☰ جدول المحتويات
باب في تحنك الفتى
قِيلَ لعُمَر بن الخطَّاب: إِن فُلاناً لا يَعْرِف الشَر. قال: ذلك أحْرَى أن يَقَع فيه. وقال سُفْيان الثَورِيّ: مَن لم يُحْسن أن يَتفتَى لم يُحسن أن يَتَقَرَّى. وقال عمرو بن العاص: ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر إنما العاقلُ الذي يَعرف خيَر الشرَّين. ومثل ذلك قول الشاعر: رَضِيتُ ببعض الذل خوفَ جَمِيعه كذلك بعضُ الشَر أهونُ من بعض وسُئِل المُغيرة بن شُعبة عن عُمَر بن الخَطّاب " رضي الله عنه " فقال: كان والله له فَضْلٌ يمنعه من أن يَخدع وعَقل يَمنعه من أن يَنخدع. قال إياس: لستُ بِخَبّ والخب لا يَخْدعني. وتَجادَل إياس والحَسنُ - وكان الحَسنُ يَرى كلَّ مُسْلم جائزَ الشهادة حتى تَظْهر عليه سَقْطةٌ أو يُجَرِّحه المشهود عليه وكان إِياسٌ لا يَرى ذلك - فأقبلَ رجلٌ إلى الحَسن فقال: إنّ إياساَ رَدّ شهادتي. فقام معه الحسنُ إليه فقال: أبا وائلة لمَ رددت شهادة هذا المُسلم فقد قال ﷺ: من صلى إلى قبلتتا فهو المُسلم له مالنا وعليه ما علينا فقال له إياسٌ: يا أبا سَعيد يقولُ الله تعالى: " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداء " وهذا ممن لا نَرْضاه. وكان عامرُ بنُ عبد الله بن الزًبَير في غاية الفَضْل والدِّين وكان لا يَعْرف الشرًّ فبينا هو جالسٌ في المَسْجِد إذ أتي بعَطائه فقام إلى مَنْزله فَنَسيه. فلما صار في بَيْته ذَكَره فقال لخادمه: اذهبْ إلى المَسْجد فائْتني بعَطائي فقال له: وأين نجِده قال سُبحان الله! أو بَقي أحدٌ يَأخذ ما ليس له وقال أيُّوب: مِن أصحابي مَن ارتجى بركةَ دُعائِه ولا أقْبل شهادَته. وذًكِرت فاطمةُ بنتُ الحُسين عليهما السلامُ عند عُمَر بن عبد العَزيز وكان لها مُعظِّماً فقيل إنها لا تَعْرِف الشَّرَّ فقال عُمر: عَدمُ مَعْرِفتها بالشرِّ جَنَبها الشَّرً. وكانوا يَسْتَحْسِنُون الحُنْكة للفَتى والصَّبْوة للحَدَث ويَكرهون الشَّيب قبل أوانه وُيشَبِّهون ذلك بيُبوسِ الثَّمرة قبل نُضْجها وأنِّ ذلك لا يَكُون إلا مِن ضرَر فيها. فأنفع الإخوانِ مجلساَ وأكرمُهم عِشْرةً وأشدُهم حِذقاً وأنبَهُهم نَفْساَ مَن لم يكن بالشاطِر المُتَفَتِّك ولا الزًاهِد المتنَسِّك ولا الماجن المتَظَرِّف ولا العابد المتقَشِّف ولكن كما قال الشاعر: يا هِنْدً هَلْ لك في شَيْخٍ فَتًى أبداً وقد يكونُ شبابٌ غير فِتْيانِ وقال آخر: وفتًى وهْوَ قد أَنافَ عَلى الْخم سِينَ يَلْقالك في ثيابِ غلام وقال آخر: فَلِلنُّسْكِ مني جانبٌ لا أًضِيعُه وللَهْو مني والبَطالة جانبُ كهْلُ الأناةِ فَتى الشَّذاة إذا عَدا للرَّوْع كان القَشْعَمَ الغِطْرِيفَا ومن قولنا " في هذا المعنى ": إذا جالسَ الفِتْيانَ ألفيتَه فتًى وجالسَ كَهْلَ الناس ألفيتَه كهْلاَ ونظيرُه قول ابن حِطّان: يوماً يَمانٍ إذا لاقيتَ ذا يَمن وإن لَهقيت مَعديا فَعَدْناني وقولُ عمران بن حِطّان هذا هذا يَحتمل غيرَ هذا المعنى إلا أنّ هذا أقربُ إليه وأشبهُ به لأنّه أراد أنه مع اليَمانيّ يمانيّ ومَع العَدناني عدناني فيُحتمل أنّ ذلك لخوف منه أو مُساعدة وكل ذلك داخلٌ في
باب الحنكة والحذق والتَجربة
وقالوا: اصحبْ البَرَّ لتتأسَى به والفاجرَ لتتحنَك به. وقالوا: مَن لم يَصْحب البر والفاجرَ " ولم " يؤدّبه الرَّخاءُ والشِّدة مَرة ولم يَخْرج منِ الظّل إلى الشَمس مَرة فلا تَرْجُه. ومن هذا قولهم: حَلب فلانٌ الدهرَ أشْطُره وشرِبَ أفاويقَه إذ فَهِمَ خيرَه وشرَّه فإذا نَزَلَ به الغِنى عَرَفه " ولم يُبْطره " وإذا نَزَل به البَلاء " صَبر له و " لم يُنكرِه. وقال هُدْبة العُذْريّ: ولستُ بِمفراحَ إذا الدهرُ سرًّني ولا جازع و مِنْ صرفه المُتَقَلِّبِ وقال عبدُ العزيز بن زرارةَ في هذا المعنىِ. قَد عِشْتُ في الدَّهر أطواراً على طُرُقٍ شتَى فصادفتُ منه اللِّينَ والفَظَعَا كُلا بَلوتُ فلا النَّعماءُ تُبْطِرني ولا تَخشَعتُ مِن لأوائِه جَزَعا لا يملأ الأمر صَدْرِي قبل وَقعته ولا أَضِيقُ به ذَرْعاً إذا وَقَعا وقال آخر: فإِن تَهْدِمُوا بالغَدْرِ داري فإنّها تُراثُ كَرِيمٍ لا يخافُ العَوَاقِبَا إذا هَمَّ ألقَى بين عَيْنيه عَزْمه وأضرب عن ذِكْر العَواقب جانِبا ولم يَسْتشرِ في أَمره غيرَ نَفْسه ولم يرْضَ إلا قائمَ السَّيف صاحِبا سأغسِلُ عنَي العارَ بالسيف جالباً عليّ قضاءُ الله ما كان جالباً وسئِلت هِنْدُ عن مُعاوية فقالت: والله لو جُمعت قريشٌ من أقطارها ثم رُمِي به فِي وسَطها لخرَج من أي أَعْراضها شاء. وهذا نظَير " قول الشاعر ": برِئت إلى الرَّحمن من كلِّ صاحبٍ أصاحبهُ إلا عِراكَ بن نائل وعِلْمي به بين السِّماطين أنَهَ سَيَنْجو بحقٍّ أوسينْجو بباطل وما كنتُ أرضىَ الجهلَ خِدْناً وصاحباَ ولكنني أرضى به حين أحرج فإن قال قومٌ إنّ فيه سماجةً فقد صَدَقوا والذُّلِّ بالحُرِّ أَسْمج وِلى فَرَسٌ للِحلْم بالحم مُلْجَمٌ ولي فَرس للجَهْل بالجهْل مُسْرج فمنْ شاء تقويمي فإني مُقوَّمٌ ومَن شاء تَعْويجي فإني مُعَوَّج وقال مُعاوية في سُفيان بن عَوف الغامديّ: هذا الذي لا يكَفكف من عَجَلة ولا يُدْفع في ظَهْره من بُطْء ولا يُضرب على الأمور ضرْب الجَمل الثَّفَال. وقال الحسنُ بن هانئ: مَن لِلجذَاع إذا المَيدانُ ماطَلَها بشَأو مُطلع الغايات قد قَرَحَا من لا يُغَضغض منه البُؤسُ أنملةً ولا يُصعِّد أطرافَ الربىَ فَرَحَا وقال جرير: وابنُ اللَبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَن لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيس
باب في الرجل النفاع الضرار
