→ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية | مجلة المنار نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية محمد توفيق صدقي |
نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية ← |
(( مجلة المنار - المجلد [ 16 ] الجزء [ 10 ] ص 777 شوال 1331 - سبتمبر 1913 )) |
لهذا كله كان اليهود معاصروه يرون أنفسهم أرقى منه علمًا ونفسًا وأخلاقًا وتدينًا [1] وما كانت تعجبهم أحواله وأعماله حتى كانوا يعيرونه بكثرة شرب الخمر وحب الخطاة كما سبق ( لو 7: 34 ) وأما محمد ﷺ فلم ير فيه معاصروه أدنى عيب ولم يطمع أحد منهم في مسابقته في العلم والفضل، والكمال والعقل والصدق والإخلاص، والصلاح والتقوى، حتى عرف بين مشركيهم من صغره بالأمين المأمون، وكان لهم نبراس الهدى ومثال الكمال بينهم في كل شيء ففاقهم بمراحل واسعة، وأما المسيح بحسب هذه الأناجيل فلم يفق الوسط الذي كان فيه.
هذا مع ملاحظة أنه لم ينقل لنا عنه إلا القليل من أخبار حياته، وأن مدة بعثته كانت قصيرة جدًّا، وأن الناقلين لأخباره هذه هم صفوة أتباعه وأخلص تلاميذه الذين كانوا كما تقول النصارى ملهمين من الله، معصومين من الكذب والخطأ والنسيان في كل ما كتبوه عنه. فكيف بعد ذلك يليق بعاقل منصف أن يفضل عيسى على محمد وآداب المسيحية وتعاليمها على آداب الإسلام وتعاليمه؟ وهو الذي لم ينشر إلا التقوى والفضيلة بين الناس، ونص كتابه صريحًا ببراءة بعض أنبيائهم مما رموهم به من الكبائر ( راجع القرآن 2: 102و 20: 87 - 93 ) ولم يذكر من تاريخ الآخرين إلا ما فيه عبرة وما به تغذية النفوس بالصلاح والاستقامة وتحصين الأخلاق والآداب بسياج الفضائل، فلم ينسب لهم شرب الخمر ولا السكر به، ولا الخيانة ولا الزنا ولا الغش ولا الكذب، ولا التعدي على بناتهم بالفسق فيهن، ولا عمل الأصنام لأممهم ولا الشرك بالله وعبادة غيره، إلى غير ذلك مما لا فائدة في نشره عن الأنبياء إلا إشاعة الفاحشة بين الناس والاستخفاف بالدين ومخالفة أوامره ونواهيه والكفر بالله أو الشرك به؛ وخصوصا لأن كتبهم ذكرت بعض هذه الجرائم ولم تذكر معها ما يُنَفِّر منها كما ترى في سفر التكوين مثلا، فللناس أن يقولوا: إذا كانت الأنبياء لم تقو على الاستقامة فكيف نقوى عليها، ونحن أقل منهم في كل شيء، وإذا كان الله لم ينبذهم مع أننا نرى أن بعضهم لم يتب من ذنبه أو كفره فَلِمَ نخافه أو نخشاه؟ ومن ذلك يعلم أن القرآن قد امتاز عن كتبهم بالفضائل وبالآداب العالية وبالحث الكثير على الصلاح والتقوى والتوبة حتى إنه لم يذكر عنهم مثل ما ذكرته كتبهم عن نوح مثلا (تك 9: 20 27 ) [2] ولوط (تك19: 30 - 38) [3] وإسحاق ( تك 26: 7 )، ويعقوب ( تك 27: 19 )، وهارون ( خر32: 16 [4] ) [5] وداود ( 2 صم: 2 27 ) وسليمان ( ا مل 11: 5 و6 ) وغيرهم من أنبياء الله الأمناء الطاهرين أقامهم الله ليكونوا قدوة حسنة ومثالا صالحًا للناس، فهل قدرة الشيطان عندهم وصلت إلى حد أن قلب على الله غرضه أيضا في ذلك كما قلبه عليه مرارًا في غير ذلك مما بينا آنفًا ( راجع ص 123 من هذه الرسالة وص 109 و 110 من رسالة الصلب ) حتى جعل الذين أراد الله أن يكونوا مثالا حسنًا للناس وهداية لهم وقدوة صالحة جعلهم شر الأشرار فأتوا من الشرور ما تنفر منه طباع أحط البشر أخلاقًا كزنا الإنسان ببناته وكيف يقبل الناس على تعاليمهم بعد فعالهم هذه؟ وكيف سردت كتبهم أكثرها كما قلنا بطريقة لا تشعر بشناعتها ولا ببشاعتها ولا بالإنكار على فاعلها، ونبذه كنبذ النواة؟ راجع كتاب دين الله ( ص 67 -71 ) ثم راجع أيضا قصة داود وسليمان مع شمعي بن جبرا ( في 1مل 2: 8 و 9 و 36 46 ) وفيها ترى أن داود وهو على سرير الموت يوصي ابنه سليمان بقتل هذا الرجل ( شمعي بن جبرا ) بعد أن أقسم له بالله أنه لا يقتله فسلط ابنه عليه وهو محتضر. وسيرة داود عندهم معروفة مشهورة وقساوته وظلمه لا مثيل لهما (حاشاه) حتى إنه نشر أسرى بني عمون بالمناشير ونوارج الحديد والفؤوس (2 صم 12: 31 و 1 أي 20: 3 ) وسيرهم في أتون الآجر أي أحرقهم بالنيران (راجع كتاب دين الله ص 125 و126) وداود هذا هو الرجل الذي نصت كتبهم على أنه كان بارًّا ولم يعص الله قط إلا في مسألة أوريا وزناه بزوجته وتعريضه للقتل بكتاب أرسله معه وهو لا يعلم ما فيه، فقال سفر الملوك الأول ( 15: 5 ) عنه ( لأن داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما أوصاه به كل أيام حياته إلا في قضية أوريا الحثي [6] ) [7] وهو صريح في أن الله راض عن داود في كل أعماله السيئة الشنيعة القاسية إلا مسألة أوريا وهم لا يزالون يرتلون مزاميره ويعبدون الله بها!! فما بالهم الآن يطعنون على محمد لجهاده الأعداء الذين آذوه وآذوا أمته وفعلوا بهم من الاضطهاد والقتل ما فعلوا.
أما اغتياله لبعض أعدائه المحاربين له ولأمته فقد تكلمنا عليه في كتاب (الإسلام) ص 58 60 ( راجع أيضا كتاب ( صدق المسيحية ) في الإنكليزية ص 251 و252 ففيه كلمة في هذا الموضوع دفاعًا عن كتبهم الآمرة بإبادة الكنعانيين [8] يصح أن تكون أيضا دفاعًا عن الجهاد وقتل الأعداء ولو غيلة ) وكان لداود أيضا نساء عديدة وامتن الله عليه بإعطائهن إياه ( 2صم 12: 8 ) فما بال النصارى لا يرون الخشبة في أعينهم ويرون القذى ( إن سلم أنه قذى ) في أعين غيرهم؟ فتراهم يستحسنون كل ذلك ويجعلون المسيح المثال الأكمل للبشر على ما وصفته كتبهم به مما سبق ذكره، وأما محمد فينبذونه ويستقبحون أعماله، وهو الذي أصلح العالم كله وخلصه من الشرك والوثنية وعبادة البشر والصور والصلبان والأصنام ودعا بوحي الله إلى كل خير وحرم الخمر بتاتًا وأمر باجتناب كل شر وضرر وأتى بمكارم الأخلاق الصحيحة قاطبة، وفرض على أتباعه الصلوات الخمس وحث على قيام الليل وعبادة الرحمن وأوجب الصوم والزكاة وفعل كل خير بالأيتام والفقراء وأبناء السبيل والأسرى والرقيق وغير ذلك مما فصَّلناه في كتبنا ( الدين في نظر العقل الصحيح ) و ( الإسلام ) و ( دين الله في كتب أنبيائه ) وغيرها وأصلح حال المرأة إصلاحًا لم يسبقه به أحد، ودعا للعمل للدنيا والآخرة كقول القرآن: { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } وغيره مما ذكرناه سابقًا.
