→ نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية | مجلة المنار نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية محمد توفيق صدقي |
نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ← |
(( مجلة المنار - المجلد [ 16 ] الجزء [ 9 ] ص 689 رمضان 1331 - سبتمبر 1913 )) |
( 8 ) جاء في إنجيل متى ( 15: 22 - 28 ) أن امرأة كنعانية صرخت إليه ليشفي ابنتها المجنونة، وكانت تقول له: ارحمني يا سيد يا ابن داود، فلم يجبها بكلمة فصارت تصيح وراءه حتى طلب تلاميذه منه صرفها فقال لهم: لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فجاءت وسجدت له قائلة يا سيد أعني. فقال لها: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت: نعم يا سيد والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ شفى لها ابنتها بعد هذا العناء العظيم والإلحاح الكبير. فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء. وهو الرجل الذي يقولون: إنه جاء لخلاص الناس أجمعين. ألا يدل ذلك على أن كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان يريد به إلا أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو صريح عباراته في هذه القصة التي تدل على القساوة المتناهية حتى حركت أعمال المرأة عطف تلاميذه أنفسهم قبله؛ ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولا. فهذه هي أخلاق هذا الرجل الذي يمدح نفسه بقوله ( مت 11: 29 ): ( لأني وديع ومتواضع القلب ) فهل يتفق هذا مع فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع الأقوياء من أمة اليهود [1] ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب فهم عنده كلاب. فهذا هو مبلغ تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة على غلوها أحيانًا فهو نفسه كان يخص بها اليهود رغمًا عن دعواهم الآن أنها للبشر أجمعين.
وهذه القصة تدل على أنه ليس بإله؛ لأنه مقيد بإرادة من أرسله كما يفهم من قوله: ( لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة ). ولذلك تركها يوحنا كعادته وأتى بقصة المرأة السامرية، وهي تغايرها بالمرة ( يو 4: 7 - 30 ) وغرضه منها أن يظهر أن بعثته كانت عامة، فقال: إنه كان يتكلم مع هذه المرأة السامرية ويطلب الشرب معها مع أن اليهود لا يجوز لهم معاملة السامريين حتى صار تلاميذه يتعجبون من ذلك وهذه القصة - كغيرها مما تقدم - تدل على تأخر زمن هذا الإنجيل عن الأناجيل التي قبله؛ ولذلك أتى بها ليظهر أن بعثته ليست قاصرة على اليهود كما يفهم من قصة المرأة الكنعانية ومن ( مت 10: 5 و6 ) بل كانت للبشر كافة أما قول متى ( 28: 19 ): اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، فهو إن لم يكن إضافة متأخرة كقول مرقس بدعوة الخليقة كلها ( 16: 15 ) الذي ثبت عندهم إضافته أيضا ( كما سبق في صفحة 50 ) فالمراد به أمم اليهود كافة فإنهم، كما قال سفر الأعمال، كانوا في أورشليم وحدها من كل أمة تحت السماء أع 2: 5-13 فما بالك بمن كانوا في أرض اليهودية كلها؟ ويؤيد هذا المعنى قول المسيح لتلاميذه ( مت 10: 23 ) فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان. فهذه المدن كانت عندهم العالم كله كما أريناك سابقًا ص 14 من هذه الرسالة، وعلى ذلك يحمل قوله في مرقس ( 13: 10 ) ينبغي أن يكرز أولا بالإنجيل في جميع الأمم، وقوله في متى ( 24: 14 ) في كل المسكونة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى. ولا تنس قول لوقا ( 2: 1 ) ( صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة )، أي أرض اليهودية خاصة كما قال صاحب كتاب الهداية المسيحي في مجلد ( 2 ص 255 ) وغيره.
ومن أمثلة وداعته وتواضعه ورحمته غير ما تقدم ما جاء في إنجيل متى ( 18: 21 و22 ) أن أحد تلاميذه مات أبوه فاستأذنه في الانصراف ليدفنه فلم يقبل وقال له: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. والظاهر من هذا القول أن أبا هذا التلميذ لم يكن مؤمنًا به فلذا حقد عليه حتى بعد موته، ومنع ابنه من الذهاب ليدفنه ولا ندري ماذا كان يفعل به لو قدر عليه وهو حي؟ فهل هذا خلق الرجل الذي أمر غيره بمحبة الأعداء. وقد داس بعمله هذا مع تلميذه على أمر التوراة بإكرام الوالدين وأيضا بعمله مع أمه مريم ومخاطبته لها بقوله ( يو 2: 4 ) ما لي ولك يا امرأة ) ولكن كان في أول الأمر وخوفًا من اليهود يقول لهم ( مت 5: 17 ): ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ). فما أصدق كلامه هذا وغيره.
وهذه القصة تظهر أيضا أنه ما كان يريد بتعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والإحسان إلى اليهود عامة كما قلنا من قبل تساهلا ( ص191 ) بل كان يريد بها من آمن به فقط من اليهود واتبعه ولذلك قال متى ( 12: 46 - 49 ): إن أمه وإخوته جاءوا مرة إليه ووقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه نحو تلاميذه، وقال: (ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي ) يعني من آمن به فقط [2] .
