→ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية | مجلة المنار نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية محمد توفيق صدقي |
نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ← |
(( مجلة المنار - المجلد [ 16 ] الجزء [ 4 ] ص 281 ربيع الآخر 1331 - أبريل 1913 )) |
تابع ما قبله
هذا، واشتهار هذه الأناجيل بعد ذلك في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث لم يمنع النصارى من محاولة تحريفها هي وغيرها من كتبهم في بعض الأماكن التي لم ترُق لهم أو التي كثر انتقاد الناس عليها كعبارة لوقا في تقوية الملَك للمسيح ( 23: 43 ) ( راجع كتابنا دين الله ص 80 ) وكساعة الصلب في إنجيل يوحنا ( 19: 14 ) فجعلوها في بعض النسخ ( الثالثة ) بدل السادسة [1] وغير ذلك كثير ( راجع أيضا رسالة الصلب ص 162 وكتاب دين الله ص 76 - 78 ) وعبارة إنجيل لوقا المشار إليها هنا تدل على أن كاتبه إما أنه ما كان يعتقد في المسيح الألوهية الحقيقية كباقي زملائه كُتَّاب العهد الجديد ( انظر مثلا رؤيا 3: 14 ) أو أنه لم يقدر الله حق قدره فلذا قال هذه العبارة، والوجه الأول هو الراجح عندنا كما سبق بيانه.
ومن العجيب أن المحرفين قد يضيفون بعض عبارات من عند أنفسهم كما في إنجيل مرقس ( 16: 17 و18 ) وينسبونها للمسيح كذبًا، وإن أوقعهم ذلك في إشكال عظيم - ما دام في عملهم هذا تطبيق لنبوات قديمة على المسيح وأتباعه، فإن هذا هو أكبر مقاصدهم بل مقصدهم الوحيد في كل ما يكتبونه عن المسيح حتى أعماهم عن كل شيء آخر، ألا ترى أن كاتبي إنجيل متى ومرقس زعما أن المسيح صرخ وهو مصلوب قائلا: إلهي إلهي لماذا تركتني ( مت 27: 46 ومر 15: 34 ) رغبة منهما في تطبيق المزمور ( 22: 1 ) عليه ونسيا أن مثل هذا الصراخ يدل على العجز والضعف واليأس والقنوط من رحمة الله وعدم الرغبة في تضحية ذاته في سبيل خلاص الناس. ولكن رغبة الإنجيليين في تطبيق نبوات اليهود على المسيح أنستهم كل شيء آخر.
وكذلك ادعى متى ركوب المسيح الأتان والجحش معًا حينما دخل أورشليم تطبيقًا لنبوة زكريا عليه التي لم يفهمها كما سبق بيانه، وتراهم مثلا يقولون في إنجيل مرقس وغيره مثل ( يو 14: 12 ): ( إن الذين يؤمنون بالمسيح يخرجون الشياطين باسمه ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون الحيات ولا تضرهم السموم، ويشفون المرضى ). مع أن هذه الأشياء لا نرى أحدًا منهم الآن يقدر على فعلها، وإن زعموا أنها خاصة بتلاميذه مع أن النص عامٌّ، قلنا: ولماذا لا تشاهد هذه الآيات والمعجزات الآن مع شدة احتياح العالم إليها وامتلاء قلوب العالمين بالشك في الدين المسيحي على الخصوص وكثرة الطعن فيه وتكذيبه حتى ممن كانوا أتباعه؟