ثم إنك ترى أن جميع تعاليمه عملية وصالحة لخير هذا المجتمع ولا تزيده إلا عزًّا ورفعة وعلمًا وتقدما ومدنية وهي بعيدة عن كل عيب أو غلو أو استحالة ولا يرد علينا بحال المسلمين اليوم فإن الإسلام ( كما في القرآن والسنة النبوية ) غير مسلمي هذا الزمان وفقهم الله لمعرفة حقيقة دينهم التي أخفاها عنهم الجهل والتقليد.
ومن تمسك بحال مسلمي اليوم فهو كالمتمسك بحال نصارى القرون الوسطى أو نصارى الحبشة ونحوهم الآن مستدلا على قبح المسيحية وانحطاطها، فهل هذا من الإنصاف والعقل في شيء؟!
الدكتور
محمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ هذا الكلام كله مبني على فرض صحة جميع ما في هذه الأناجيل كما قلنا مرارًا، فلا تنس ذلك، والحق أننا لا نؤمن بها ولا نعبأ بروايتها
- ↑ من العجيب أن الله قد أظهر رضاه عن نوح بعد جريمة السكر بأن تقبل دعاءه وأولاده حتى أنه ظلم لأجله حفيده كنعان بن حام وآخذه بذنب أبيه (تك 9: 22 و25) فكيف يطيع الله نوحًا لدرجة أن يعول على دعائه على كنعان البريء مع أن الظاهر من قصته أنه ما دعا على كنعان إلا لأنه لم يفق تمامًا من سكره فلم يميز بين ولده المذنب إليه وحفيده البريء؟ ولم يذكر في كتبهم أن نوحا تاب من ذنبه هذا، فأي عبرة للناس في هذه القصة سوى أنهم يعلمون منها أن الله تقبل دعاء السكران حتى ظلم لأجله حفيده؟ فليكثر الناس إذا من شرب الخمر ليكون دعاؤهم مقبولا عند إله النصارى هذا المحب للخمر وشاربيها حتى شبهته كتبهم بالسكران (مز 78: 65) وامتلأت بذكر سكر الأنبياء وإسكارهم لغيرهم بإيجاب تقريبها للرب راجع مثلا (تك 9: 21 و19: 32 و35 و27: 25 وخر 29: 40 ولا 23: 13 و2 صم 6: 9 و11: 13 ويو 2: 7-10 ومت 26: 27).