ولذلك أمر أتباعه ببغض غيرهم كما سبق ( لو 14: 26 ) فهل هذا هو الأمر بالإحسان إلى الناس كافة حتى الأعداء؟ ومتى عمل هو نفسه بذلك أو أتباعه الذين استغاثت الأرض من سفكهم دماء بعضهم بعضًا لأقل الأسباب ودماء غيرهم من الأمم بغير حق إلى الآن. ومنهم من أدار خده الآخر للضاربين ( مت 5: 39 ) وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبرًا على ورق، وهي مع ذلك غلو مذموم مخالف للعقل والعدل وللطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال مؤد إلى الفساد بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا يبالون. ومن منهم ترك ما اعتادوه من الانغماس في الملاذ والشهوات والترف، وباع كل ماله كما في لوقا ( 18: 22 ) ووزعه على الفقراء؟ وإذا أطاع الناس هذا الأمر أتصلح أحوال هذا المجتمع ويتقدم إلى الأمام أم يبطل فيه كل عمل واختراع واكتشاف واجتهاد ما دامت الأموال كلها توزع من الأغنياء على الفقراء بلا عمل ولا حساب؟ قال ملحدوهم: الظاهر أن يسوع ما أمر بذلك إلا حيلة؛ ليتمكن هو وتلاميذه من أخذ أموال الأغنياء ليعيشوا بها بلا عمل سوى التجول من مدينة إلى أخرى صارفين في حاجاتهم كلها من أموال غيرهم حتى من النساء ( لو 8: 1-3 ) كما هو شأن أهل البطالة والكسل المتشردين، وإذا كان كل شيء ينال بالصلاة كما قال في ( مت 18: 19 و20 ) فما حاجته بعد إلى أموال الناس التي كان يأخذها منهم ويحملها في صندوق معهم يهوذا الإسخريوطي ( يو12: 6 ) فلماذا لم يترك المال لأهله ويسأل أباه السماوي فيعطيه كل ما احتاج إليه هو وتلاميذه الفقراء الذين لا عمل لهم بعد اتباعه ( مت 4: 19 - 22 ) سوى الإنفاق من المال الذي كان يلقى لهم في الصندوق من الناس.
فهذا شيء قليل من كثير مما أصبح بعض الإفرنج يقولونه في المسيح. ومن أراد أكثر منه فليقرأ مثل كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة المذكور آنفًا The Truth about Jesus of Nazareth، وإني أستغفر الله من كل هذا، ومما جاء في هذا الكتاب الإنجليزي وغيره من تأليف ملحدي النصارى أنفسهم.
وقال هؤلاء الملحدون أيضا: إذا صح أن يسوع صدق في نبوة واحدة من نبواته فهي قوله ( مت 10: 34 ): لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا. فإن الأرض لم تخضب بدم أكثر مما خضبها به أتباعه منذ أن صارت لهم قوة ودولة ولم يصدر عن أمة في العالم ما صدر من أمته، حتى من رؤساء الدين منهم [3] ، من ظلم الأبرياء والأذى والاضطهاد وسائر أنواع المفاسد والمظالم، حتى الآن كما هو مشاهد. ( انظر مثلا ص 130 و131 من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة ).
ويقولون: إذا كانت هذه ثمرة دينه في الأرض فبئست الثمرة، وإذا كان ذلك كله مما فعله في ثلاث سنين، وهو فقير حقير ضعيف مضطهد ( أش 53: 3 ) فكيف به لو كان أوتي عزًّا ومالا وملكًا كبيرًا وعمرًا طويلا، لذلك كفر به الناس وكفروا بدينه، وبكل ما جاء به وألفوا المؤلفات الضخمة في مطاعنهم وردودهم وصاروا اليوم يدعون الناس في أوربة جهرًا إلى آرائهم وأفكارهم.
فليتأمل في ذلك دعاة النصرانية الذين يطعنون، وهم في بلاد المسلمين خوفًا من أن يسمعهم الملحدون فيضحكون منهم يطعنون في محمد بمطاعن ضعيفة واهية لا تعد شيئًا بالنسبة لما فعله المسيح وما يفعله الآن أتباعه كثيرًا كالانتحار وشرب الخمور والربا والمقامرة وحب المال لدرجة الفناء فيه والفسق والخلاعة والتبرج والزنا والقتل والظلم والانغماس في اللذات والشهوات، وغير ذلك مما أتت به إلى بلادَنَا مَدِنَيَّتُهُم الإفرنجية التي يسمونها مسيحية ولا يخجلون ويظنون أن المسلمين يخجلون من حكم الطلاق وتعدد الزوجات في الإسلام وجهاد الأعداء [4] في سبيل الله بسبب ظلمهم لنا، على فرض قبحها، ليست كالأشياء التي رووها أنفسهم عن المسيح، وأشرنا إلى بعضها هنا، والحكم عليها بالقبح مع ذلك ليس مما أجمع عليه العقل البشري كمسائلهم تلك، بل هي أمور اعتبارية، ألا ترى أن مسألة تعدد الزوجات في الإسلام هي من المسائل التي يختلف الحكم عليها باختلاف عادات البلاد واختلاف أذواق أهلها فهي أقل من مسألة التزوج عند بعض الأمم بالأقارب الأقربين مثلا.
