→ الآية رقم 58 | الجامع لأحكام القرآن – سورة البقرة الآية رقم 59 القرطبي |
الآية رقم 60 ← |
الآية: 59 { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً } "الذين" في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة، على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.
الثانية: { فَبَدَّلَ } تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا } على الوجهين قال الجوهري: وأبدلت الشيء بغيره. وبدله الله من الخوف
أمنا. وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشيء بغيره، وتبدل به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد الواحد بديل والبديل البدل. وبدل الشيء: غيره يقال: بدل وبدل لغتان مصل: شبَه وشِبْه ومثَلَ ومِثْل ونكَلَ ونِكْل قال أبو عبيد: لم يسمع في فعَلَ وفِعْل غير هذه الأربعة اليدين والرجلين. وقد بدل "بالكسر" يبدل بدلا.
الثالثة: قوله تعالى: { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } كرر لفظ "ظلموا" ولم يضمره تعظيما للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } [1] ثم قال بعد: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبْت أَيْدِيهِمْ } ولم يقل: مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء:
تعرقني الدهر نهسا وحزا... وأوجعني الدهر قرعا وغمزا
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغيرياتها والضرب الثاني: مجي تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى { الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ } [2] و { الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ } [3] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي، والقارعة ما هي، ومثله: { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } كرر "أصحاب الميمنة" تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ "أصحاب المشأمة" لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر:
ليت الغراب غداة ينعب دائبا... كان الغراب مقطع الأوداج
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها
قوله تعالى: { رِجْزاً } قراءة الجماعة "رجزا" بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء والرجز: العذاب "بالزاي" و"بالسين" النتن والقذر ومنه قوله تعالى { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } [4] أي نتنا إلى نتنهم قاله الكسائي وقال الفراء الرجز هو الرجس. قال أبو عبيد: كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء: وذكر بعضهم أن الرجز "بالضم" اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } والرجز "بفتح الراء والجيم" نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها.
قوله تعالى: { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي بفسقهم والفسق الخروج وقد تقدم. وقرأ ابن وثاب والنخعي "يفسقون" بكسر السين..
هامش