- ↑ يقول بعض المعتذرين عن سيئات كتبهم وأنبيائهم: إن جريمة لوط سكره وزناه بابنتيه (تك 19: 30 - 38) هي منحصرة في السكر فقط؛ لأنه ارتكب ما ارتكب وهو لا يعي شيئا والحكمة عندهم في ذكر هذه القصة هي إظهار درجة قبح شرب الخمر وبيان ما تؤدي إليه، مع أن القصة ذكرت في كتبهم كأنها أمر عادي، وكأن لوطًا لم يرتكب منكرًا حتى لم يذكر أن الله وبخه أو عاقبه على ذلك أو أنه تاب من ذنبه، بل قال: إن ابنتيه حملتا من هذا الزنا ومنهما تناسل بعض الأمم الموآبيين وبني عمون، وبعد ذلك سماه الكتاب المقدس بارًّا (2 بط 2: 7-9) فأي عبارة أتى بها الكاتب في قصته هذه لبيان شناعة هذا العمل الفظيع واستقباحه له أو وجوب التوبة منه؟ ومَنْ من الناس يجهل مضار الخمر، وهي عند السكيرين أنفسهم أم الخبائث وكلهم يعرفون ذلك ويعترفون به وبضعف إرادتهم عن تجنبها فما فائدة هذه القصة إذًا؟ ولماذا لم ينتخب الكاتب حادثة أخرى من التي وقعت على أيدي الأشرار السكيرين وهي كثيرة في كل زمان ومكان، بحيث تكون العبرة فيها أظهر وأوضح لبيان شناعة الخمر وقبحها وضررها إذا صح أن هذا هو حقيقة غرض الكاتب من ذكر هذه القصة؟ أما كان الأَوْلَى بكتبهم أن لا تبيح لهم الخمر ولا تأمرهم بشربها بدلا من ذكر هذه القصص الساقطة؟ أو لا يشعر الإنسان عند قراءتها أنها تهيئ الأشرار الأدنياء لارتكاب أفظع المنكرات أكثر مما تزجرهم عنها؛ لأنه إذا كان لوط نبي الله الذي اختاره الله لوحيه وكلامه ولإرشاد الناس لم يقدر على منع نفسه عن السكر وأقبح الفسق فكيف بهم وهم من أضعف المخلوقين؟ وكيف يقدرون على ما لم يقدر عليه الأنبياء المختارون المؤيدون بعناية الله ورعايته؟ وإذا صح أن لوطا كان لا يعي شيئًا حتى لم يقدر أن يميز بناته من غيرهن فكيف أمكنه مجامعتهن، والحالة هذه مع العلم بأن الإنسان إذا اشتد سكره إلى درجة عدم تمييز بناته ومعرفتهن وفقد شعوره حتى لم يعلم باضطجاعهن ولا بقيامهن كما قال سفر التكوين (19: 33 و35) فلا يقوى على أي عمل أو أي حركة مقصودة، إذًا لوط ما زنى إلا بعلمه وإرادته وإنما كان تأثير الخمر عليه كعادتها، أنها جرأته على ارتكاب أكبر جريمة وأضعفت قوته على مقاومة شهوته هذه البهيمية بل الأحط، وإذًا فهو مسئول عما اقترف كما في قوانين الأمم الراقية، ومن أعجب العجائب أنه مع علمه بذنبه هذا ومعرفته لابنته، كما بينا، وزناه بها في أول ليلة وشعوره بأنه لم يقدر على مقاومة نفسه بسبب تأثير الخمر عليه عاد في الليلة الثانية فسكر مع ابنته الأخرى وزنى بها أيضا وافتضها كالأولى، فلم كال الله له بغير ما كال به لقومه، ولم يخسف به الأرض مثلهم مع أن إثمه أكبر وجرمه أفظع؟ أفلا تنفر النفوس من مثل هؤلاء الأنبياء وهم أنفسهم لم يعملوا بما يعظون به غيرهم؟ ثم ألا تضيع بذلك الفائدة من بعثتهم؟ فالحق أن هذه القصص مستحيلة على أنبياء الله بل على فضلاء البشر، ولولا ذلك ما سمى كتابهم لوطا بارًّا تقيًّا كما سبق، وإنما افتجر اليهود هذه القصص تبريرًا لشرورهم الكثيرة وعصيانهم لله مرات عديدة واعتذارا بها عن جرائمهم وآثامهم المتكررة فكأن كاتبها يقول: إذا كان أنبياء الله لم يقووا على الاستقامة فكيف يقوى أمثالنا عليها ونحن أضعف منهم، وكيف بعد ذلك يطالبوننا بالصلاح والتقوى أو يلوموننا على العصيان والفسوق؟ وإذا كان الله غفر للأنبياء هذه الجرائم كلها، ولم يغضب عليهم ولم ينبذهم نبذ النواة بل رضي عنهم فلِمَ لا يرضى كذلك عن اليهود ويغفر لهم كل ما اقترفوه؟ هذا وغيره كما يأتي، ربما كان هو الحامل لكُتَّاب اليهود على افتجار هذه الأقاصيص واختراع هذه الأكاذيب لإرضاء أمتهم وملوكهم الفاسقين، ومكانها من الصحة لا يخفى إلا على من فقد كل تمييز فكاتبها إنما هو دساس فاسق يريد بها غالبًا ترويج الفسق والفجور وإشاعة الفاحشة في الصالحين وستر قبائحه وقبائح قومه وإسكات اللائمين، فهذه يا قوم إحدى قصص هذه الكتب التي يقولون: إنها لا تنشر إلا الفضيلة بين الناس، وقال العلامة لينج في كتابه الأصول البشرية صفحة 87 ما مضمونه: إن السبب الذي حمل اليهود على افتجار قصة لوط هذه هو بغضهم الشديد لنسله الموآبيين والعمونيين مع أنهم أقاربهم، فقد كانت العداوة بين الفريقين شديدة جدًّا ومتأصلة فيهم من قديم الزمان كما لا يخفى على المطلعين على كتب اليهود (انظر مثلا تث 23: 2-6).