فنحن، وإن كنا نستفظع ذلك التزوج بالأقربين ونستقبحه ونمقته، إلا أنه ليس من المسائل المجمع على قبحها بين سائر البشر، وكذلك عادة رقص النساء مع غير أزواجهن وإبداء زينتهن لغير محارمهن هي عندنا قبيحة وشنيعة وعند الإفرنج حسنة وتعمل رسميًّا في قصور ملوكهم، فالخلاف بيننا وبينهم فيه كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف
فإن قيل: إذا كانت هذه المسائل التي حكيتها عن المسيح صحيحة فما جواب المسلمين عنها وهي تنافي معتقدهم في المسيح الذي عظمه القرآن تعظيما، وإن كانت كاذبة فهل يعقل أن الإنجيليين وهم أحباب المسيح يخترعونها وينسبونها إليه كذبًا؟ قلت: إننا لا نقول: إن كل هذه المسائل اخترعها الإنجيليون أنفسهم بل نقول: إنها روايات كاذبة افتجرها بعض أعداء المسيح الأولين من اليهود وغيرهم وروجوها بين أتباعه حتى اشتهرت وظنوها روايات صحيحة فدخلت الغفلة على رواة النصرانية حتى على كتاب الأناجيل لشدة جهلهم وغباوتهم كما دخلت على كثير من محدثي المسلمين وكتاب السير منهم بعض أشياء من المنافقين والوضاعين توجب الطعن في محمد ﷺ والإسلام مع الفرق العظيم بين رواة المسلمين ورواة غيرهم في نقد الحديث كما اعترف بذلك بعض علماء الإفرنج أنفسهم ( راجع مثلا كتاب المسحاء الوثنيين ص238 و239 لمؤلفه المستر روبرتسن J. M. Robertson ).
ومع ذلك فقد ترك بعض الإنجيليين بعض هذه الأشياء ولم يشر إليها أو ذكرها لذيوعها بين الناس، بطريقة مخففة لرفع الإشكال بقدر الإمكان بحيث لا يرى منها أصل القصة جليًّا واضحًا إلا بالرجوع إلى الأناجيل كلها أو بعضها وأخذ عبارة فيها من هنا وعبارة من هناك حتى يتم فهم القصة، كمسألة تردد المسيح على بيت مريم ومرثا في قرية بيت عنيا، فإن علاقة المسيح بهما وكونهما عاهرتين يحبهما المسيح ويكثر مخالطتهما والمبيت عندهما إلخ، إنما يستنتج ذلك كله من مجموع ما رووه فيهما لا من واحد منهما فقط.
ومن أعظم الأسباب أيضا أن بعض هذه المسائل كان يوجد مثلها عند الوثنيين الداخلين في المسيحية كما بيناه في حاشية ( صفحة 185 ) وقد تأصلت في نفوسهم فلم يهن عليهم تركها فأدخلوها في دينهم الجديد ليجعلوا المسيح كأحد آلهتهم لكي لا يشعروا بالفرق الكبير بين الدينين، شأن البشر فيما ألفوه من آرائهم ومعتقداتهم، وقد قبل منهم أكثر النصارى ما أدخلوه جهلا منهم بحقيقة دينهم أو فرحًا بهم واستمالة لهم لعلهم لا يرجعون.
وربما كان غرض بعضهم أيضا من ذكر هذه المسائل إظهار أن المسيح وهو عندهم يغفر لمن يشاء ( لو م7: 47 - 49 ) وقد أعطى هذه السلطة لتلاميذه أيضا كما سبق ( مت 18: 18 ويو20: 23 ) فوق الناموس والشريعة وغير مقيد بها وله أن يتصرف فيها كما يشاء ويفعل ما شاء؛ لأنه هو واضعها على زعمهم، وشارعها للناس [5] وأنه إذا اقترب من المعاصي فلا يقع فيها إلا بمشيئته ولحكمة نجهلها، ولذلك ترى أن أكثر مثل هذه القصص التي أريد بها غالبًا إظهار كبريائه وعدم مبالاته بالناموس، وأنه فوق كل شيء واردة في إنجيل يوحنا دون غيره أو مستوفاة فيه أكثر، وهو الإنجيل الذي ذكر أيضا ( 8: 2-11 ) قصة عدم رجم المسيح للزانية ونقضه شريعة موسى في ذلك ( لا 20: 10 ) راجع أيضا ( يو 4: 9 - 30 ).
وأما عبارة إنجيل لوقا ( 9: 56 ) التي تشبه في المبدأ مسألة الرجم هذه فقد وجدوا أنها متروكة من بعض النسخ القديمة، وهو دليل على زيادتها فيه ليجعلوا إنجيل لوقا كإنجيل يوحنا انظر ( يو 3: 17 و12: 47 ) فيجوز أن يكون اختراع هذه المسائل والقصص هو لمثل ذلك الغرض أي إظهار أنه فوق الناموس الأكبر، وأنه أكبر من كل شيء، وإن كان هذا الاختراع قد أدى إلى عكسه فذم الناس المسيح ذمًّا شنيعًا بسبب ما نسب إليه، ولكن كتابهم ما كانوا ينتظرون حصول هذه النتيجة المحزنة. وأيضا فقد كان الاستهتار بالشريعة الموسوية وعدم المبالاة بها وبأحكامها أكبر ما سعى إليه بولس وتبعه في ذلك كثير من الأمم لسهولته كما هو معلوم، فلذا قالوا عن المسيح ما قالوا: فإن مبادئهم كانت أقرب إلى الإباحية والاشتراكية من أي شيء آخر كما سبق ( انظر صفحة 59 و105 و187 ).