يقال إنه لخرَّاج وَلاّج وإنه لحًوَّل قُلّب إذا كان مُتصرِّفاً في أُموره نَفّاعاً لأوليائه ضرَّاراً لأعدائه. وإذِا كان على غير ذلك قيل: ما يُحْلِي ولا يُمرِّ ولا يُعدّ في العِير ولا في النَّفير وما فيه خير يُرْجَى ولا شرّ يُتَّقى. وقال بعضُهم: لاَ يرضى العاقلُ أن يكون إلا إماماً فيِ الخير والشرّ. وقال الشاعر: إذا أنت لم تَنْفع فضرّ فإنما يُرَجَّى الفَتى كيما يُضرَّ وَيَنْفَعا وقال حبيب: ولم أرَ نَفْعاً عِند من ليس ضائراً ولم أَرَ ضرًّا عند مَن ليس يَنفعُ وسمع إعرابيٌّ رجلاً يقول: ما أتى فلانٌ بيوم خيرٍ قطُّ فقال: إن لا يكُن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر. وقال الشاعر: وما فعلت بنو ذُبيانَ خيراً ولا فعلتْ بنو ذُبيان شرَّا وقال آخر: قَبَح الإلهُ عداوةَ لا تُتَّقى وقَرابةً يُدْلَى بها لا تَنفَعُ وفخر رجال فقال: أبي الذي قَتل الملوك وغَصَب المنابر وفعل وفعل. فقال له رجل: لكنه أسِر وقتل وصُلب. فقال: دَعْني من أسره وقَتْله وصَلْبه أبوك " هل " حدّث نفسَه بشيء من هذا قطُّ. وقال رجل " من العرِب " يذُمّ قومه وأغارت بنو شَيبان على إبله فاستنجدهم فلم لو كنتُ من مارنٍ لم تَسْتَبح إبلي بنو اللّقيطة من ذهل بن شَيْباناً إذاً لقام بنَصْري مَعْشَرٌ خشُنٌ عند الحَفيظة إن ذو لوثة لانا قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيه لهم طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا لا يَسألون أخاهم حين يَنْدُبهم في النَائبات على ما قال بُرْهانا لكنَّ قَوْمي وإن كانوا ذَوي عدَدٍ ليسُوا من الشر في شيء وإن هانا " يَجْزُون من ظُلْم أهل الظُّلم مَغْفِرَةَ ومِن إسَاءَةِ أهْل السُّوءِ إحْساناً " كأنّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لخشيته سواهُم من جميع الناس إنسانا " فليت لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا شَنُّوا الإغارَة فُرْساناً ورُكْبانا " ولم يُرد بهذا أنه وَصَفهم بالحِلْم ولا بالخَشْية لله وإنما أراد به الذلَ والعَجز كما قال النَجاشي في رَهْط تَميم بن مُقْبِل: قَبيلَتُه لا يَخْفِرون بِذِمَّة ولا يَظلمون الناسَ حبةَ خَرْدَل ولا يَرِدون الماءَ إلا عَشيةً إذا صَدَرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنْهَل وكل من نَفع في شيء فقد ضَرّ في شيء. وكذلك قول أشْجِع بن عمرو: يَرْجو ويَخْشىَ حالَتَيْك الوَرَى كأنَكَ الجنَّة والنَارُ ومن قولنا في هذا المعنى: من يَرْتجي غيرَك أو يَتَّقي وفي يَدَيْكَ الجودُ والباسُ ما عِشتَ عاشَ الناسُ في نِعْمة وإن تَمُتْ ماتَ بك النَاس وقال آخر: وليس فَتَى الفِتْيانِ مَن راحَ واغْتَدَى لشُرْبِ صَبُوح أو لِشرْب غَبُوقِ ولَكِنْ فَتَى الفِتْيانِ مَن راح واغتَدَى لضرًّ عدوٍّ أو لِنَفْع صدِيق
باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم
في كتاب للهِنْد: مَن لمِ يَرْكَب الأهوالَ لَم يَنَل الرًغائبَ ومَن ترك الأمرَ الذي لعلّه أن يَنال منه حاجَتَه مخافة ما لعَلّه يُوِقَّاه فليسَ ببالغٍ جَسيماً وإنّ الرَّجل ذا المروءة ليكُون خاملَ الذِّكْر خافض المَنْزلة فَتَأْبى مُروءتهُ إلا أن يَسْتَعْلَى ويَرْتَفع كالشُعلة من النار التي يَصُونها صاحبُها وتأبيَ إلا اْرتفاعاً. وذو الفَضْل لا يَخفي فَضله وإن أخفاه كالمِسْك الذي يُخْتم عليه ثم لا يمْنَع ذلك رِيحَه من التَذكّي والظُّهور. ومن قَوْلنا في هذا المعنى: ليسَ يَخفي فَضْلُ ذي الفض ل بزُورٍ وبإفْك والذي بَرز في الفَضل غني عن مُزَكِّي رُبما غُمِّ هِلالُ ال فِطْرفي لَيْلة شَكْ ثم جَلِّى وجهَه النُّو رُ فَجَلِّى كلَّ حَلْك إنَّ ظهر اليمِّ لاتَرْ كَبه من غير فُلْك ونظامَ الدُرّ لا تع قِده مِن غير سِلْك ليسَ يصفو الذهب الإبريزُ إلا بعد سَبْك هَذه جُمْلَة أَمْثا لٍ فمن شاء فَيَحْكى أبطلتْ كلِّ يَمانيًّ وشاميٍّ ومَكّي ليس ذا من صوْغ عَيْنيِّ ولا مِن نَسْج عَكِّي وقالوا: لا يَنبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدَى منزلتين: إما في الغاية من طَلب الدنيا وإما في الغاية من تَرْكها. ولا ينْبغي له أن يُرى إلا في مكانين: إمَّا مع المًلوك مكَرماً وإمَّا مع العُبَّاد مُتبتَلا. ولا يُعَد الغُرْم غُرْماً إذا ما ساق غنْماً ولا الغُنْمُ غُنْما إذا ما ساق غُرْما. ونظر معاويةُ وقال حبيبٌ الطائيّ: أَعاذِلَتي ما أخشنَ اللَّيْلَ مَرْكباً وأَخشن منه في المُلِمَّات راكِبُه ذَرِيني وأهوال الزَّمان أقاسِها فأهوالُه العُظْمى تَليها رغائبُه وقال كَعْبُ بنُ زًهير: ولَيْسَ لمن لم يَرْكب الهوْلَ بُغْيةٌ وليس لِرَحْل حَطًه الله حامِلُ إذا أنتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجهل والخَنَا أصبتَ حَليماً أو أصَابَكَ جاهل وقال الشًماخ: فتٍى ليس بالراضي بأَدنىَ مَعِيشةٍ ولا في بُيوت الحَيِّ بالمُتَولِّج فَتى يملأ الشِّيزَى ويُرْوِي سِنَانَه ويَضْرِبُ في رأس الكَميِّ المدَجَّج وقال امروء القَيْس: فَلو أن ما أَسْعَى لأدنىَ مَعيشةٍ كَفَاني ولم أطلبْ قليلٌ منَ المال ولكنَّما أسعَى لمَجْدٍ مُؤَثَّل وقد يُدْرِك المجدَ المُؤَثَّل أمثالي وقال آخر: لولا شَماتةُ أعداء ذوي حَسَدٍ أو أن أنالَ بِنَفْعي مَن يُرَجِّينِي لكنْ مُنافسةُ الأكفاء تَحْمِلني على أمورٍ أَراها سوف تُرْديني وكيفَ لا كيفَ أنْ أرضىَ بمنزلة لا دِينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني وقال الحُطَيئة في هجائه الزِّبْرِ قان بن بَدْر: دعَ المَكارِمَ لا تَرْحل لبُغْيتها واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَاعمُ الكاسي فاستعدَى عليه عمرَ بنَ الخطاب وأَسمعه الشعرَ فقال: ما أَرى مما قال بأساً قال: والله يا أميرَ المُؤمنين ما هُجِيت ببيت قطًّ أَشدً! " عليَّ " منه. فأرسل إلى حَسَّان فسأله: هل هجاه فقال: ما هجاه ولكنه سَلَح عليه. وقد أخذ هذا المعنى من الحُطيئة بعضُ المُحْدَثين فقال: إنِّي وجدتُ مِن المكارم حَسْبُكمٍ أنْ تَلْبسوا خَر الثِّياب وتشْبَعوا فإذا تُذوكرت المكارمُ مَرَّة في مَجلِس أنتم به فَتَقنّعوا وقالوا: مَن لم يَرْكب الأهوال لم يٍنل الرَّغائبَ ومَن طلب العظائمَ خاطرَ بعَظيمته. وقال يزيدُ بن عبد الملك لما أتي برأس يزيدَ بنِ المُهلّب فنال منه بعضُ جلسائه فقال: إنّ يزيدَ ركِبَ عَظيماً وطَلب جَسيماً ومات كريماً. وقال بعض الشعراء: لا تَقْنعن ومَطْلَب لك مُمْكن فإذا تضايقت المطالبُ فاقْنع ومما جُبِلِ عليه الحُر الكريم أن لا