- ↑ إذا أردت الاطلاع على الجواب تفصيلا عن شبهتهم في لفظ السامري الوارد في القرآن أنه هو الذي صنع العجل، فاقرأ مقالات القرآن والعلم في المنار (مجلد 11 جز 4 صفحة 286) وكذلك كتاب الدين في نظر العقل الصحيح (صفحة 114 - 116، وص 98 و99) من الجزء الأول من كتاب الهدى إلى دين المصطفى لأحد علماء الشيعة المحققين، وملخص الجواب وأحسنه أن تعريب لفظ شمرون العبري بكسر الشين وبضمها كما في (ش 11: 1 و1 مل 16: 24 و1 أي 7: 1) هو سامر أو سامرة، فالسامري وبالعبرية شمروني بكسر الشين هو أحد الشمرونيين (عد 26: 24) أولاد شمرون بن يساكر بن يعقوب (تك 46: 13) وكانوا من عشائر بني إسرائيل المعدودين في الجند على عهد موسى عليه السلام، وخرجوا معه من أرض مصر (انظر تك 46: 8 و13 وعد 26: 4 و 24) فالسامريون الذين منهم سامري القرآن هم أولئك الشمرونيون لا السامريون الحاضرون الذين وجدوا بعد موسى بقرون واعلم أن لفظ شمرون بكسر الشين ورد في كتبهم علمًا لشخص كما في (1 أي 7: 1) كما في (يش 11: 1 و19: 15) وشمرون بضم الشين وردت اسمًا لجبل ولمدينة كما في (1 مل 16: 24) وكلا اللفظين من مادة واحدة في العبرية ومعناها الحفظ وربما كان ضبطهما في الأصل واحدًا فأخطأوا فيه على ممر الأزمان وخصوصًا لأن جمهورهم كان قد نسي اللغة العبرية القديمة بعد سبي بابل (انظر نح 8: 8) وهذا الضبط (الشكل) الحالي لم يكن عندهم قديمًا بل أحدثوه بعد المسيح بقرون، وإذا صح فلا يمنع مما ذكرنا.
