الرئيسيةبحث

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/13

فصل

ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه

فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به

ورأي يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه

وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه

ونوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما والحق باطلا والباطل حقا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض

قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم

وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فهل تجوز تلك الحيلة قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه قال: بلى هكذا هو قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة قال: نعم

فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام: ليس بمحتال الحيل المذمومة وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها

وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول مقصود الشارع وبين الطريق التي تسلك لإبطال مقصوده

فهذا هو سر الفرق بين النوعين وكلامنا الآن في النوع الثاني

قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه: الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. وقال تعالى: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم. وقال في أهل العهد: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله. فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه وأنه يكفي المخدوع شر من خدعه والمخادعة: هي الاحتيال والمراوغة: بإظهار الخير مع إبطان خلافه ليحصل مقصود المخادع وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة فإنهم يقولون: طريق خيدع إذا كان مخالفا للقصد لا يشعر به ولا يفطن له ويقال للسراب: الخيدع لأنه يغر من يراه وضب خدع أي مراوغ كما قالوا: أخدع من ضب ومنه: الحرب خدعة وسوق خادعة أي متلونة وأصله: الإخفاء والستر ومنه سميت الخزانة مخدعا

فلما كان القائل آمنت مظهرا لهذه الكلمة غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعا بل مريد لحكمها وثمرتها فقط: مخادعا كان المتكلم بلفظ بعت واشتريت وطلقت ونكحت وخالعت وآجرت وساقيت وأوصيت غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعا بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له أو ضد ما شرعت له: مخادعا ذاك مخادع في أصل الإيمان وهذا مخادع في أعماله وشرائعه

قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده كما أن الأول نفاق في أصل الدين

يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال: من يخادع الله يخدعه

وعن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: إن الله تعالى لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه أبو جعفر محمد بن سليمان المعروف بمطين في كتاب البيوع له

وعن ابن عباس أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه الحافظ أبو محمد النخشبي

فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصوده به الربا خداعا لله وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعول عليهم في فهم القرآن وقد تقدم عن عثمان وعبد الله بن عمر وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة

قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة

وقال أيوب السختياني في المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي

وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة

وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول ﷺ أنهم يريدون سلمه وهم يقصدون بذلك المكربه من حيث لا يشعر فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه كما أن المحلل والمرابي يظهران النكاح والبيع المقصودين ومقصود هذا: الطلاق بعد استفراش المرأة ومقصود الآخر: ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعا أو عرفا: خديعة

قال: وتلخيص ذلك: أن مخادعة الله تعالى حرام والحيل مخادعة لله

بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم

وبيان الثاني: أن ابن عباس وأنسا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا: أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى وهم أعلم بكتاب الله تعالى

الثاني: أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه كما تقدم

الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام ومراده غيره سمي مخادعا لله تعالى وكذلك المرابي فإن النفاق والربى من باب واحد فإذا كان هذا الذي أظهر قولا غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه وهذا الذي أظهر فعلا غير معتقد ولا مريد لما شرع له: مخادعا فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له وإذا كان مشاركا لهما في المعنى الذي سميا به مخادعين وجب أن يشركهما في اسم الخداع وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق

الوجه الثاني: أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسىء عشرتها ولا حاجة له في نكاحها أو ينكحها ليحلها لمطلقها لا ليتخذها زوجا أو يخلعها ليلبسها أو يبيع بيعا جائزا ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوا يوضحه:

الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئا بآيات الله تعالى متلاعبا بحدوده ورواه ابن بطة بإسناد جيد ولفظه خلعتك راجعتك خلعتك راجعتك

الوجه الرابع: ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته ثلاثا على عهد رسول الله ﷺ فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم الحديث وقد تقدم فجعله لاعبا بكتاب الله مع قصده الطلاق لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقا يملك فيه رد المرأة إذا شاء فطلق هو طلاقا لا يملك فيه ردها

وأيضا فإن المرتين والمرات في لغة القرآن والسنة بل ولغة العرب بل ولغات سائر الأمم: لما كان مرة بعد مرة فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى ومادل عليه كتابه فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع

الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جذوا نهارا بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من الثمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق ولئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجىء المساكين فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده

الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ظاهره ظاهر الإتقاء وباطنه باطن الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهر دون حقيقته مسخهم الله تعالى قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا يوضحه:

الوجه السابع: أن بني إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله تعالى في كتابه وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام في يوم بعينه ولذلك كان الربا والظلم حراما في شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم إن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلوا الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة فيشبه والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرما إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وهو إيمان بالله تعالى وآياته ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير ورحمة ومن أكله مستحلا له بنوع احتيال تأول فيه فهو مصر علىالحرام وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام وذلك قد يفضي به إلى شر طويل

وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث قد تقدم بعضها في هذا الكتاب كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في صحيحه ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة

وقوله في حديث أنس ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير

وفي حديث أبي أمامة أيضا يبيت قوم من هكذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير

وفي حديث عمران بن حصين يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف

وكذلك في حديث سهل بن سعد وكذلك في حديث علي بن أبي طالب وقوله: فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا

وفي حديثه الآخر يمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير

وفي حديث أنس رضي الله عنه ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير قالوا: يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: بلى ويصومون ويصلون ويحجون قالوا: فما بالهم قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير

وفي حديث جبير بن نفير ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف فإن تابوا تاب الله عليهم وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف والقذف والمسخ والصواعق

وقال سالم بن أبي الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه الحاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا

وقال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه

وقال عبد الرحمن بن غنم: يوشك أن يقعد اثنان على ثقال رحى يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر

وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخهم الله وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي

فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة

وقد جاء في حديث الله أعلم بحاله يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلتهم على الربا كما مسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت

وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة

قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارا ولم يكونوا من أمته ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم معصية ولما قيل فيهم: يستحلون فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدا حله فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمرا واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة وهذا لا يحرم كأصوات الطيور واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور كحال الحرب وحال الحكة فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدين إلا الملو... ك وأحبار سوء ورهبانها

ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئا بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعا للعذر مقيما للحجة والحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله تعالى بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير

الوجه الثامن: أن النبي ﷺ قال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى الحديث

وهو أصل في إبطال الحيل وبه احتج البخاري على ذلك فإن من أراد أن يعامل رجلا معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة وباعه ثوبا بستمائة يساوي مائه إنما نوى بإقراض التسعمائه تحصيل الربح الزائد وإنما نوى بالستمائه التي أظهر أنها ثمن الثوب: الربا والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه ومن عامله يعلمه ومن اطلع على حقيقة الحال يعلمه فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا المحرم

الوجه التاسع: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله رواه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي

وقد استدل به الإمام أحمد وقال: فيه إبطال الحيل

ووجه ذلك: أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما فحرم ﷺ أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهي طلب الفسخ سواء كان العقد جائزا أو لازما لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق في العرف له فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار ولم يوضع التفرق لذلك وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما في حاجته ومصلحته

الوجه العاشر: ما روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل رواه أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام: حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا محمد بن عمرو وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي

وهو نص في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل وإنما ذكر ﷺ أدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذي قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه فمن أسهل الحيل على من أراد فعله: أن يعطيه مثلا ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة

وكذلك المطلق ثلاثا: من أسهل الأشياء عليه أن يعطي بعض السفهاء عشرة دراهم مثلا ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له بخلاف الطريق الشرعي فإنه يصعب معه عودها حلالا إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله

ثم إنه ﷺ نهانا عن التشبه باليهود وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد وهذا عند المحتالين جائز لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة

ومن احتيالهم أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم تأولوا أن المراد نفس إدخاله الفم وأن الشحم هو الجامد دون المذاب فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا: ما أكلنا الشحم ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله إذ البدل يسد مسده فلا فرق بين حال جامده وودكه فلو كان ثمنه حلالا لم يكن في تحريمه كثير أمر وهذا هو:

الوجه الحادي عشر: وهو ما روى ابن عباس قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها متفق عليه

قال الخطابي: جملوها معناه: أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال: جملت الشحم وأجملته واجتملته والجميل: الشحم المذاب

وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه رواه البخاري وأصله متفق عليه قال الإمام أحمد في رواية صالح وأبي الحارث في أصحاب الحيل: عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها فالشيء الذي قيل: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه ثم احتج بهذا الحديث وحديث: لعن الله المحلل والمحلل له قال الخطابي وقد ذكر حديث الشحوم: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيآته وتبديل اسمه وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تقرب مال اليتيم فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال: لم آكل نفس مال اليتيم أو اشترى شيئا في ذمته ونقده وقال: هذا قد ملكته وصار عوضه دينا في ذمتي فإنما أكلت ما هو ملكي ظاهرا وباطنا

ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود وكان السابقون منها فقهاء أتقياء علموا مقصود الشارع فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات: من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها وبتحريم أثمانها لطرق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم في الأثمان ونحوها إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى

الوجه الثاني عشر: أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشيء بغير اسمه وعلى تغيير صورته مع بقاء حقيقته فمداره على تغيير الإسم مع بقاء المسمى وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح واسم المحلل إلى الزوج وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح والحقيقة حقيقة التحليل

ومعلوم قطعا أن لعن رسول الله ﷺ على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذي اللعنة من بعض عقوبته وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله فإن المفسدة تابعة للحقيقة لا للإسم ولا لمجرد الصورة

وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربال الصريح قبل العقد ثم غيرا اسمه إلى المعاملة وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة لله تعالى ولرسوله ﷺ

وأي فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا: إنما أكلنا الثمن لا المثمن فلم نأكل شحما

وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير

وإنما أتي هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جمله واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت ولا استباحة لنفس الشحم بل الذي

يستحل الشراب المسكر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وقد جاء هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه أخرى

منها: ما رواه النسائي عنه ﷺ يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وإسناده صحيح

ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ورواه الإمام أحمد ولفظه: ليستحلن طائفة من أمتي الخمر

ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضا من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها

فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالا لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه وكذلك شبهتهم في استحلال الحرير والمعازف فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة وفي الحرب وقد قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده. والمعازف قد أبيح بعضها في العرس ونحوه وأبيح الحداء وأبيح بعض أنواع الغناء وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل فإذا كان من عقوبة هؤلاء: أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم وفعلهم أقبح فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء ولذلك مسخوا قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم وخسف ببعضهم كما خسف بقارون لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين العقوبتين وما هي من الظالمين ببعيد وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34