الرئيسيةبحث

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/1

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
الباب الثالث عشر
ابن قيم الجوزية

فصل

ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل والآراء المتهافتة والخيالات المتناقضة التي هي زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل والخطأ بالصواب قد تقاذفت بها أمواج الشبهات وزانت عليها غيوم الخيالات فمركبها القيل والقال والشك والتشكيك وكثرة الجدال ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم في شكهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه يحاكمون وبه يتخاصمون فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

فصل

ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن وأحالهم على منطق يونان وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ومرت عليها القرون والأزمان فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كإخراج الشعرة من العجين

فصل

ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوي الهائلات وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان

فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم

فصل

ومن أنواع مكايده ومكره: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره وطلاقة وجهه وحسن كلامه فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق وطلاقة الوجه ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم ولا يريهم طلاقة وجهه ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض

وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان وقالوا: متى كشفت للمرأة أو الصبي بياض أسنانك كشفا لك عما هنا لك ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما

ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا ولا طلاقة فيطمعوا فيك ويتجرأوا عليك وتسقط هيبتك من قلوبهم فيحرمك صالح أدعيتهم وميل قلوبهم إليك ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء وبحسن الخلق والبشر مع أولئك ليفتح لك باب الشر ويغلق عنك باب الخير

فصل

ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى في إذلالها وابتذالها كجهاد الكفار والمنافقين وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل وتسليط الأعداء وطعنهم فيك فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك

ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها كما يأمرك بالتبذل لذوي الرياسات وإهانة نفسك لهم ويخيل إليك أنك تعزها بهم وترفع قدرها بالذل لهم ويذكرك قول الشاعر:

أهين لهم نفسي لأرفعها بهم... ولن تكرم النفس التي لا تهينها

وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه بخلاف المخلوق فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه

فصل

ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط أو زاوية أو تربة ويحبسه هناك وينهاه عن الخروج ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم وربما ترى في طريقك منكرا وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه: منها الكبر واحتقار الناس وحفظ الناموس وقيام الرياسة ومخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يزار ولا يزور ويقصده الناس ولا يقصدهم ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع الناس عنده وتقبيل يده فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه

وقد كان رسول الله ﷺ يخرج إلى السوق قال بعض الحفاظ: وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره

وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب فيبيع ويشتري

ومر عبد الله بن سلام رضي الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله تعالى فقال: أردت أن أدفع به الكبر فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر

وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة ويقول: افسحوا لأميركم افسحوا لأميركم

وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وهو خليفة في حاجة له ماشيا فأعيى فرأى غلاما على حمار له فقال: يا غلام احملني فقد أعييت فنزل الغلام عن الدابة وقال: اركب يا أمير المؤمنين فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك. فركب خلف الغلام حتى دخل المدينة والناس يرونه

فصل

ومن كيده: أنه يغري الناس بتقبيل يده والتمسح به والثناء عليه وسؤاله الدعاء ونحو ذلك حتى يرى نفسه ويعجبه شأنه فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض وبك يدفع البلاء عن الخلق ظن ذلك حقا وربما قيل له: إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى به وبحرمته فيقضي حاجتهم فيقع ذلك في قلبه ويفرح به ويظنه حقا وذلك كل الهلاك فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه أو قلة خضوع له تذمر لذلك ووجد في باطنه وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها وهم أقرب إلى السلامة منه

فصل

ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بها جسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم

فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية وشيطانية ونفسانية كالرؤيا فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت والشيطان يجري منه مجرى الدم والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده ومن عداهم يصيب ويخطىء وليس بحجة على الخلق

وقد كان سيد المحدثين الملهمين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه فيتبين له الخطأ فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها

وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليهما ويقول: حدثني قلبي عن ربي ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم اتبعتم الرسوم وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله حتى قيل لبعض هؤلاء: لا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق

وهذا غاية الجهل فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله فيستغني به عن ظاهر العلم ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان أو نفسه الجاهلة أو هما مجتمعين ومنفردين ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان

وقد سئل عبد الله بن مسعود عن مسئلة المفوضة شهرا فقال بعد الشهر: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله برىء منه ورسوله وكتب كاتب لعمر رضي الله عنه بين يديه: هذا ما أرى الله عمر فقال: لا امحه واكتب: هذا ما رأى عمر