- ↑ وليس هذا التعريب المذكور هنا ببدع في اللغات، ألا ترى أن الإفرنج تسمي جبل طارق مثلا في لغاتهم جبرولتار Gibraltar وكان العرب يستبدلون في لغاتهم شين العبرية المعجمة بالسين المهملة، حتى إن أهل الكتاب اليهود يعربون شين العبرية سينا فشمرون بضم الشين كما في (1 مل 16: 24) يسمونها السامرة، وكذلك موشى بالشين موسى ويشوع يسوع أو عيسى كما سماه القرآن الشريف، وكما هو في اللغة اليونانية وغيرها أبيس Iesous وفي الإنكليزية جيسس Jesus ويسمي الإفرنج أيضا شمرون هذه ساميريا Samaria فكل اللغات تتصرف بالأسماء المنقولة، فلم يستبيحون لأنفسهم وللناس ذلك ولا يبيحون للقرآن أن يسمي أحد الشمرونيين بالسامري، وهو من التعريب المعروف في لغته، فإن قيل: إذا كان هذا الرجل معروفًا شهيرًا بين بني إسرائيل حتى إذا أطلق لفظ السامري في زمنه فلا ينصرف إلا إليه، فلماذا لم تذكره كتبهم؟ قلت: الظاهر أن كتبهم - مع طولها ولغوها - لم تستقص كل شيء فكم من أشياء ترك ذكرها فيها لسبب ولغير سبب، ألا ترى أن بولس ذكر في إحدى رسائله أن ينبس و يمبريس قاوما موسى (2 تي 3: 7) ولا وجود لهذين الاسمين في الأسفار الموسوية أو غيرها مطلقًا ولا تعرفهما اليهود، وكذلك ذكر يهوذا في رسالته أن ميخائيل خاصم إبليس بخصوص جسد موسى (عدد: 9) وأن أخنوخ تنبأ عن مجيء الرب مع قديسه (عدد ع 14) ولا وجود لشيء من ذلك في باقي أسفار كتابهم المقدس فهل يدل هذا على كذب بولس و يهوذا؟ فالحق أن اليهود لم تخص السامري هذا بالذكر؛ لأنهم أرادوا أن ينسبوا لهارون عمل العجل كما نسبوا لسليمان الكفر، وكما نسبوا لغيرهما ما نسبوا، ولم يعمل السامري شيئا آخر بينهم قبل ذلك أو بعده حتى يذكروه في غير هذا المقام، فلما طال عليهم الأمد نسوا قصته إلا قليلا منهم، فإن الظاهر أن القرآن لم يخالف في ذلك بعض روايات أهل الكتاب من العرب وهي التي كان يرويها عنهم ابن عباس وغيره كما في التفاسير ولذا لم يسمع أنهم انتقدوا عليه هذه القصة، ولو خالفهم لانتقدوها عليه كما انتقدوا عليه قوله عن مريم إنها أخت هارون وغير ذلك راجع كتاب الجواب الصحيح لابن تيمية (جزء 1 ص 70 - 73) على أن من راجع ما يكتبه الآن علماء الإفرنج في كتبهم المقدسة علم أن هذه الكتب أصبحت مشكوكًا فيها لدرجة أن الإنسان لا يصح له أن يجزم بأي خبر فيها ولو كان مما يتوهمه متواترًا بين أهل الكتاب إذ لا شيء متواتر بينهم، ولا مقطوع بصحته، ولا مجزوم بأصله وحقيقته إلا القليل فذكرها للشيء وعدمه عندنا سيان.
- ↑ حاشية: بمقتضى هذه العبارة تكون جميع أفعال داود الآتية وغيرها مرضية عند الله، وكلها مستقيمة في عيني الرب وطبق وصاياه، فمن ذلك ما فعله ببني عمون كما ذكر في المتن وقتله 200 من الفلسطينيين ليتزوج ابنة شاول مع أن شاول طلب منه قتل 100 فقط (1 صم 18: 25 و 27) وتعليمه يونان أن يكذب على شاول (1 صم 20: 6) وكذبه على أخيمالك الكاهن (1 صم 21: 2) وشكره لله على موت نابال لكي يتمكن من زواج امرأته المسماة أيجايل لأنها جميلة الصورة (1 صم 25: 30 و39) وكذبه على أخيش بعد قتله الرجال والنساء (1 صم 27: 9 - 11) ووصيته وهو محتضر لابنه بقتل رجل أقسم له بالله أن لا يعاقبه على ما فعل (1 مل 2: 1 و9) وزواجه بنساء كثيرة وأخذه سراري عديدة (2 صم 5: 13) وحزنه على أمنون ابنه حينما قتل وبكاؤه من أجله بكاء مرًّا كل يوم مع أنه فسق بأخته ابنة داود أيضا وافتضها كرهًا وهي عذراء بعد أن خدعها خدعة دنيئة (2 صم 13) فخالف داود بذلك أمر الله القاضي بقتله (لا 20: 17) حتى إنه لم يرد أن يحزنه؛ لأنه بكره كما في الترجمة السبعينية (2 صم 13: 21) وحقد على ابنه أبشالوم الذي قتل أمنون هذا انتقامًا لأختهما حتى طرده داود بعد رضاه بعودته إليه ولم ير وجهه مدة سنتين.