يَقنع من شرف الدنيا والآخر بشيءٍ مما انبسط له أملاً فيما هو أسنىِ منه درجةً وأرفعُ منزلةً ولذلك قال عمرُ بن عبد العزيز لدًكين الرِاجز: إنّ لي نفساَ تَوَّاقة فإذا بلغك أنِّي صِرْتُ إلى أشرف مِن منزلتي " هذه " فبعَينٍ ما أَرَينَّك - قال له ذلك وهو عامل " المدينة " لسليمان بن عبد الملك - فلما صارت إليَه الخلافةُ قَدِم عليه دُكَين فقال له: أنا كما أعلمتُك أنّ لي نَفْساً تَوَاقة وأنّ نَفْسي تاقت إلى أشرف منازل الدُّنيا فلما بلغتها وجدتُها تَتوق إلى أشرف منازل الآخرة. ومن الشاهد لهذا المعنى أنَّ موسى صلوات الله عليه - لما كلمه الله " عزَّ وجل " تكليماً - سأله النظرَ إليه إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرفَ من المنزلة التي نالها فانبسط أملُه إلى ما لا سبيلَ إليه ليُستدلّ بذلك على أنّ الحرّ الكريم لا يَقْنع بمنزلةٍ إذا رأى ما هو أشرفُ منها. ومن قولنا في هذا المعنى: والحرُّ لا يَكْتفي من نَيْل مكْرُمةٍ حتى يَرومَ التي من دُونها العَطَبُ يَسْعَى به أملٌ من دونه أجلٌ إنْ كفَّه رَهَب يَسْتَدْعِه رَغَب لذاك ما سالَ مُوسى ربّه أرِني أنظُرْ إليكَ وفي تسأله عَجَب يَبْغى التزيّدَ فيما نال من كرم وَهْو النَّجِيُّ لديه الوَحْيُ والكُتُبُ وقال تأبّط شرًّا في ابن عمّ له يَصفه برُكوب الأهوال وبَذْل الأموال: وإني لمُهْدٍ. مِن ثَنائي فقاصدٌ به لابن عم الصَدْقِ شُمْس بنِ مالكِ قَليلُ التَّشكِّي للْمًهِمِّ يُصيبُه كثيرُ النَوى شَتَى الهَوَى والمسالك يَظَلُّ بمَوْماة ويسمى بغيرها وَحيداً ويعْرورِي ظُهورَ المهالك ويسبق وَفْدَ الرِّيحِ من حيثُ يَنْتحى بمُنْخَرِق من شَده المُتَدَارك إذا خاط عينَيْه كرَى النَّوْم لم يزل لَه كاليءٌ من قلب شَيْحانَ فاتِك " ويَجعل عينَيْه رَبيئة قلبه إلى سَلَّةٍ من جَفْن أخلَقَ باتك " إذا هَزَّه في عَظْم قِرْنٍ تَهلَّلت نَواجذُ أفواه المَنايا الضّواحك وقال غيرُه من الشعراء " بل هي له ": إذا المرءُ لم يَحْتل وقد جَدَّ جِدُّه أضاعَ وقاسىَ أمرَه وهو مُدْبِرُ ولكنْ أخو الحَزْم الذي ليس نازِلاً به الخطبُ إلا وللقَصْد مبْصِر فذاك قَريعُ الدّهر ما عاش حُوّل إذا سُدّ منه مِنْخر جاش مِنْخر باب في الحركة والسكون قال وَهْب بن منبِّه: مكتوب في التوراة: ابن آدم خلقتك من الحركة " للحركة " فتحرّك وأنا معك. وفي بعض الكتب: ابن آدم: أمدُد يدك إلى بابٍ من العمل أفتح لك باباً من الرِّزْق. وشاور عُتْبة بن رَبيعة أخاه شَيْبةَ بن ربيعَة في النُّجْعة وقال: إني قد أجدبتُ ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلاً. قال له شَيبة: ليس من العِزِّ أن تَتَعَرَّض للذلّ. فذهبت مثلاً. " فقال عُتبة: لن يَفرِسَ الليثُ الطًّلا وهو رابض فذهبت مثلاً " أخذه حبيب فقال: أراد بأن يَحْوِي الغِنَى وهو وادعٌ ولن يَفْرِس اللَّيثُ الطًّلا وهو رابضُ وقيل لأعشى بكر: إلى كم هذه النّجعة والاغتراب ما تَرضى بالخَفْض والدَّعة فقال: لو دامت الشمسُ عليكم لَمَلِلْتُمُوها. أخَذه حبيبٌ فقال: وطُول مُقام المَرْءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ لديباجَتَيه فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ فإني رأيتً الشمسَ زِيدتْ مَحَبةً إلى الناس إِذ ليستْ عليهم بِسَرْمدِ قال أبو سَعيد أحمدُ بن عبد الله المَكيّ: سمعتُ الشَافِعيَّ يقول: قلت بيتين من الشِّعر وأنشدنا: إني أرى نَفْسي تَتُوق إلى مِصر ومِن دونها خَوْض المَهامه والقَفْرِ فوالله ما المحرِي أللْخَفْض وَالغِنَى أقاد إليها أم أقاد إلى قَبْري فدخل مصر فمات. وقال مُوسى بن عِمْران عليه السلام: لا تذُّمُوا السفرَ فإني أدركتُ فيه ما لم يُدْرك أحدٌ. يريد أنّ الله عزَّ وجلّ كلَّمه فيه تكليماً. وقال المأمون: لا شيء ألذُ من سفر في كِفاية لأنّك في يوم تَحل مَحلة لم تَحُلَّها وتُعاشر قوماً لم لا يَمنعنَّك خَفْضُ العيش في دَعة من أن تُبدِّل أوطاناً بأوطانِ تَلْقى بكل بلادٍ إن حَللْتَ بها أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان مع أن المُقام بالمقام الواحد يُورث المَلالة. وقال النبي ﷺ: زُرْغِبًّا تَزْدَدْ حُبا. وقالت الحكماء: لا تُنَال الرّاحةُ إلا بالتَعب ولا تُدْرك الدَعة إلا بالنَصب. وقال حبيب: بَصُرْتَ بالراحة الكُبرى فلم تَرها تُنال إلا على جِسر من التَعَب وقال أيضاَ: على أَنَّني لم أَحْوِ وَفْرًا مُجَمَّعا قَرٍرْتُ به إلا بشَمْل مُبَددِ ولم تًعْطِني الأيامُ نَوْماً مُسكِّناً ألذّ به إلا بنَوْم مشرِّد وقال أيضَاَ: وَرَكْب كأطْراف الأسِنَّةِ عرّسُوا على مثلها والليلُ تَسْطُر غَياهبُه لأمرٍ عليهم أن تَتمّ صدُورُه وليس عليهم أن تتمّ عواقبُه وبعدُ فهل يجوز في وَهْم أو يتمثَّل في عقل أو يصحُّ في قياس أن يُحصد زَرْع بغير بَذْر أو تُجْنى ثمرة بغير غَرْس أو يُورَى زَنْدٌ بغير قدْح أو يُثمِر مال بغير طَلَب. ولهذا قال الخليلُ بنُ أحمد: لا تصل إلى ما تحتاجُ إليه إلا بالوُقوف على ما لا تحتاجُ إليه فقال له أبو شَمِر المتكلِّم: فقد احتجتَ إذاً إلى مالا تحتاج إليه إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاجِ إليه إلا به قال " له " الخليلُ وَيْحك! وهل يَقْطَع السَّيفُ الحُسامُ إلا بالضرب أو يجْرِي الجَوَادُ إلا بالرّكْض أو هل تُنال نهايةٌ أو تُدْرَك غايةٌ إِلا بالسعي إِليها والإيضاع نحوَها وقد يكون الإكْداء مع الكدّ والخيْبة مع الهيْبة. وقال الشاعر: وما زِلْتُ أَقطع عَرْضَ البِلادِ من المشرقين إلى المغْرِبينِ وأِدَّرِع الخَوف تحت الدُّجَى وَأسْتَصحب الجًدْيَ والفَرْقَدَيْنِ وَأطْوِي وَأنْشُرُ ثوْبَ الهُموم إلى أَنْ رجعتُ بخُفَّيْ حُنَين إلى كم أكون على حالةٍ مقِلاً من المال صِفْرَ اليَدَين فَقِيرَ الصَّديق غنيّ العدوّ قليلَ الجَداء عنٍ الوالدين ومثْلُ هذا قليل في كثير وإنما يُحكم بالأعمّ والأغلب والنجْح مع الطّلب والْحِرمان لِلعَجْز أصْحب. وقد شرح حبيبٌ هذا المعنى فقال: هِمَم الفَتَى في الأرض أغْصانُ الغِنى