وقال عمر رضي الله عنه أيضا: أيها الناس اتهموا الرأى على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته

واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور وهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما وأبعدها من الشيطان فكانوا أتبع الأمة للسنة وأشدهم اتهاما لآرائهم وهؤلاء ضد ذلك

وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان

قال الجنيد: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة

وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا: كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود

وقال أيضا: من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مدع

وقال سري السقطى: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط

وقال الجنيد: مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدى به

وقال أبو بكر الدقاق: من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن

وقال أبو الحسين النوري من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه

وقال الجريري: أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد: أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائما

وقال أبو حفص الكبير الشان: من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال

وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازي: كان الصوفية يسخرون من الشيطان والآن الشيطان يسخر منهم

ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس واليوم الرجل الذي يهب من الشيطان

فصل

ومن كيده: أمرهم بلزوم زي واحد ولبسة واحدة وهيئة ومشية معينة وشيخ معين وطريقة مخترعة ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه وربما يلزم أحدهم موضعا معينا للصلاة لا يصلي إلا فيه وقد نهى رسول الله ﷺ أن يوطن الرجل المكان للصلاة كما يوطن البعير وكذلك ترى أحدهم لا يصلي إلا على سجاده ولم يصل عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه بل كان يصلي على الأرض وربما سجد في الطين وكان يصلي على الحصير فيصلي على ما اتفق بسطه فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض

وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه ولا مع أهل الحقائق فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيد بالرسوم الوضعية وهي من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره وكان أخس أحواله الوقوف معها ولا وقوف في السير بل إما تقدم وإما تأخر كما قال تعالى: لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [ المدثر: 37 ] فلا وقوف في الطريق إنما هو ذهاب وتقدم أو رجوع وتأخر

ومن تأمل هدي رسول الله ﷺ وسيرته وجده مناقضا لهدي هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة والقباء تارة والجبة تارة والإزار والرداء تارة ويركب البعير وحده ومردفا لغيره ويركب الفرس مسرجا وعريانا ويركب الحمار ويأكل ما حضر ويجلس على الأرض تارة وعلى الحصير تارة وعلى البساط تارة ويمشي وحده تارة ومع أصحابه تارة وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه فبين هديه وهدي هؤلاء بون بعيد

فصل

ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية حتى ألقاهم في الآصار والأغلال وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله ﷺ وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر وبطلان الأجر أو تنقيصه

ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله ﷺ وطريقته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله ﷺ أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرتفع حدثه ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول فقد كان رسول الله ﷺ يتوضأ بالمدع وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث بل أخبر أن: من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله ﷺ فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعد فيه لحدوده

وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال: ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين كيف والعجين يحلله الماء فيغيره هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ويفسده عند آخرين فلا تصح به الطهارة وكان ﷺ يفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة وأم سلمة وهذا كله في الصحيح

وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان الرجال والنساء على عهد رسول الله ﷺ يتوضئون من إناء واحد والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها كما يراعيه جهال الناس ممن بلى بالوسواس في جرن الحمام

فهدي رسول الله ﷺ الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة

قال شيخنا: ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع

ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان

قال سعيد بن المسيب: إني لاستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي

وقال الإمام أحمد: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء

وقال المروزى: وضأت أبا عبد الله بالعسكر فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لايحسن الوضوء لقلة صبه الماء

وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى

وثبت عنه ﷺ في الصحيح: أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضض واستنشق وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه والموسوس لا يجوز ذلك ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك

وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله ﷺ وأن يأتي بمثل ما أتى به أبدا وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي يغمسان أيديهما فيه ويفرغان عليهما فالمسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز إذا ذكر الله وحده

قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا والعمل بقوله ﷺ دع ما يريبك إلى مالا يريبك وقوله: من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه: وقوله الإثم ما حاك في الصدر

وقال بعض السلف: الإثم حور القلوب وقد وجد النبي ﷺ تمرة فقال لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا

وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك: هل هي واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث احتياطا للفروج