أما غرضنا نحن من ذكر هذه المسائل هنا مع أننا نبرأ منها إلى الله مرارًا وتنفر منها طباعنا، والإسلام يحرم علينا نسبتها إلى عيسى عليه السلام، ويوجب علينا التأدب في حقه وحق سائر الأنبياء، فهو أن نظهر أننا يمكننا أن نقابل النصارى بالمثل لولا ديننا وآدابنا، وأن نري متعصبيهم أن الطعن في محمد عليه السلام بالروايات الضعيفة والأحاديث الموضوعة أو بالمسائل المختَلف بيننا وبينهم في قبحها وحسنها ليس من العقل ولا من الإنصاف في شيء وعندهم في أناجيلهم القانونية لا الموضوعة ما يوجب الطعن في المسيح بأشد مما يوجد عندنا في محمد، حتى نفر عقلاؤهم وعلماؤهم في أوربة من المسيح والمسيحية، ومن كان في بيت من زجاج لا يليق به إن كان عاقلا أن يرمي بالحجارة الساكنين في بيوت من حديد.
ومما تقدم ترى أن الاعتقاد بهذه الأناجيل ضار بمقام المسيح عليه السلام ضررًا بليغًا ولا خلاص للناس من كل الإشكالات المتقدمة وغيرها التي أوقعت المفكرين والعقلاء في الإلحاد إلا بنبذ هذه الكتب والاعتقاد بالقرآن الشريف فإنه هو الذي برأ المسيح بالحق من كل عيب، ومن كل دعوة إلى عقيدة باطلة ورفع مقامه رفعًا حقيقيًّا عاليًا.
أما هذه الأناجيل فقد حطته من حيث لا تشعر وهي تسعى في تأليهه بنسبة أقوال إليه تدل لو صحت ولن تصح، على جنون قائلها لشدة بساطة كاتبيها وبعدهم عن العلم الصحيح والعقل وشدة تأثرهم بالوثنية، ومع أن رواية هذه الأناجيل هي عند النصارى أصح الروايات بل مكتوبة بالوحي الإلهي، فقد رأيت ما تؤدي إليه من نسبة ما لا يليق إلى المسيح، وهو منه براء عليه السلام. فكيف يكون الحال إذا عاملنا النصارى كما يعاملوننا في طعنهم في محمد ﷺ وأخذهم بكل سخيف ضعيف من الروايات؟ ولكن ديننا يحول بيننا وبين ذلك، وهو أيضا لا يتيسر لنا؛ لأنهم أضاعوا الروايات الأخرى وأغلب الأناجيل، ولم يبق إلا ما وافق آراءهم وأهواءهم، ومع ذلك فنحن قد أخذنا بأصح رواياتهم في اعتقادهم وأريناك كيف تؤدي إلى الطعن في المسيح عليه السلام، وهم إنما يأخذون بأضعف الروايات عندنا وأسخفها بل بالموضوع منها وأحيانًا يفتجر بعضهم الروايات لنا افتجارًا، فهل أمكنهم بعد ذلك كله نسبة شيء قبيح قبحًا حقيقيًّا لمحمد ﷺ [6] كخلوته بالزانيات وحبه لهن وتردده عليهن مرارًا هو وتلاميذه ودلكهن قدميه بالطيب ودهن رأسه به ومسح رجليه بشعورهن، وعدم إنكاره على الناس شرب الخمر ومساعدتهم على ذلك بل فرضه عليهم وسكره، وتجرده من ملابسه مرة أمام تلاميذه وعشقه لأحدهم وإجلاسه له في حضنه، وكذبه على إخوته، وعقوقه لوالدته ومنعه تلميذه من دفن أبيه، وحقده على كل من لم يؤمن به إلخ، وهو مع ذلك كله فقير مسكين ضعيف مضطهد، فما بالك إذا أوتي ما أوتيه محمد من الملك والعز والمجد والعظمة وسعة الرزق وطول العمر.
وقد حثَّ عيسى تلاميذه - وهو ضعيف - على المقاومة للدفاع عنه وحمل السيوف واستعمالها في ذلك، وأمر الناس كافة ببغض آبائهم وسائر أقاربهم الأقربين وإلقائه الشقاق والحرب والتفريق بينهم، ثم إن أعظم تعاليمه موجبة لضعة النفس والذل، وهي ليست عملية ولا يمكن إطاعتها وفيها من الغلو ما فيها وتؤدي إلى خراب هذا المجتمع، بل القيام ببعضها مستحيل حتى عليه هو نفسه كمحبة الأعداء وهو نفسه لم يحبهم بل كان يسبهم سبًّا شنيعًا ( مت 23: 13 - 36 ) ويحقد عليهم وما منعه من الانتقام منهم إلا ضعفه كما بينا، ومن ذلك حثه الناس على بذل جميع ما لهم للفقراء وعلى عدم اهتمامهم بشئون الحياة وترك العمل [7] [8] ( مت 5: 44 و6: 25 و19: 21 - 25 ) وحضه لهم على عدم التزوج وعلى الخصاء ( مت 19: 11 و12 ) وإيجابه الطاعة العمياء والخضوع للرؤساء بلا قيد ولا شرط لشدة خوفه من قياصرة الرومان، ونصه على أن سلطتهم هي من الله ( مت 22: 15 - 22 ويو19: 11 ) ولذلك قال بولس اتِّباعًا له: ( إن من قاومهم فقد قاوم ترتيب الله وسيأخذ لنفسه دينونة ) ( رو13: 1 و2 ) [9] .