غُرِست وليست كلّ حينِ تُورِقُ لكِ ألحاظٌ مِرَاضٌ ودَلُّ غيرَ أنّ الطَّرْفَ عنهِا أكل وأَرَى خَدَّيْكِ وَرْداً نضيراً جادَه من دمعِ عَيْنيّ طَل عَذْبة الألفاظ لم لم يَشِنْها كَرُّ تَفْنِيدٍ بِسمْعي يُضِلّ أنّ عَزَّى التي أنِفَتْبي عَنْ سواها كُثْرُها ليَ قُلّ ظَلْتُ في أفياء ظِلِّك حتى ظلّ فوقي للمَتالف ظِلّ ِأنّ أَوْلَى منكِ بي لَمَرامٌ لا يحُلّ الهَوَانُ حيثُ يَحُلّ ما مقامي وحُسامىِ قاطعٌ وسِناني صارمٌ مَا يُفَلُّ سَنائي مِثْلُ رَوْضةِ حَزْنٍ أَضْحَكَتْهَا ديمَةٌ تَسْتَهِلّ دليلى بين فَكَّيَّ يَعْلو كلَّ صَعْبِ رَيِّضٍ فَيذِلّ َثمِلاً من خَمْرة العَجْز أُسْقى نَهَلاً من بعده ليَ عَليّ إنْ يَكُنْ قُرْبك عِندي جليلا فأقلُّ الحَزْم منهَ أَجَلّ َأقعِيداً للقعيدة إلفاً كلُّ إلفٍ بي لعُدْمي مخِلّ لا يَشُك السِّمْع حين يراه أنّه بالبِيد سِمْع أزَلّ بين ثَوْبَيْهِ أخو عزمات يَتَقيها الحادثُ المصمئلِّ ليس تَنبُوِ بي رحالٌ وَبِيدٌ إن نَبَا بي مَنْزِلٌ وَمَحلّ فأقلِّي بعض عَذل مُقِلٍّ لا يَرَى صَرْفَ الزَّمان يَقِلّ نّ وَخْدَ العِيس إثْمَار رِزْق يَجْتنيها المُسْهَب المُشمعل لا تفلي حد عزمي بِلَوْمِ إنني لِلْعَزْم والَدَّهر خِلّ فالفَتى مَن ليس يَرعَى حِماه طَمعاً يوماَ له مُسْتَذِلّ مَن إذا خَطْبٌ أطلَّ عليه فله صبرٌ عليه مُطِلّ يَصْحب الليلَ الوليدَ إلى أنْ يَهْرَمَ الليلُ وما إنْ يمَلّ ويرى السَّير " قد " يًلَجْلج منه مُضغةً لكنّها لاتَصِلّ شمَرت أثوابُه تحت لَيْلٍ ثَوْبُه ضافٍ عليه رِفَلّ سأُضِيع النومَ كيما تَرَيْني ومضيعي مُعْظِمٌ لي مُجلّ باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد قال النبي ﷺ: العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط في سَبِيل الله. وقال ﷺ: اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السُّفلى وابدأ " بنَفْسك ثم " بمَنْ تَعُول. وقال عمرُ بن الخَطّاب: لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول: اللهم ارزُقْني وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة وإنّ الله تعالى إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض وتلا قولَ الله جلّ وعلا: " فإذا قُضيت الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُم تُفلحُون ". وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي: احرصْ على ما يَنفعك ودَعْ كلامَ الناس فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة. ومثلُه قولُ مالك بن دِينار: مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه. وقال كطاهر بن عبد العزيز: أَخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام: لا يَنْقص الكاملَ مِن كماله ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه وقال عمرُ بن الخطّاب " رضى الله عنه ": يا معشرَ القُرَّاء التًمسوا الرِّزْق ولا تَكُونوا عالةً على الناس. وقال أكثمُ بن صَيْفيّ: مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ غيره. وقال النبي ﷺ: خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا دُنياه لآخرته. وقال عمرو بن العاص: اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً. وذُكر رجلٌ عند النبي ﷺ بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل وقالوا: صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله ﷺ أعبَدَ منه كان لا يَنْفتل من صلاة ولا يُفْطر من صيام. قال النبي ﷺ: فمن كان يَمُونه ويَقُوم به قالوا: كلّنا قال: كلُّكم أعبدُ منه. ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد فقال: ما تصنع قال: أتعبد قال: ومَن يقوم بك قال: أخي قال: أخوك أعبدُ منك. وقد جعل الله طَلَب الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه من الإنس والجنّ والطير والهوام منهم بتَعْليم ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر " من الناس " يَطْلبونه بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال. باب في فضل المال قال الله تعالى " المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً ". وقال النبي ﷺ للمُجاشِعيّ: إن كان لك مال فلك حسَب وإن كان لك خُلًق فلك مُروءة وإن كان لك دِين فلك كَرم. وقال عمرُ بن الخطّاب: حَسَب الرجل مالُه وكرَمه دِينه ومُروءته خُلُقُه. وفي كتاب الأدب للجاحظ: اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم وعَوْنٌ على الدِّين وتأليف للإخوان وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه ومَن لم يكن بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا. وقال حكيم لابنه: يا بُنيّ عليك بطَلَب المال فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب عدوّك لكفي. وقال عبدُ الله بن عبّاس: الدُّنيا العافية والشَّباب الصِّحة والمُروءة الصبر والكرِم التَّقْوى والحَسَب المال. وكان سعدُ بن عُبادة يقول: اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ فإنه لا مَجد إلا بفعَال ولا فَعال إلا بمال. وقالت الحُكماء: لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه ويَحْمي به مُروءته ويَصِل به رَحِمه. وقال عبد الرحمن بن عَوْف: يا حَبذا المالُ أصونُ به عِرْضي وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ: المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان. وقال النبي ﷺ: نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله الغنى وتَلا " وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم " وقولَه: " اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ . وقال خالدُ بن صفْوان لابنه: يا بُنَيَّ أوصيك باثنتين لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما: درْهمك لمعاشك ودِينك لمعادك. وقال عُروة بن الوَرد: ذَرِيني للغِنَى أسعى فإنِّي رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ وأحقَرُهم