: أنك الآن بيت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر فإن البيان قد حصل بقوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة

قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: الآن جئت بالحق وزعم أن ذلك نفي منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك وأن ذلك كفر منهم قال: وليس الأمر كما قال عندنا لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جهلا منهم وهفوة من هفواتهم

فصل

ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب هذه الأمة وغلظها وعدم تمكن الإيمان فيها قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحي الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله أنكروا قتله وقالوا: والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات والحق قال الله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة

ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا فإن القاتل قصده ميراث المقتول ودفع القتل عن نفسه ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول

ومنها: أن بني إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة والبقر من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل

والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل

فصل

ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا ما قصه الله تعالى علينا من قصة أصحاب السبت حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى

ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام واستباحة الفروج والحرام والدم الحرام وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وتلاعبوا بدينه وخادعوه مخادعة الصبيان ومسخوا دينه بالاحتيال مسخهم الله تعالى قردة وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت وإرسالها عليهم يوم السبت وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ فانظر ما فعل الحرص وما أوجب من الحرمان بالكلية ومن ههنا قيل: من طلبه كله فاته كله

فصل

ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا أنهم لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه فان ثمنها بدل منها فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها

ومن تلاعبه بهم أيضا: إتخاذ قبور أنبيائهم مساجد وقد لعنهم رسول الله ﷺ على ذلك ولعنته تتناول فعلهم

ومن تلاعبه بهم أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى يحرمون عليهم ويحلون لهم فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا

قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله ﷺ فسألته عن قوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت: يا رسول الله ما عبدوهم فقال: حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم رواه الترمذي وغيره

وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالانسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه ويحلل له ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه

ثم كان منهم في شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا وراموا قتله وصلبه فصانه الله تعالى من ذلك ورفعه إليه وطهره منهم فأوقعوا القتل والصلب على شبهه وهم يظنون أنه رسول الله عيسى ﷺ فانتقم الله تعالى منهم ودمر عليهم أعظم تدمير وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمد ﷺ

ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى في الأرض أمما ومزقهم كل ممزق وسلبهم عزهم وملكهم فلم يقم لهم بعد ذلك ملك إلى أن بعث الله تعالى محمدا ﷺ فكفروا به وكذبوه فأتم عليهم غضبه ودمرهم غاية التدمير وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء فيستأصل شأفتهم ويطهر الأرض منهم ومن عباد الصليب قال تعالى: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين

فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح والغضب الثاني: بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما

فصل

ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أن ألقى إليهم أن الرب تعالى محجور عليه في نسخ الشرائع فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء

ويحكم ما يريد وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترسا لهم في جحد نبوة رسول الله محمد ﷺ وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال

وقد أكذبهم الله تعالى في نص التوراة كما أكذبهم في القرآن قال الله تعالى: كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه

ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم اسرائيل وملته وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل وهذا محض النسخ

وقوله تعالى: من قبل أن تنزل التوراة أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى: قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوارة عليكم أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها

فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه

وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى فيجعله حراما أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل

ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة

فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا

فإن قالوا: لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب

والبهت وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ قطعا

وأيضا فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام فإن قالوا: نعم قلنا: أليس في التوراة أن من مس عظم ميت أو وطيء قبرا أو حضر حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها فلا يمكنهم إنكار ذلك فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك

فإن قالوا: لا نقدر عليه فيقال لهم: لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة والذي في كتابكم خلافه

فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة وعدمنا الإمام المطهر المستغفر

فيقال لهم: فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم

فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله

قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر

فيقال: وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام ثم صار مفسدة في سائر الشرائع وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفي سائر الشرائع ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام وأمثال ذلك كثيرة

وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بها فالأمر حينئذ أظهر

فإنه سبحانه يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته لا يسأل عما يفعل وإن قلتم: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة

فإن قالوا: نعم الأمر كذلك

قيل لهم: فإذا كنتم أنجاسا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه

فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة

قيل لكم: ليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض

ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم ولا تنحسون من لمسها ولا الثوب الذي تلمسه فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34