ولو جاز اتخاذ مثل هذه العبارات دليلا على أن الإنجيليين ومن عاصرهم كانوا يرون بأعينهم المعجزات تُعمل في زمنهم على يد تلاميذ المسيح؛ لجاز أيضا أن يقال: إنهم كانوا يرون الجبال تنتقل من مكانها وتنطرح في البحر بل كانوا يرون ما هو أكبر من ذلك يحصل بكلمة أيِّ رجلٍ منهم ولو كان إيمانه ضعيفًا كحبة الخردل كما قالوا في أناجيلهم ( مت 17: 20 ومر 11: 23 ولو 17: 6 ) مع أنه لم يشاهد أحد منهم شيئًا من ذلك قطعًا لا انتقلت الجبال ولن تنتقل بأضعف الإيمان ولا بأكمله، فلم إذًا نسبوا هذه العبارات للمسيح وخطؤها واضح لا يحتاج إلى دليل؟ ألا يدل ذلك على أنهم كانوا يخترعون ولا يبالون، والناس لجهلهم يصدقون؟
وإذا صح قول المسيح: ( إن حبة خردل من الإيمان تفعل كل شيء ) فكيف بعد ذلك مباشرة ( مت 17: 21 ) اشترط الصلاة والصوم لإخراج شيطان من شخص قدم لتلاميذه فلم ينجحوا في إخراجه منه؟ أفلم يكن عندهم قدر حبة خردل من الإيمان؟ وإن كانت عندهم فلم اشترط إذًا الصلاة والصوم وهو القائل قبل ذلك: إن حبة الإيمان كافية لكل عمل حتى لا يكون شيء مستحيلا [2] مع وجودها؟
أما السبب عندنا في نسبة مثل تلك العبارات للمسيح فهو أيضا ورودها في النبوات القديمة كعادتهم وتوهم الكاتب بدون بحث ولا تحقيق - لشيوع الجهل إذ ذاك - قدرة الناس على هذه المعجزات؛ لكثرة ادعائهم لها في تلك الأزمنة بشيء من الشعوذة أو التأثير العصبي على عامة الناس ليثبتوا صدق النبوات الماضية القائلة بحصولها في زمن المسيح وزمن أتباعه [3] فامتلاؤهم بروح القدس وتكلمهم بألسنة جديدة قال عنه يوئيل ( 2: 28 - 30، راجع أيضا أع 2: 16 - 19 ) وعدم أذية الحيات وغيرها لهم وسلامتهم من كل سوء، ذكره كتاب أشعياء ( 11: 8 و65: 25 ) والمزامير ( 91: 13 ) وغيرهما، وشفاؤهم المرضى ذكره أشعياء أيضا ( 29: 18 و35: 5 - 10 ) ولما كانت أغلب هذه الأمراض عندهم ناشئة عن تأثير الشياطين فلا عجب إذًا إذا جعلهم كُتَّاب الأناجيل قادرين على إخراج الشياطين أيضا، والحق أن سفر إشعياء هذا هو أعظم مصدر لقصص وعبارات العهد الجديد، فجُعل ما حكوه فيه تجد أن الحامل لهم عليه هو تطبيق عبارات أشعياء على المسيح وعلى أتباعه، ولو لم يقدروا على عمل شيء من ذلك الآن لإقناع الشاكِّين منهم في دينهم. وزيادة هذه العبارة في مرقس ( 16: 9: 20 ) مسلَّمة عند كثير من علمائهم حتى من أشد المدافعين عن المسيحية المتعصبين لها كترتون ( Turton ) مؤلف كتاب صدق المسيحية (of Christianity Truth The) ص 382 منه. فرغبة كُتَّاب العهد الجديد في تطبيق هذه النبوات القديمة كان أعظم سبب لضلالهم ووقوعهم في الغلط الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم.
والذي منع النصارى فيما بعد عن إصلاح هذه الغلطات مع كثرة تلاعبهم في كتبهم أمران:
( 1 ) اشتهار هذه الغلطات ومعرفة خصومهم لها من قديم الزمان وتعييرهم بها، فلا يمكنهم - والحالة هذه - إصلاحها.