وأهونُهم عليهم وإنْ أمسى له حَسب وخِير يُباعده القريبُ وتَزْدرِيه حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير وتُلْفِي ذا الغنى وله جَلالٌ يكاد فؤادُ صاحبه يَطير قلِيل ذَنْبُه وَالذنْبُ جم ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور قَلِيلٌ ذَنْبُه وَالذَّنْبُ جم ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور سأكسبُ مالاً أو أموتَ ببَلدة يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي وقال آخر: سأعْمل نَصَّ العِيس حتى يَكُفَّني غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ فَللْموتُ خيرٌ من حياة يُرى بهاَ على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ إذا قال لم يُسْمع لِحُسْن مَقاله وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ كأنّ الغِنَى عن أهْله - بُورك الغِنَى - بغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ الرِّياشيّ قال: أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش: حيْران يَعلم أنّ المالَ ساقَ له ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ لولا ثلاثون ألفاً سُقْتها بِدَراً إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق فمن يَكُن عن كرام الناس يَسْألني فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق وقال آخر: أجلّكَ قوم حين صِرْتَ إلى الغِنَى وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ ولو كنتَ ذا عقل ولم تُؤْتَ ثروَةً ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل فشرًّف ذَوِي الأموال حيثُ لَقِيتَهم فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ وأنشد أبو مُحَلَم لرجل من وَلد " طَلِبَة بن " قَيسى بن عاصم: وكنتُ إذا خاصمتُ خَصماً كبَبْتُه على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ فلمّا تنازعنا الخُصومة غُلِّبت عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم وأنشد الرِّياشي: لم يَبْقَ مِن طَلب الغِنَى إلا التَّعَرضُ للحُتُوف فَلأَقْذِفَنَّ بمًهْجَتي بين الأسِنَّة والسيوف ولأطْلُبَنَّ ولو رَأيتُ الموتَ يلمعُ في الصُّفوف وكان لأحَيْحَة بن الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح فَدَخَل بستاناً له فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها فعُوتب في ذلك فقال: تمْرَة إلى تَمرة تَمرات وجَمل إلى جَمل ذَوْد. ثم أنشأ يقول: إني مُقيم على الزَّوْراء أعمرُها إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال فلا يَغُرَّنك ذو قُرْبى وذو نَسب من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال كلّ النداء إذا ناديتُ يَخْذًلني إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي قالوا نأيتَ عن الإخوان قلتُ لهم مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي " كان الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان الارْدُن وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف فلما أكثر عليه كَتب إليه: إِذَا المَرْء لم يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا وصار عَلَى الأدنين كَلاًّ وأوشَكت صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا فَسِرْ في بِلاد الله والتَمس الغنَى تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا فما طالبُ الحاجات مِنْ حيثُ تبتغى من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا ولا تَرْضَ مِنْ عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا وقال بعضُ الُحَكَماء: المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ. وأنشد: أرَى ذا الغِنَى في النَّاس يَسْعَون حولِه فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا فذلك دَأْبُ النَّاس ما كان ذا غِنَى فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا وأنشد: ما النَّاس إلا مع الدُّنيا وصاحبها فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا صنوف المال قال مُعاوية لصَعْصعة بن صُوحان: إنما أنت هاتِف بلسانك لا تَنْظُر في أود الكلام ولا في استقامته فإن كنتَ تَنْظُر في ذلك فأخْبرني عن أفضل المال. فقال: والله يا أمير المؤمنين إني لأدع الكلامَ حتى يَخْتمر في صَدْرِي فما أرْهِف به ولا أتَلَهَق فيه حتى أقيم أوده وأحَرِّر مَتْنه. وإنّ أفضلَ المال لبرة سَمْراء في تُرْبة غَبْراء أو نَعْجَة صَفْراء في رَوْضة خضراء أو عَينْ خَرَّارة في أرض خَوَّارة. قال معاوية: لله أنتَ! فأين الذِّهب والفِضِّة قال: حَجَران يَصْطَكان إن أقبلتَ عليِهما نَفدا وإن تركتَهما لم يزيدا. وقيل لأعرابيَّة: ما تَقُولين في مائة من المَعز قالتِ: قني قيل لها: فمائة من الضّأن قالت: غِنَى قيل لها: فمائة من الإبل قالت: مُنَى. وقال عبدُ الله بن الحسن: غَلّةُ الدُور مسألة وغَلّة النَّخل كَفاف وغَلة الحَبّ مِلْك. وفي الحديث: أفْضل أموالكم فَرَسٌ في بَطْنها فرس يَتْبعها فرس وعَينْ ساهرة لعَيْن نائمة. وأنشد فَرج بن سلام لبعض العِراقيّين: ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرْضا إني رأيتُ الأرض يَبقى نَفْعُها والمال يأكل بعضه بعضا واحذَرْ أناساً يظْهرون محبَّة وعُيونُهم وقُلوبُهم مَرْضىَ تدبير المال قالوا: " لا مالَ " لأخرَق ولا عَيْلة على مُصلح وخيرُ المال ما أطعمك لا ما أطعمتَه. وقال صاحبُ كليلة ودِمْنة: لِيُنْفِق ذو المال مالَه في ثلاثة مواضع: في الصَّدقة إن أراد الآخرةَ وفي مُصانعة السُّلطان إن أراد الذِّكْر وفي النِّساء إن أراد " نَعيم " العيش. وقال: إنّ صاحبَ الدنيا يَطْلب ثلاثة ولا يُدْركها إلاّ بأربعة فأما الثلاثة التي تُطلب: فالسَّعة في المعيشة والمنزلة في النَّاس والزاد إلى الآخرة. وأما الأربعة التي تُدرك بها هذه الثلاثة: فاكتساب المال من أحسن وُجوهه وحُسْن القيام عليه ثم التَّثْمير له ثمّ إنْفاقه فيما يُصْلِح المَعِيشةَ ويُرْضى الأهلَ والإخوان