الدكتور
محمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ نعم إنه لما يئس من اليهود أخذ يسبهم ويلعنهم بأفحش الألفاظ كقوله (مت 23: 13 - 36): أيها المراءون والقادة العميان والجهال والحيات أولاد الأفاعي إلخ، وقوله لهم (مت 21: 31): إن العشارين والزواني (وهم الذين كان يحبهم بنص الإنجيل، انظر مثلا يو 11: 5) يسبقونكم إلى ملكوت الله، فهذا مثل آخر من أمثلة محبته لأعدائه، ولكن أتدري ماذا حصل له بعد هذا السب مباشرة؟ هم أخذوه وصلبوه وأهانوه شر إهانة ثم قتلوه فهذه نتيجة شجاعته أمام هؤلاء الأقوياء بعد يأسه منهم وفشله في أمرهم، كل هذا نقوله ونحن بريئون منه إلى الله وإنما نقوله إلزامًا للخصم وإظهارًا لما تجر إليه قصص هذه الأناجيل.
- ↑ الظاهر من هذه العبارة ومن غيرها في الأناجيل أن مريم أمه وأخوته لم يكونوا به مؤمنين (انظر يو 7: 5 ومر 3: 21)، ولا عن أعماله راضين، فلذا حقد عليهم وكرههم حتى أمه، وقد بلغ من قسوة قلبه عليها وجموده أنها ذهبت ووقفت عند الصليب لتنظر ابنها وفلذة كبدها وهو مصلوب، (يو 19: 25 - 27) فلما رآها يسوع خاطبها مرة أخرى بقوله يا امرأة، فهذه هي أخلاق المرأة التي عبدها النصارى منذ القدم، وهذه هي قيمتها عند ابنها، ولكن صورتها بحسب الأناجيل تغاير صورتها بحسب القرآن الشريف الذي أثنى عليها مرارًا وعظَّمها وقال: إن الله اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين وجعلها للناس آية، فالظاهر أن قصتها في الأناجيل مما دسه اليهود على النصارى؛ ولشدة جهلهم وبعدهم عن التمحيص والتحقيق إذ ذاك دخلت عليهم الغفلة وصدقوهم فيها كما دخلت عليهم في غير ذلك كثيرًا وصدقوا قصصهم في فسق أنبياء بني إسرائيل ومعاصيهم الكبيرة الكثيرة وصاروا يدافعون عن هذه القصص الفظيعة ويعتبرونها مقدسة إلى الآن، فحاشا لله أن يصطفي من خلقه الزناة السكيرين الكذبة الخونة (تك 26: 7 و27: 19 الكفرة 1 مل 11: 5 و6) الأشرار كما صورهم اليهود لا سامحهم الله.
- ↑ ولذلك تراهم الآن، وقبل الآن، في كل زمان ومكان يباركون الجيوش ويدعون يسوع لأجلها، ويصلون فرحًا بانتصاراتها ونجاحها في سفك الدماء، وتيتيم الأطفال، وهتك الأعراض، وتخريب الديار، وهدم معالم التوحيد، وعبادة الرحمن، واستبدالها بالسجود للصور والصلبان، عبادة ابن الإنسان وهو في الحقيقة من كل ذلك بريء وعليه حاقد ناقم، وما هم فيه إلا متبعون أهواءهم وشياطينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
- ↑ إن شئت أن تقرأ بحثًا مستفيضًا في هذه المسائل كلها فاقرأ رسالتنا: (الإسلام في الرد على اللورد كرومر).
- ↑ حاشية: هذا لا يدل على أنهم كانوا يعتقدون ألوهية حقيقية؛ لأنهم يقولون: إن ذلك مما أعطاه الله إياه كالقدرة على الخلق وغيره انظر (يو 14: 24 و5: 30) وقال يوحنا أيضا (3: 35): ( الأب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده ) وهو صريح كما قلنا مرارًا في أن الله هو الذي أعطاه كل شيء فهو عند كتاب العهد الجديد ليس إلهًا لذاته فإن قيل: لعل هذا القول في الابن باعتبار الناسوت، قلت: إن هذا الناسوت باعتراف النصارى عاجز جاهل كباقي البشر وليس في يده شيء وهو أيضا حادث، ولم يخلق شيئا من العالم، وإنما الذي في يده بزعمهم، كل شيء وخلق العالم (يو 1: 3) هو الله الابن وهذا بنص الإنجيل لم تكن له القدرة من ذاته بل الله هو الذي دفعها له كما قال يوحنا وغيره انظر (أع 2: 22 وأف 1: 22 و1 كو 15: 27 و28 ومتى 11: 27) فكيف إذا يكون إلهًا حقيقيًّا مساويًا للأب في كل شيء كما يزعمون؟.