- ↑ (2 صم 14: 24 و28) قارن ذلك بفعل عمر بن الخطاب الذي جلد ابنه حتى مات لزناه وهو غير محصن بامرأة، فلم يشفق عليه ولم يرحمه حتى أنفذ فيه حكم الله (راجع أيضا كتاب ( التوراة غير موثوق بها ) في الإنكليزية ص 102 و103) فكيف رضي إلههم لداود عن كل ذلك وغيره ولا يرضى الله تعالى لمحمد تعدد الزوجات القليل وغيره مما ينتقدونه عليه؟ ولِمَ يريدون أن يكيل الله تعالى لعباده بمكيالين؟ ولو فرض جدلا أن النبي ﷺ كان خاطئًا في شيء ما؛ فالله تعالى قد طالبه مرارًا في القرآن بالتوبة والاستغفار لذنبه ولم يقره على خطأ ما، فأي الإلهين أطهر وأقدس؟ إذا صح أن الهنا غير إلههم كما يتبجح بذلك الآن متعصبو المبشرين منهم، على أن محمدا ﷺ ما ارتكب صغيرة ولا كبيرة قط إلا هفوات بسيطة لا يخلو منها بشر وهي المسماة بالذنوب في القرآن على حد قول القائل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وعدم ذكر مثلها لغيره من الأنبياء كشعيب وهود وصالح وعيسى ويحيى وزكريا وغيرهم سببه أنه لا فائدة من ذكرها بالنسبة لهم بعد أن انقضى زمنهم؛ ولأن القرآن لم يأت بدقائق تواريخهم كلها إلا ما كان فيه عبرة لنا ولا يخفى أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، أما ذكرها بالنسبة لمحمد ﷺ فهو لإرشاده وتأديبه وتكميله ولتعليم أمته وهدايتها لما فيه الخير والصلاح؛ ولولا هداية الله لضل محمد كغيره من قومه ولضلت أمته معه، فله الحمد هادي الضالين، رب العالمين.
- ↑ راجع مثلا سفر التثنية 20: 16 تجد فيه الأمر بإبادة ست أمم حتى نسائهم وأطفالهم فأي الإلهين أطهر وأقدس؟ إذا صح أن الهنا غير إلههم كما يتبجح بذلك الآن متعصبو المبشرين منهم. على أن محمدا ﷺ ما ارتكب صغير ولا كبيرة قط إلا هفوات بسيطة لا يخلو منها بشر وهي المسماة بالذنوب في القرآن على حد قول القائل: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وعدم ذكر مثلها لغيره من الأنبياء كشعيب وهود وصالح وعيسى ويحيى وزكريا وغيرهم سببه أنه لا فائدة من ذكرها بالنسبة لهم بعد أن انقضى زمنهم؛ ولأن القرآن لم يأت بدقائق تواريخهم كلها إلا ما كان فيه عبرة لنا ولا يخفى أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول. أما ذكرها بالنسبة لمحمد ﷺ فهو لإرشاده وتأديبه وتكميله ولتعليم أمته وهدايتها لما فيه الخير والصلاح ولولا هداية الله لضل محمد كغيره من قومه وضلت أمته معه فله الحمد هادي الضالين، رب العالمين.