ويَعًود في الآخرة نَفْعه فإن أضاع شيئاً من هذه الأربعة لم يُدْرك شيئاً من هذه الثلاثة إن لم يَكْتسب لم يكنْ له مالٌ يِعيش به وإنْ كان ذا مال واكتسابِ ولم يُحسن القيامَ عليه يُوشِك أن يَفْنى ويَبْقى بلا مال وإن هو أَنْفقَه ولم يُثَمِّره لم تمنعَه قِلّةُ الإنفاق من سُرْعة النَّفاد كالكُحْل الذي إنما يُؤخذ منه على المِيل مثلُ الغبار ثم هو مع ذلك سرَيعٌ نفادُه وإن هو اكتَسب وأَصْلح وثَمِّر ولمِ يُنفق الأموالَ في أبوابها كان بمنزلة الفقير الذي لا مالَ له ثم لا يَمنع ذلك مالَه من أن يُفارقَه ويَذهب حيثُ لا مَنْفعة فيه كحابس الماء في المَوْضع الذي تَنْصَبّ فيه المياه إن لم يَخْرج منه بقَدْر ما يَدْخل فيه مَصَل وسال من نواحيه فيَذْهب الماء ضَياعا. وهذا نظير قول الله تعالى: " والذينَ إِذَا أَنْفَقُوا لمْ يُسْرِفوا ولَم يَقْتُرُوا وَكانَ بَين ذلِكَ قَوَاماً " و وقولِه عز وجلّ لنبيّه ﷺ: " وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كلً البسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ". ونظر عبد اللهّ بن عباس إلى دِرْهم بيد رَجُل فقال له: إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك. يريد أنه لا ينتفعُ به حتى يُنْفِقَه ويَسْتفيد غيرَه مكانَه. وقال الحُطَيئة: مفيد ومِتْلاف إذا ما سألتَه تَهلَّل وأهتزّ اهتزازَ المُهَنّدَ وقال مُسْلِم بن الوَليد: لا يَعْرِف المالَ إلا رَيْثَ يُنْفِقه أو يومَ يَجْمعه للنَّهب والبَدَدِ وقال آخر: مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مال وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ: مَن كان في يده شيءٌ فَلْيُصْلِحْه فإنّه في زمان إن احتاجَ فيه كان أولَ ما يَبْذُله دينُه. وقال المُتلَمِّس: وحَبْسُ المال أَيْسَرُ من بُغَاهُ وضَرْب في البِلادِ بغَيْر زاد سَعْد القَصِير قال: وَلاّني عُتْبة أموالَه بالحِجاز فلما ودّعته قال لي: يا سَعْد تعاهدْ صغير مالي " فَيَكْثُرَ " ولا تُضيِّع كثيرَه فَيَصْغُر فإنه ليس يَشْغلني كثير مالي عن إصلاح قَليله ولا يَمْنعني قليلُ ما في يدي عن الصبر على كثير مما يَنُوبني. قال: فقَدمْت المدينةَ فحدّثت بها رجالاتِ قُريش ففرَّقوا بها الكُتب على الوُكلاء. الإقلال قال أَرِسْططاليس: الغِنَى في الغُرْبة وَطَن والمقلّ في أهله غريب. أخذه الشاعرُ فقال: لَعَمْرُك ما الغريبُ بذي التنائي ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ إذا ما المرء أَعْوزَ ضاقَ ذَرْعاَ بحاجته وأَبعدَه القريب وقال إبراهيمُ الشَّيباني: رأيتُ في جدار من جُدًر بيت المقدس " بيتين مكتوبين بالذَّهب: وكُلّ مُقلٍّ حين يَغْدو لحاجةٍ إلى كُل مَن يَلْقى من النَّاس مُذْنِبُ وكان بَنُو عَمِّي يقولون مَرْحباً فلمّا رأوْني مُقْتِراً مات مَرْحب ومِن قَوْلنا في هذا المعنى: اقد أسْقطتْ حقّي عليك صَبابتي كما أسْقط الإفْلاسُ حقَّ غَرِيم وأعذَرُ ما أدمى الجُفُونَ من البُكا كريمٌ رأى الدًّنيا بكفِّ لَئِيم أرى كلّ فَدْمٍ قد تَبَحْبَح في الغِنَى وذو الظَّرف لا تَلْقاه غيرَ عَديم قال الحسن بن هانئ: الحمدُ لله لَيس لي نَشَبٌ فَخَفَّ ظَهْري ومَلَّني وَلدِي مَن نَظَرتْ عَيْنُه إليّ فَقَد أحاطَ عِلْماً بما حَوَته يَدِي وكان أبو الشَمَقْمق الشاعر أديباً ظريفاً محارفاً صُعْلوكاً مُتبرَماً قد لَزم بيتَه في أطْمار مَسْحوقة وكان إذا استَفْتح عليه أحدٌ بابَه خرج فَنَظر من فُرَج الباب فإن أعجبه الواقفُ فَتح له وإلا سَكَت عنه. فأقبل إليه بعضُ إخوانه فدخل عليه فلما رأى سُوء حاله قال له: أبْشر أبا الشَّمَقْمق فإنّا رَوَينا في بَعض الحديث أنّ العارين في الدنيا هم الكاسُون يومَ القيامة. قال: إن كان والله ما تقول حقًّا لأكونَنَّ بَزَازاً يوم القيامة ثم أنشأ يقول: أنا في حالٍ تعالى الله ربِّي أيّ حالِ ولقد أهزلت حتى محت الشَّمسُ خَيالي مَن رَأى شَيْئاً مُحالاَ فأنَا عَين المحال ولقد أفلستُ حتّى حَلَّ أكلي لِعيَالَي في حِرام النَّاس طُرًّا مِن نِسَاء ورجال لو أرَى في النَّاس حُرًّا لَم أكنْ في ذا المِثَال وقال أيضاً: أتُراني أرَى من الدَّهر يوماً ليَ فيه مَطِيَّة غيرُ رِجْلي ًكلّما كُنتُ في جَميع فقالوِا قًرِّبُوا للرَّحيل قَرًبتُ نَعْلِى حيثُما كنت لا أخَلِّف رَحْلا مَن رآني فقد رآني ورَحْلي وقال أيضاً: لو قد رأيتَ سَرِيري كنتَ تَرْحمني الله يَعلم ما لي فيه تَلْبيسُ والله يَعلم ما لي فيه شابكةٌ إلا الحَصيرة والأطْمار والدِّيسُ وقال أيضاً: بَرَزت من المَنازل والقِباب فلم يَعْسُر على أحدٍ حِجَابي فمنزليَ الفضاءُ وَسقفُ بَيْتي سماءُ الله أو قِطَع السَّحاب ولا انشَقَّ الثرى عن عُود تَخْتٍ أؤمِّل أنْ أشُدّ به ثِيابي ولا خِفتُ الإبَاقَ على عَبِيدي ولا خِفْتُ الهلاك على دَوَابي ولا حاسَبْتُ يوماً قَهْرماناً مُحاسبةً فأَغْلَظ في حِسابي وفي ذا راحةٌ وفَراغُ بالٍ فَدابُ الدَّهرِ ذا أبداً ودَابي وفي كتاب للهِنْد: ما التَّبَع والإخْوان والأهلُ والأصدقاء والأعوان والحَشم إلا مع المال وما أرى المُروءة يُظهرها إلا المال ولا الرّأيَ والقُوّة إلا بالمال ووجدتُ مَن لا مَالَ له إذا أراد أن يتناول أمراً قَعد به العُدْم فيبقى مقَصرأً عما أراد كالماء الذي يَبْقى في الأوْدية من مَطر الصَّيف فلا يَجْري إلى بحر ولا نهر بل يَبْقى مكانَه حتى تَنشَفَه الأرضُ ووجدتُ مَن لا إخوانَ له لا أهلَ له ومَن لا وَلد له لا ذِكر له ومَن لا عَقْل له لا دُنيا له ولا آخرةَ له ومَن لا مال له لا شيءَ له لأن الرجل إذا افتقر رَفَضَه إخوانُه وقَطعه ذوو رَحمه وربما اضطرتْه الحاجة لِنفْسه وعياله إلى التماس الرِّزق بما يُغَرِّر فيه بدينه ودُنياه فإذا هو قد خَسِر الدُّنيا والآخرةَ فلا شيء أشدُّ من الفقر. والشَّجَرةُ النابتة على الطريق المأْكولة من كلِّ جانب أمثلُ حالاً من الفقير المُحتاج إلى ما في أيْدي الناس والفَقرُ داعٍ صاحِبَه إلى مقْت الناس ومُتْلِف للعَقْل والمُروءة ومُذْهب لِلعلْم والأدب