- ↑ هذا مع انحطاط الوسط الذي نشأ فيه محمد ﷺ من أكثر الوجوه عن الوسط الذي نشأ فيه المسيح حيث كانت توجد شرائع اليهود وكتبهم الدينية وآداب اليونان والرومان وكتبهم العلمية والفلسفية وغيرها، وأما أهل مكة والعرب عمومًا فكانوا وثنيين جاهلين منغمسين في الشهوات كالخمر وحب النساء وفي سفك الدماء ووأد البنات والسلب والنهب والأذى والقسوة وفاقهم محمد جميعًا بدرجات عالية منذ صغره، وكان مثال الكمال بينهم في كل شيء، وأما المسيح فلا نعلم في أي شيء فاقه قومه بحسب هذه الأناجيل وجميع تعاليمه الحسنى توجد في كتب اليهود وغيرهم من قبل كما بينه كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كما ذكرنا آنفا، (راجع ص 118 - 120) من هذه الرسالة نعم نحن لا ننكر أنه نشر في هذه التعاليم العالية بين عامة اليهود علمًا وعملا بعد أن كانت في كتبهم لا يقرؤها إلا بعض خاصتهم ويندر وجود من يعمل بها كلها منهم ولذلك قال تعالى فيهم: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا ) (الجمعة: 5) وبسبب عيسى ﷺ انتشرت بين العامة والخاصة حتى عرفت في العالم الروماني كله واشتهرت بين الناس إلى اليوم، ولكنها مشوبة بشوائب كثيرة حاول بعضهم كالفيلسوف تولستوي تجريدها منها.
- ↑ مقتضى هذه التعاليم (مت 6: 25 - 34 ولو 12: 22 - 31) أن لا يهتم الإنسان بشيء من حاجاته الجسدية من مأكل وملبس ومشرب ومسكن وأن يهملها كلها، وعلى ذلك تكون قذارة الثوب ورِثتَّه ووساخة الجسد والمسكن وفساد هوائه والفقر من المستحبات ودلائل التوكل والإيمان في المسيحية، فمن من النصارى يعمل بهذه الأوامر؟ وإذا عملوا بها فكيف تكون حالتهم الصحية؟ وهل هذه التعاليم تساعد على الاكتشافات والاختراعات وترقي العلوم الطبية والهندسية والاجتماعية والاقتصادية والنظامات الدستورية وغيرها من علوم العمران والحضارة والمدنية الاجتماعية؟ وما حاجة الناس إلى هذه العلوم إذًا وإهمال الجسد والذل والفقر والكسل عن كل عمل دنيوي من أعظم دلائل الفضيلة والطاعة والإيمان والتوكل على الله بحسب الأناجيل؟ وهل اتهام متعصبي النصارى الإسلام بأنه هو السبب في قذارة المدن وفساد هوائها وضعف صحة أهلها وخرابها واستبداد ملوكها صحيح أم هو مقتضى تعاليم المسيحية التي أخذ بها متصوفوا المسلمين ثم عمتهم كلهم حتى أصبحوا أشد تمسكًا بها من أهلها الذين أهملوها ألبتة حتى ضرب بينهم وبينها بسور من حديد كما هو مشاهد في كل زمان ومكان، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن: ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (يونس: 101) وقوله: ( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون)َ (يوسف: 105) وقوله: ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مِّنْهُ ) (الجاثية: 13) الآية، ونحو ذلك كثير سنذكر بعضه، وقول المسيح بحسب رواية لوقا (12: 22 - 31): ولا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيها، كم أنتم بالحري أفضل من الطيور فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم، فضلا عما فيه من الحض الصريح على ترك السعي والعمل والجد والاجتهاد في الدنيا، هو أيضا غير صحيح فإن سنة الله في هذا الكون أن الإنسان إذا ترك السعي والعمل خسر كل شيء، ولو طلب ملكوت الله كل يوم ألف مرة لما زيد له شيء من مطالب الحياة إلا إذا أصبح عالة على الناس يحسنون إليه بشيء من كدهم وعملهم حتى إذا ورث شيئا وترك العمل فيه خسره تدريجيًّا إلى أن يفقده، فإذا اتبع جميع الناس هذه التعاليم أكان العالم يصل إلى ما وصل إليه من الرقي والتقدم؟ وهل ما وصل إليه الإفرنج الآن هو بفضل هذه التعاليم المسيحية كما يدعي المبشرون؟ ومن منهم يعمل بها إلا أهل البطالة والكسل أو الشحاذون؟ وهل هذه الأوامر تتفق مع سنن الوجود؟ فليجربها مَن شاء منهم وليترك الاهتمام والعمل ثم ليرنا أي شيء زيد له من مطالب الحياة؟.
