→ الآية رقم 182 | الجامع لأحكام القرآن – سورة البقرة الآية رقم 183 القرطبي |
الآية رقم 184 ← |
الآية: 183 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال ﷺ: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج" رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال اللّه تعالى مخبرا عن مريم: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً } [1] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على آريها: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال:
كأن الثريا علقت في مصامها
أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله:
والبكرات شرهن الصائما
يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة... ذمول إذا صام النهار وهجرا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر:
حتى إذا صام النهار واعتدل... وسال للشمس لعاب فنزل
وقال آخر:
نعاما بوجرة صفر الخدو... د ما تطعم النوم إلا صياما
أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير
والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
الثانية- فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه اللّه بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال مخبرا عن ربه: "يقول اللّه تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات
أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا.
الثالثة: قوله تعالى: { كَمَا كُتِبَ } الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته "بكما" إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. و"ما" في موضع خفض، وصلتها: { كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }. والضمير في "كتب" يعود على "ما". واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي:
الرابعة: قال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن اللّه تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه اللّه أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي ﷺ قال: " كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين". وقال مجاهد: كتب اللّه عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي
قلت: ولهذا - واللّه أعلم - كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }. وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه اللّه تعالى بقوله: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [2] على ما يأتي بيانه، قاله السدي وأبو العالية والربيع. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، "كما كتب على الذين من قبلكم" وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك { بِأَيَّامِ مَعْدُودَاتٍ } ثم نسخت الأيام برمضان.
الخامسة: قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } "لعل" ترج في حقهم، كما تقدم. و"تتقون" قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: "الصيام جنة ووجاء" وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.
السادسة: قوله تعالى: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } "أياما" مفعول ثان "بكتب"، قاله الفراء. وقيل: نصب على الظرف "لكتب"، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، واللّه أعلم.
هامش