ومَعْدن للتُّهمة ومَجْمَع للبَلايا. ووجدتُ الرجلَ إذا افتقر أساء به الظنَّ مَن كان له مُؤْتمناً وليس مِن خَصلة هي للغنيِّ مَدْح وزَيْن إلا وهي للفَقِير ذَمٌ وشَيْن فإن كان شُجاعاً قيل أهْوج وإن كان جَواداَ قيل مُفْسد وإن كان حَليماً قيل ضَعيف وإن كان وَقُوراً قيل بليد وإن كان صَمُوتاً قيل عَي وإن كان بليغاً قيل مِهْذار. فالموت أهونُ من الفقر الذي يَضْطر صاحبَه إلى المسألة ولا سيَّما مسألة اللئام فإنَّ الكريم " لو كُلِّفَ " أن يدخل يده في فَم تنِّين ويْخرجَ منه سُمًّا فيَبْتَلِعَه كان أخفَّ عليه من مسألة " البَخيل اللئيم. السؤال قال النبي ﷺ: لأنْ يأخذ أحدُكم أحْبُلَه فَيَحْتطب بها على ظَهره أهونُ عليه من أن يَأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهّ من فَضْله فيسأله أعْطاه أو منعه. وقال: مَن فَتح علٍى نفسه باباً من السًّؤال فَح الله عليه سَبْعين باباً من الفَقر. وقال أكثم بن صَيْفِيّ: كلّ سُؤال وإن قَلَّ أكثرُ منِ كلّ نَوَال وإن جَلَّ. ورَأى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه رجلا يَسأل بعَرفات فقَنَّعَه بالسَّوط وقال: وَيلك! أفي مِثل هذا اليوم تَسأل أحداً غيرَ الله وقال عبدُ الله بن عباس: المساكينُ لا يَعُودون مَريضاً ولا يَشْهَدُون جِنازةً ولا يَحْضُرُون جُمعة وإذا اجتمع الناسُ في أعيادهم ومَساجدهم يَسألون الله منِ فَضْلِه اجتمعُوا يسألون الناسَ ما في أيديهم. وقال النّعمان بن النُذر: مَن سأل فوْق حَقِّه استحقَّ الحِرْمان ومَن أَلْحَف في مَسْألته استحقَّ المَطْل والرِّفق يُمْن والخُرْق شُؤْم وخَير السَّخاء ما وافق الحاجة وخَير العَفْو مع المَقْدِرة. وقال شُرَيح: مَن سأل حاجةً فقد عَرض نفْسَه على الرِّق فإن قَضَاها المسئولُ استعبده بها وإن رَدًه عنها رجعَ كلاهما ذليلاً: هذا بذُلِّ البُخْل وذاك بذُلِّ الرَّد. وقال حَبيب: كُلّ السُّؤال شَجىً في الحَلْقِ مُعْترض من دونه شَرَقٌ من تحته جَرض الخُشَنى قال: قال أبو غَسان: أخبرني أبو زيد قال: سأل سائلٌ بمسجد الكوفة وقتَ الظهر فلم يُعْطَ شيئاً فقال: اللهم إنّك بحاجتي عالم لا تُعَلَّم أنت الذي لا يُعْوِزك نائل ولا يُحفيك سائل ولا يَبْلغ مَدْحَك قائل أسألك صبراً جميلا وَفَرَجاً قريباً وبصَراً بالهُدى وقُوَّة فيما تُحب وتَرْضى. فتبادَروا إليه يُعْطونه فقال: وإلله لا رَزأتكم الليلةَ شيئاً " وقد رفعتُ حاجتِي إلى الله " ثم أنشأ يقول: ما نالَ باذلُ وَجْهه بِسُؤاله عِوَضاَ ولو نال الغِنى بِسُؤال إذا النًوَال مع السُّؤَال وَزَنْتَه رجَح السؤال وشالَ كلُّ نَوال وقال مسْلم بن الوليد: ِسل الناسَ إني سائِلُ الله وَحده وصائنُ عِرْضي عن فُلانٍ وعن فُل وقال عَبيد بن الأبرص: َمنْ يَسْأَل الناس يَحْرِموه وسائلُ الله لا يَخِيبُ وقال ابن أبي حازم: َلطَيُّ يومٍ ولَيْلتين ولُبْس ثَوْبين بالبَين أَهْوَنُ من مِنَةٍ لقَوْم أغضُّ منها جفُونَ عَيْني لأحْمَدُ اللهّ حين صارتْ حوائجي بَيْنه وبَيْني ومن قولنا في هذا المعنى: سُؤَالُ الناس مِفْتَاح عَتِيدٌ لِبَاب الفَقْرِ فألطف في السًّؤَال " وَرَوَى أشعبُ الطَّمَّاع عن عبد الله بن عُمر عن النبي ﷺ أنه قال: يَحْشرٌ اللهّ عز وجل يوم القيامة قوماً عاريةً وجوههم قد أذهب حياءَها كثرةُ السؤال ". سؤال السائل من السائل مدح أبو الشَّمَقْمق مروانَ بن أبي حَفصة فقال له: أبا الشَّمقمق أنت شاعرٌ وأنا شاعر وغايتنا كلَّنا السؤال. وذَكر أعرابيٌ رجلاً بالسُّؤال فقال: إنّه أسألُ من ذي عَصَوَين. وقال حبيب: لم يَخْلُق الرحمنُ أحمقَ لِحْيةً من سائلٍ يَرْجو الغِنى من سائل الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر النّحويّ قال: قَدِمْتُ من سَفر فدخل عليّ ذو الرُمة الشاعر فعَرضتُ أن أعطيه شيئاً فقال: " كل " أنا وأنتَ نأخذ ولا نُعْطى. الشيب قال قيسُ بن عاصم: الشيبُ خِطَامُ المَنيّة. وقال غيرُه: الشيبُ نذيرُ الموت. وقال النُّميريّ: الثيبُ عُنوان الكِبَر. وقال المُعْتَمر بن سُليمان: الشيبُ مَوت الشّعَر ومَوت الشّعَر عِلّة لمَوْت البَشر. وقال أعرابيّ: كنتُ أنكِر البَيْضاء فصِرْتُ أنكِر السَّوداء فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدَل. وقيل للنبيّ ﷺ: عَجِل عليك الشّيبُ يا رسولَ الله! قال: شَيَّبَتْني هُود وأخواتُها. وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان: عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين! قال: شَيَّبَني اْرتقاء المَنابر وتَوَقُّع اللّحن. وقيل لرجل من الشًّعراء: عَجِل عليك الشّيبُ! فقال: وكيف لا يَعْجَل وأنا أَعْصرُ قَلْبي في عمل لا يُرْجَى ثَوابُه ولا يُؤْمَن عِقابُه. وقال حبيبٌ الطائي: غَدَا الشّيْبُ مختَطًّا بِفَودِيَ خُطّةً طريقُ الرّدىَ منها إلى النَّفْس مَهْيَعُ هُو الزَوْرُ يُجْفي والمُعاشر يُحْتوى وذو الإلْف يُقْلَى والجديدُ يُرِقّعُ له مَنْظر في العَينْ أبيضُ ناصعٌ ولكنه في القلْب أسْود أسْفع بَكيتُ لقُرْبِ الأجلْ وبُعْدِ قَوات الأملْ ووَافِدِ شيْب طَرَا بعِقْبِ شبابٍ رَحَل شَباب كأنًْ لم يَكُن وشيبٌ كأنً لم يزَل طَواك بَشِيرُ البَقا وجاء بشير الأجل " وقال أيضاً: لا تَطْلُبَنْ أثراً بعَينْ فالشَيْب إحدَى الميتَتَين أبْدَى مَقابحَ كلِّ شَين ومَحَا مَحاسِنَ كل زَيْن فإذا رَأتكَ الغانيا تُ رَأينَ منك غُرابَ بَين ولرُيما نافَسْنَ في ك وكُنَّ طَوْعاً لليَدَين أيامِ عممك الشَّبا بُ وأنا سَهل العارِضيَنْ حتى إذا نزل المَشي بُ وَصِرْتَ بين عِمَامتين سَوْدَاءَ حالكةٍ وبَي ضاءِ المَناشرِ كاللُجَين َمزَج الصُّدُودُ وِصاله ن كُنَّ أمراً بَين بَين وصَبرن ما صَبر السَّوا د على مُصانَعة ومَينْ قَفين شرّ َقَفِيَّة وأخذْن منك الأطيَبَينْ فاقْنَ الحَياءَ وَسَلِّ نف سك أو فَنادِ الفَرْقَدَين ولَئِنْ أصابتْك الخُطو بُ بكل مكروه وشَين فلقد أَمِنْتَ بأن يُصِب بك ناظرٌ أبداً بعين وقال حبيب الطائيّ: نظرتْ إليّ بعين مَن لم يَعْدِل لمّا تَمَكّن