- ↑ أما القرآن الشريف فقال: ( وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (القصص: 77) وقال: ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ) (الملك: 15) وقال: ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10) وقال: ( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) (البقرة: 219-220) أي: في أمورها معًا وما به صلاحهما فأين الثريا من الثرى؟ وقال القرآن الشريف أيضا: ( مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوما مَّدْحُورا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورا * كُلا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا ) (الإسراء: 18-20) ونحوه في القرآن كثير وهو يفيد أن من أراد الدنيا وسعى لها سعيها أوتيها، ولو كان كافرًا ومن أراد الآخرة كذلك أوتيها وأما من لم يرد الدنيا ولم يعمل بها فلا يؤتى منها ما يؤتاه العاملون ولو كان صالحًا تقيًّا طالبًا ملكوت الله وهو الحق كما هو مشاهد بخلاف قول الإنجيل فإنه يفيد أن من طلب الآخرة ولم يطلب الدنيا أوتي الدنيا أيضا، وقال القرآن: ( وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ) (آل عمران: 145) فطلب الدنيا شيء وطلب الآخرة شيء آخر، ولا يعطاهما إلا من طلبهما معا ولا يغني طلب الآخرة وحدها عن طلب الدنيا كما هو صريح الإنجيل فإن ذلك مخالف لسنن الكون المعروفة، وقد كانت هذه الأفكار المسيحية من أسباب تأخر المسلمين فإنها انتقلت إليهم ممن دخل في دينهم من النصارى الأولين وفشت فيهم مع ترك النصارى أنفسهم لها منذ أن ارتقوا ولو اتبعوها لتركوا كل عمل وكرهوا الحياة الدنيا وعدوها سجنًا لهم يجب الخلاص منه بالتجرد عنه حتى يموت الإنسان كبعض أهل الهند، وهي مبادئ لا تتفق مع مبادئ القرآن في شيء كما لا يخفى على الباحثين في المدن الأوربية، أو في الأحياء الإفرنجية الشرقية، في أيام الآحاد، أو الأعياد، وانظر إلى جمال الإفرنج والإفرنجيات وتأنقهم وجمال مساكنهم وملابسهم ومشاربهم ومآكلهم وتمتعهم بسائر أنواع اللذات والشهوات والمسرات وخصوصًا التمتع بالنظر إلى الكاسيات العاريات من الغانيات الحسان، والفتيات الفاتنات الكاعبات الأبكار والثبيات، وقل لي بأبيك في أي شيء تتفق هذه المدنية الأوربية (أو الرومانية باعتبار أصلها) مع التعاليم المسيحية الحاثة على الفقر والتقشف وترك مطالب الحياة وإهمالها كلها، والحاضَّة على الزهد في الدنيا والناهية عن الاعتناء بالجسد والآمرة بطلب الخبز الكفاف من الله يوما بيوم (مت 6: 11) والمحرمة النظر بشهوة إلى الأجنبيات (مت 5: 28) مع أنه لا توجد نساء في الدنيا تبدي من الخلاعة والزينة وكشف أجزاء من أجسامهن واختلاطهن بالرجال والرقص معهم وتبادلهن معا كئوس بنت الكروم أكثر من الإفرنجيات المسيحيات، فبأي حق أو عقل يسمون هذه المدنية الأوربية بالمسيحية وبينهما كما بين السماء والأرض، إني والله لا أجد في الدنيا اسما أكذب من هذا الاسم، ولا يصح اعتبار المسيحية الدين الكامل للبشر الختامي لهم بل كان فقط درجة تمهيدية في ذلك الزمن زمن بعد اليهود عن روح الدين وتعلقهم بقشوره وانتشار المدنية الرومانية وما فيها من الإسراف والترف والملاذ والإغراق في الماديات مع عدم ارتقاء العقل البشري إلى الدرجة التي ارتقى إليها فيما بعد فأتت المسيحية أيضا لنقدر به على مقاومة كل ذلك ولتهيئ النفوس لقبول الإصلاح الإسلامي الختامي الجامع بين مصالح الدين والدنيا ومطالب الروح والجسد والخالي من الإفراط والتفريط لعدم حاجة الناس في زمنه إلى غلو المسيحية لارتقاء العقول والنفوس عن ذي قبل فيكفيها الاعتدال في بيان الحقيقة على أكمل وجهها، فهذا هو سبب اختلاف المسيحية عن الإسلام في أوامرها وتعاليمها فإنها لا تناسب إلا زمنها ولكن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولذلك تجده أقرب إلى الفطرة البشرية والعقل من كل دين آخر ولا تجد سواه يتفق مثله مع أصول المدنية الصحيحة والحضارة والعمران والعلم، والذي يدلك على ارتقاء الناس في الجملة علمًا وعقلا ونفسًا في عهده عن ذي قبل مع أن ذلك من مقررات العلم الحديث القائل بترقي المتأخر عن المتقدم أنهم كانوا أبعد عن الوثنية، أميل إلى التنزيه والتوحيد، وكان عندهم ميل شديد ورغبة عظمى في البحث والنقد والتمحيص والفلسفة العقلية مبلغًا لا نكون كاذبين إذا قلنا: إن الإفرنج إلى الآن لم يساووهم تمامًا في ذلك، ولذلك جاءهم الدين خاليا من التكليف بالمحال ومن الغلو، معتدلا في جميع ما شرعه لهم؛ لأنهم كانوا قد ارتقوا عن درجة الطفولية التي كانوا فيها من قبل وأصبح عندهم من التمييز والعقل وقوة الإرادة ما لم يكن عند الأولين، ولو جاءت المسيحية معتدلة مثله لما كان لها ما كان من التأثير في تلك العقول الضعيفة، والنفوس الصغيرة، ولبقي الناس حيث كانوا، فتبارك الله أحكم الشارعين.
