→ الآية رقم 216 | الجامع لأحكام القرآن – سورة البقرة الآية رقم 217 القرطبي |
الآية رقم 218 ← |
الآية: 217 { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ } تقدم القول فيه. وروى جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ﷺ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: "يسألونك عن المحيض"، "يسألونك عن الشهر الحرام"، "يسألونك عن اليتامى"، ما كانوا يسألونك إلا عما ينفعهم". قال ابن عبدالبر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. وروى أبو اليسار عن جندب بن عبدالله أن النبي ﷺ بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله ﷺ، فبعث عبدالله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: ولا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية. وروى أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي ﷺ وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت الآية. والقول بأن نزولها في قصة عبدالله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبي ﷺ بعثه مع تسعة رهط، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر - في كتاب الدرر له -: ولما رجع رسول الله ﷺ من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله التميمي، وخالد بن بكير الليثي. وكتب لعبدالله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبدالله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم". فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله ﷺ، ونهضوا معه، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبدالله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبدالله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبدالله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبدالله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبدالله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله ﷺ ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [1] فأقر الله ورسوله فعل عبدالله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل. وأنكر رسول الله ﷺ قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ } إلى قوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. وقبل رسول الله ﷺ الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبدالله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله ﷺ حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين.
وقيل: إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبدالله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله ﷺ هابوهم، فقال عبدالله بن جحش: إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث. وتفاءلت اليهود وقالوا: واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال: لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله ﷺ: "خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية" فهذا سبب نزول قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ }. وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم. وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ابن عطية: وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبدالله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.
الثانية: - واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح. واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [2]. وقيل نسخها غزو النبي ﷺ ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام. وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي ﷺ لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل عز وجل: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } الآية، قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله ﷺ، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي ﷺ عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [3]. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى.
الثالثة: - قوله تعالى: { قِتَالٌ فِيهِ } " "قتال" بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه:
فما كان قيس هلكه هلك واحد... ولكنه بنيان قوم تهدما
قرأ عكرمة: "يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل" بغير ألف فيهما. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي. وقال الفراء: هو مخفوض على نية عن. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان: جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها. قال ابن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل. وقرأ الأعرج: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" بالرفع. قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: "يسألونك" يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس:
أصاح ترى برقا أريك وميضه... كلمع اليدين في حبي مكلل
والمعنى: أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في "أصاح" تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر:
تروح من الحي أم تبتكر
والمعنى: أتروح، فحذف الألف لأن "أم" تدل عليها.
الرابعة: - قوله تعالى: { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين. والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "المائدة" إن شاء الله تعالى.
الخامسة: - قوله تعالى: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } " ابتداء { وَكُفْرٌ بِهِ } عطف على { وَصَدٌّ } { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } عطف على { سَبِيلِ اللَّهِ } "وإخراج أهله منه" عطف على "صد"، وخبر الابتداء "أكبر عند الله" أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره. وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. "وكفر به " أي بالله، وقيل: "وكفر به" أي بالحج والمسجد الحرام. "وإخراج أهله منه أكبر" أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقال الفراء: "صد" عطف على "كبير". "والمسجد" عطف على الهاء في "به"، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: "وكفر به" أي بالله عطف أيضا على "كبير"، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله ﷺ وأصحابه أكبر جرما عند الله. وقال عبدالله بن جحش رضي الله عنه:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد... وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله... لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن غيرتمونا بقتله... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبدالله عثمان بيننا... ينازعه غل من القد عاند
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } منسوخ بقوله: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وبقوله: { فاقتلوا المشركين } [4]. وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم.
السادسة ": - قوله تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام.
السابعة: - قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ } ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة. قال مجاهد: يعني كفار قريش. و"يردوكم" نصب بحتى، لأنها غاية مجردة.
الثامنة: - قوله تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ } أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ } أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.
التاسعة -: واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر؟ وهل يورث أم لا؟ فهذه ثلاث مسائل
الأولى -: قالت طائفة: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم: ساعة واحدة. وقال آخرون: يستتاب شهرا. وقال آخرون: يستتاب ثلاثا، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم. وقال الحسن: يستتاب مائة مرة، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير. وذكر سحنون أن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه: أن النبي ﷺ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس. قال: نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره. وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب. والزنديق عندهم والمرتد سواء. وقال مالك: وتقتل الزنادقة ولا يستتابون. وقد مضى هذا أول "البقرة". واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه. وحكى ابن عبدالحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ولم يخص مسلما من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء. والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد. واختلفوا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه". و "من" يصلح للذكر والأنثى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن. واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي ﷺ أنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن علي مثله. ونهى ﷺ عن قتل النساء والصبيان. واحتج الأولون بقوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان..." فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح.
العاشرة: - قال الشافعي: إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه، لأن عمله باق. واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [5]. قالوا: وهو خطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي ﷺ على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي ﷺ على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [6] وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي. وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطا ههنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي ﷺ، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات. والله أعلم.
الحادية عشرة: - اختلاف العلماء في ميراث المرتد: فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين. وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه
الثانية عشرة: - ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام: " لا وراثة بين أهل ملتين" يدل على بطلان قولهم. وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه قال: يرثونه.
هامش