حبُّها من مَقْتَلي لمِّا رأتْ وَضَح المَشِيب بلِمَّتي صَدَّت صُدودَ مُجانِب مُتحمِّلَ فجعلتُ أطلب وصلها بتلطفٍ والشَّيْبُ يَغْمِزُها بأنً لا تَفْعلي وقال آخر: صَدَّت أمامةُ لمَّا جِئتُ زائرَها عنِّي بمَطْروفةٍ إنسانُها غَرقُ وراعها الشيبُ في رأسي فقلتُ لها كذاكَ يَصفرُّ بعد الخُضْرة الوَرَق وقال محمد بن أميّة: رأتني الغواني الشّيبُ لاح بعارضي فأَعرضنَ عنِّي بالخُدود النّواضِرِ عَيرتني بشيب رأسي نَوار يا ابنةَ العمِّ ليس في الشّيب عارُ إنَّما العارُ في الفِرار من الزّح ف إذا قِيل أينَ أينَ الفِرار ومن قولنا في الشّيب: بِدا وَضَحُ المَشيبِ على عِذَارِي وهَل ليلٌ يكونُ بلا نَهارِ وأِلبسني النُّهى ثوباً جديداً وجَرَّدني من الثَوْب المُعار شرَيت سوادَ ذا ببياض هذا فَبدَّلتُ العِمامةَ بالخِمَار وما بِعْتُ الهوَى بَيْعا بشَرْط ولا استثنيت فيه بالخِيَار ومن قولنا فيه: قالوا شَبابُك قد وَلَّى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كَرِّ الجَديدَيْنِ صِلْ من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبة فأطيبُ العَيْش وصلٌ بين إلْفَين وَاقطَعْ حَبَائلَ خِدْنٍ لا تُلاَئمهُ فرَّبمَا ضاقَتِ الدُّنيا على اثنين ومن قولنا فيه: جارَ المَشيبُ على رَأسي فَغَيَّره لمّا رَأَى عندنا الحُكَّامَ قد جارُوا َسوادُ المَرْءِ تُنْفِدُه اللَّيَالِي وإِنْ كانت تَصير إلى نَفَادِ فأَسوده يَعود إلى بَياض وأبيضه يَعود إلى سَواد ومن قولنا أيضاً: أطلالُ َلهْوك قد أَقوَتْ مَغانيها لم يَبْقَ من عَهدها إلا أَثافيها هذِي المَفَارق قد قامت شواهدُها على فَنائِك والدُّنيا تُزَكِّيها الشَّيبُ سُفْتَجة فيها مُعَنْونة لم يَبْقَ إلاّ أن يسحيها ومن قولنا أيضاً: ُنجوم في المَفارق ما تَغُور ولا يَجْرِي بها فلكٌ يَدُورُ كأنّ سواد لِمَّته ظلاً أغارَ من المَشيبِ عليه نُور ألا إنَّ القَتِيرَ وَعِيدُ صِدْق لنا لو كان يَزْجُرنا القَتير نذيرُ الموت أرسلَه إلينا فكذَّبْنا بما جاء النَّذير وقُلنا للنُّفوس لعلِّ عُمْراً يطول بنا وأطولُه قَصير متى كُذبتْ مواعدُها وخانت فأوَّلُها وآخرُها غُرور ولم ألقَ المُنَى في ظلِّ لَهْوٍ بأقمارٍ سحائبُها السُّتور " ولآخر: والشّيبُ تَنْغيصُ الصِّبا فاقض اللبابةَ في الشَّبابْ وقال ابن عبّاس: الدنيا الصحّة والشباب. ولبعضهم: في كل يوم أرى بَيضاء قد طَلَعتَ كأنَّما طَلعت في ناظِر البَصرِ لَئن قصَصْتُكِ بِالمِقْرَاض عن نَظري لَمَا قَصصتًكِ عن هَمِّي ولا فِكَري ولابن المُعتزّ: جاء المَشيب فما تَعِسْتُ به ومَضى الشَّباب فما بُكايَ عليْه وقال أيضَاَ: ماذا تُريدين من جَهْلي وقد غَبَرت سِنُو شَبابي وهذا الشًيبُ قد وَخَطَا أرفِّع الشَّعرة البَيْضاء مُلْتقطاً فيُصْبِح الشَيبُ للسوداء مُلتقِطا وسَوفَ - لا شَكّ - يُعْييِني فأتْركه فطالما أعْمِل المِقْراضَ والمُشُطا " الشباب والصحة قال أبو عمرو بن العَلاء: ما بَكت العربُ شيثاً ما بَكَت الشباب وما بلغت به ما يستحقّه. وقال الأصمعيّ: أحسن أنماط الشِّعر المَرائي والبُكاء على الشَباب. وقيل لكُثَيِّر عَزًة: ما " لك لا " تقول الشعر قال: ذهب الشبابُ فما أطرب ومات عبدُ العزيز فما - أرغب. وقال عبد الله بن عبّاس: الدُّنيا العافية والشّباب الصحة. وقال محمود الورّاق: أليسَ عَجِيباً بأن الفَتَى يُصاب ببَعضٍ الذي في يَدَيْهِ فمن بين باكٍ له مُوجَع وبين مُغذّ مُعَزٍّ إليه ويَسْلًبه الشيبُ شَرْخَ الشبا بِ فليس يُعزِّيه خَلْقٌ عليه قال ابن أبي حازم: َولَّى الشَّبابُ فخَلِّ الدَّمعَ ينْهملُ فَقْدُ الشِّبابِ بِفَقْدِ الروح مُتَّصلُ لا تُكْذَبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها مِنَ الشَّباب بيومٍ واحدٍ بَدَل وقال جرير: وَلَّى الشبابُ حَمِيدةً أيامُه لو كان ذلك يُشْترى أو يُرْجَعُ وقال صريعُ الغواني: سَلْ عيش دهرِ قد مَضتْ أيامُه هل يَسْتطيع إلى الرُّجوع سَبيلا وقال الحسنُ " بن هانئ ": وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ل وَفَوْقي من الصِّبا أمراءُ تِرْب عَبْث لرَبْطتي فَصْلُ ذَيْل ولرأْسي ذًؤَابةٌ فَرْعاءُ بقِناع من الشَباب جديدٍ لم ترَقَعه بالخِضاب النَساءُ قبل أنْ يَلْبَس المَشيبَ عِذارى وتبلى عمامتي السوداء وقال أعرابي: للهّ أيامَ الشباب وعَصره لو يُستعار جديدُه فيُعارُ ما كان أقصرَ ليلَه ونَهَارَه وكذاك أيامُ السُّرور قِصارُ ومن قولنا في الشباب: وَلّى الشبابُ وكنتَ تَسكن ظِلّه فانظُر لنفسك أَيَّ ظلٍّ تَسكنُ ونَهى المَشيبُ عن الصبا لو أنّه يُدْلى بحُجَّته إلى مَنْ يَلْقن ومن قولنا فيه: حَسَر المَشيبُ قِناعَه عن رأسه وصَحَا العواذلُ بعد طول مَلام فكأنَّ ذاك العيشَ ظل غمامةٍ وكأنّ ذاك اللهوَ طيفُ منام " ومن قولنا فيه: ولو شِئتُ راهنتُ الصَبابةَ والهوَى وأَجْريتُ في اللّذات من مائتين وأسبلتُ من ثَوْب الشّباب وللصّبا عليّ رداءٌ مُعْلَم الطَرَفَينْ " وقال آخر: إِنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعرِ الأس ود ما لم يُعاصَ كان جُنونَا وقال آخر: قالتْ عَهِدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها إنّ الشّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ومن قولنا في الشباب: كنتُ إلْفَ الصِّبا فَوَدَّعني وَداعَ مَن بانَ غيرَ مُنْصَرفِ أيامُ لهوِي كظِلِّ إسْحَلة وذا شَبابي كروضة أنًف ومن قولنا فيه: شبابي كيف صِرْتَ إلى نَفَاد وبُدِّلتَ البياضَ منَ السَّوادِ فِراقُك عَرًف الأحزان قَلبي وفَرَّق بين جَفْني والرُّقاد فيا لنعيم عَيْشِ قد تَولى ويا لغليل حُزْنٍ مستفاد كأني مِنْك لم أرْبَع برَبْع ولم أَرْتَدَّ به أحْلَى مَراد سَقى ذاك الثَّرَى وَبْلُ الثَرَيَّا وغادىَ نَبْته صوْبُ الغوادِي فكم لي من غَلِيلٍ فيه خافٍ وكم لي مِن عَويلٍ فيه بادِي زمانٌ كان فيه الرُّشد غَيّا وكان الغَيُّ فيه من الرًشاد يُقبِّلني بدلٍّ من قَبُول ويُسْعدني بوٍصْل من سُعاد وأجنُبه فيُعطِيني قياداً ويَجْنُبني فأعْطيه قِيَادي