- ↑ قارن ذلك بقول القرآن الشريف: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (النساء: 59) لاحظ قوله هنا( مِنكُمْ ) (النساء: 59): ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) (النساء: 59) وهو صريح في أن طاعة أولي الأمر لا تجب علينا إلا فيما لا يخالف الدين فإن اشتبه علينا الأمر جاز لنا أن نتوقف وننازعهم فيه ووجب أن نرده إذًا إلى الله ورسوله، أي إن كان حيًّا، حتى لا نعمل إلا بما وافق الدين وهو يدل على وجوب العمل بالقياس والاستنباط المَبْنِيَّيْن على العقل والتفكر فيما أوحاه الله إلينا، والرد إلى الرسول في زمنه واجب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أعقلهم وهو أدرى الناس وأعلمهم بأسرار شريعته ومع ذلك فهو مأمور بالشورى بنص قوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (آل عمران: 159) ولذلك كان عليه السلام يستشير أصحابه وكان منهم من يعارضه في أفكاره وآرائه حتى كان يرجع عن رأيه لرأيهم، ولكن إذا قرر شيئا بعد الشورى وبعد النظر في الكتاب العزيز ولو خالفهم فيه وجب الإذعان له وإطاعته فإنه كان يرى ما لا يرونه ولذلك قال تعالى: ( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59) والرد إليه خاص بزمنه وفي القرآن نحو ذلك من الآيات كثير كقوله تعالى: ( لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضا ) (النور: 63) وقوله: ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (الحجرات: 2) وقوله: ( إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) (المجادلة: 12) أما بعد وفاته ﷺ فيرد الأمر كله إلى كتاب الله أو إلى ما علم عنه ﷺ باليقين، والذين يردون الأمر هم نواب الأمة ورؤساؤها وأولياء أمرها لقوله تعالى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (النساء: 83) والمستنبطون الأمر من كتاب الله هم هؤلاء الناس الخاصة من المؤمنين لا العامة منهم ويجب عليهم في بحثهم واستنباطهم مشاورة بعضهم بعضا بحيث لا يستبد أحد بالأمر فيهم لقوله تعالى: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (الشورى: 38) فإذا قرروا شيئا بعد ذلك وجب على عامة الأمة إطاعته ما لم يكن مخالفًا لدين الله فإن ذلك بالضرورة لا يكون مستنبطًا منه، وإذا اختلف هؤلاء المستنبطون معا وتساوى عددهم ولم يمكن الترجيح بينهم كان للأمة الحق في أن تعمل بما تراه من آرائهم أقرب إلى نصوص الدين، هذا هو ما يستفاد من مجموع آيات القرآن في هذا الباب فأي مبادئ أدعى من هذه إلى العدل ومنع الاستبداد وإيجاب الشورى والتفكر والحرية وعزة النفس؟ وأي فرق بينها وبين نظامات أرقى أمم العالم الحالي النيابية والدستورية؟ وإلى أي الدينين الإسلام أو المسيحية ترى أن مبادئ هذه الأمم الراقية أقرب أو أشبه؟ وأنت ترى أن المسيحية توجب عليك الخضوع للسلاطين ولو كانوا ظالمين وتنص على أن سلطتهم هي من الله وأن من قاومها فقد قاوم الله واستحق عقابه كما قال بولس إرضاء للقوة الحاكمة في زمنه وتملقا لها كعادته (رو 13: 1-7) وقال بطرس أيضا (1 بط 2: 3) (فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب إن كان للملك فكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير إلى قوله: أيها الخدام ( أي العبيد ) كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط للعنفاء أيضا ) فأين ذلك من القرآن الذي قال: ( وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) (الممتحنة: 12) وقال: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات: 13) وقال: ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (المنافقون: 8) والذي ألزم الناس بعتق من طلب الحرية من الأرقاء مكاتبة إن علمنا صلاحيته لذلك وأوجب عليهم إمداده بالمال حتى يقدر على مكاتبة سيده فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) (النور: 33) وأحكام الرق في الإسلام شهيرة، وهي من أعظم ما يفتخر به في هذا العصر وما وصلت إلى مثلها أوربة إلا بشق الأنفس وبعد قرون عديدة بفضل ديننا وكتبه (وقد بينا شيئا مثلها في كتابنا الإسلام في الرد على اللورد كرومر ص 17 - 19 و40 - 46 فليراجعه من شاء) ولكنا نعذر مؤسسي النصرانية كبولس و بطرس فيما قالا، فإنهما لو فاها ببنت شفة يفهم منها الانتقاد على نظامات الرومان إذ ذاك أو الخروج عليهم لما أبقوا للنصرانية باقية فكانت تلك السياسية في منتهى الحسن في زمن ضعفهم وذلهم فإنهم كانوا يتقون كل ما يوجب إيذاءهم واضطهادهم وخصوصًا مثل تلك المسائل السياسية ولذلك ترى الآن محققي المؤرخين من الإفرنج أنفسهم يشكون في أكثر قصص اضطهاد النصارى الأولين بعد أن علمت مسالمتهم وخنوعهم إذ لا يفهم هؤلاء المحققون سببًا لها وقد كان الرومانيون واسعي الصدر أحرارًا في المسائل الدينية وخصوصًا مع رعاياهم الضعفاء الأذلاء الخاضعين لهم كمال الخضوع كهؤلاء النصارى الأقدمين.