وأفتى من حلف بالطلاق: أن في هذه اللوزة حبتين وهو لا يعلم ذلك فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث لأنه حلف على ما لا يعلم

وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها: يطلق عليه جميع نسائه احتياطا وقطعا للشك

وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة فيلزمه الطلاق والعتاق والصدقة بثلث المال وكفارة الظهار وكفارة اليمين بالله تعالى والحج ماشيا ويقع الطلاق في جميع نسائه ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه وهذا أحد القولين عندهم ومذهب مالك أيضا أنه إذا حلف ليفعلن كذا: أنه على حنث حتى يفعله فيحال بينه وبين امرأته

ومذهبه أيضا: أنه إذا قال: إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا: أنها تطلق في الحال وهذا كله احتياط

وقال الفقهاء: من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله وقالوا: إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب وشك فيها صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته

وقالوا: إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة فلا يدرى في أي جهة فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة لتبرأ ذمته بيقين

وقالوا: من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات وقد أمر النبي ﷺ من شك في صلاته: أن يبني على اليقين

وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره كما إذا وقع في الماء

وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر للشك في تسمية صاحبه عليه

وهذا باب يطول تتبعه

فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع وإن سميتموه وسواسا

وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة حتى عمي

وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين

فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى ما لا يريب وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم وتجنبنا محل الاشتباه لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ولافي البدعة والجين وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال حتى لا يبالي العبد بدينه ولا يحتاط له بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ولا يبالي كيف توضأ ولا بأي ماء توضأ ولا بأي مكان صلى ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ويحسن ظنه فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه ويحمل الأمور على الطهارة وربما كانت أفحش النجاسة ويدخل بالشك ويخرج بالشك فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به واجتهد فيه حتى لا يخل بشيء منه وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور وأن لا ينقص منه شيئا

قالوا: وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور أو احتياط في اجتناب محظور

وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب والدخول في المحرم وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا وإنما نسميه احتياطا واستظهارا فلستم بأسعد منا بالسنة ونحن حولها ندندن وتكميلها نريد

وقال أهل الاقتصاد والاتباع: قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر [ الأحزاب: 21 ] وقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ النساء: 21 ] وقال تعالى: واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف: 158 ] وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فا تبعوه ولا تتبعوا السبلى فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ الأنعام: 153 ]

وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وهو قصد السبيل وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة وإن قاله من قاله لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط وقد يكون يسيرا وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا وقد يجور دون ذلك فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد متأول أو مقلد جاهل فمنهم المستحق للعقوبة ومنهم المغفور له ومنهم المأجور أجرا واحدا بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم

ونحن نسوق من هدي رسول الله وهدي أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه، ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو وتعدي الحدود والإسراف وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين

قال الله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [ المائده: 77 ] وقال تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأنعام: 141 ] وقال تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها [ البقرة: 229 ] وقال تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقرة: 190 ] وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ الأعراف: 55 ]

وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين رواه الإمام أحمد والنسائي وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم

فنهى النبي ﷺ عن التشديد في الدين وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع

فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به وبالقدر كفعل أهل الوسواس فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم

قال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه يعني الوضوء وأن يجاوزوا فعل النبي ﷺ وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إسباغ الوضوء: الإنقاء

فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة قال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله تعالى فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس:

الحمد لله الذي هدانا بنعمته وشرفنا بمحمد ﷺ وبرسالته ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته فقال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران: 31 ] وقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمي [ الأعراف: 156 ] ثم قال: فآمنوا بالله ورسوله النبيالأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف: 158 ] أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف: 17 ] وحذرنا الله تعالى من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر: 6 ] وقال: يا بني آدم لآيفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة [ الأعراف: 27 ] وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته وقطعا للعذر في متابعته وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل فقال سبحانه: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام: 153 ] وسبيل الله وصراطه المستقيم: هو الذي كان عليه رسول الله ﷺ وصحابته بدليل قوله تعالى: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم [ يس: 3 ] وقال: وإنك لعلى هدى مستقيم [ الشورى: 67 ] وقال: إنك لتهدي إلى صراط مستقيم. فمن اتبع رسول الله ﷺ في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان


إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34