→ الآية رقم 53 | الجامع لأحكام القرآن – سورة البقرة الآية رقم 54 القرطبي |
الآية رقم 55 ← |
الآية 54 { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } [1] ثم قال: { وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ } [2] وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري... أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى: { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } [3] أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } [4] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا.
قوله تعالى: { يَا قَوْمِ } منادى مضاف وحذفت الياء في "يا قوم" لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت: يا قوما وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول: قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
قوله تعالى: { إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: { ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [5] وقال { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ } [6] ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.ثم قوله تعالى: { بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } قال بعض أرباب المعاني: عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله
قوله تعالى: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف؟ قال { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل: إماتة الحركة وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري: لما قيل لهم: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا: إذ لم يعبدوا العجل: من عبدالعجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه. بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم: يعني من قتل: وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم: على القول الأول: لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده.
وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب" أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم: من الإقالة: أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى: { بَارِئِكُمْ } البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية: الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو "بارئكم": بسكون الهمزة: ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره: وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم... بالدو أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب... إثما من الله ولا واغل
وقال آخر:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
وقال الآخر
رحت وفي رجليك ما فيهما... وقد بدا هنك من المئزر
فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب
قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات وأصل برأ من تبري الشيء من الشيء وهو انفصاله منه فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برئت من المرض برءا بالفتح كذا يقول أهل الحجاز وغيرهم يقول: برئت من المرض برءا بالضم وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة وقد بارأ شريكه وامرأته
قوله تعالى { فتاب عليكم } في الكلام حذف تقديره ففعلتم { فتاب عليكم { أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم.
قوله تعالى { إنه هو التواب الرحيم { تقدم معناه والحمد لله.
هامش