( 2 ) شيوع الجهل بينهم في الأزمنة القديمة، واعتقادهم أن الإيمان بدون بحث ولا تعقل فضيلة، وقلة عدد نسخ كتبهم، وعدم ضم بعضها إلى بعض كما هي الآن، وقلة المطلعين عليها حينئذ فلم ينتبهوا لهذه الغلطات إلا بعد أن وقف عليها الناس فعرفوها وحفظوها عليهم في كتبهم فلا يصح جعل هذه الغلطات - كما يفعل بعضهم الآن - دليلا على أمانتهم في النقل، فكم من غلطات غيرها حاولوا إصلاحها أو أصلحوها فعلا لعدم شهرتها، وعرف ذلك أخيرًا، كما تبينا بالمراجعة والبحث في النسخ الحديثة والقديمة والكتب الأخرى غير المقدسة التاريخية والتفسيرية وغيرها، ولولا خوف الفضيحة والعار لأصلحوا كل غلطات كتبهم الآن؛ ليستريحوا من كثرة القيل والقال، ومع ذلك يتجدد فيها كل حين تنقيح وتصحيح، وأخذ ورد، وتسليم ورفض، فلم يستقروا في أمرها على حال إلى الآن.
تلاميذ المسيح المسمون بالرسل [4] وبولس
هؤلاء التلاميذ هم اثنا عشر رجلا: ثمانية منهم لم يكتبوا شيئا كما يقول النصارى وهم أندراوس ويعقوب وفيلبس وبرتولماوس وتوما [5] وسمعان القانوني ويعقوب بن حلفي ويهوذا الاسخريوطي، وهاك خبر الأربعة الباقين:
( 1 ) بطرس لم يكتب سوى رسالتين، وكان ضعيفًا؛ ولذلك أنكر المسيح - وقت الصلب من شدة الرعب والجبن وسماه المسيح من قبل ذلك شيطانًا ( مت 16: 23 ومر 8: 33 ) وكان يرائي اليهود في أنطاكية حتى زجره بولس ( غلاطية 2: 11 - 14 ) فإذا سلم أنه هو الكاتب للرسالتين المنسوبتين إليه فلا ثقة لنا به، وخصوصًا لأن بولس كان يؤثِّر عليه كثيرا. وأما تسمية المسيح له ببطرس ( أي الصخرة ) فالظاهر أنها كانت في أول الأمر عند ابتداء إيمانه كما في يوحنا ( 1: 42 ) أي قبل أن يحصل منه ما حصل، فكان عيسى عليه السلام يحسن به وبغيره الظن كما هو شأن المخلصين الصالحين، وكما أحسنه بيهوذا حتى وعده بالجنة (مت 19: 28) هذا إذا صح أن المسيح نفسه هو الذي سماه بطرس.
وأما قصة بناء الكنيسة عليه وإعطائه مفاتيح الملكوت ( مت 16: 18 و 19 ) فالأرجح أنها كغيرها من تاريخ بطرس، زيادة من رؤساء الكنيسة الأقدمين في هذا الإنجيل ليبنوا عليها سلطتهم التي كان منها ما كان مما لا ينساه تاريخ النصرانية من سفك الدماء وظلم الأبرياء ودعوى القدرة على غفران الذنوب للناس وغير ذلك. ومع كون هذه القصة لا تتفق مع تسميته بعدها مباشرة بالشيطان ولم تُذكر في إنجيل آخر غير متى - فالظاهر أن المحرفين خافوا الفضيحة فاقتصروا على إضافتها في إنجيل واحد لتيسر ذلك عن إضافتها في الكل كما هي عادتهم غالبًا في التحريف ليقال: ( إنهم لم يمسوا الكتب بسوء وإلا لأضافوها في الجميع ). كما يقول بعض مبشريهم الآن.
( 2 ) متّى: روي أنه جمع بعض أقوال المسيح بالعبرية، وما جمعه مفقود الآن كما سبق.
( 3 ) لباوس المسمى يهوذا: كتب رسالة واحدة ليس فيها شيء يذكر من عقائدهم، وفيها يستشهد بكتب غير قانونية عندهم (أبو كريفة) (عدد9 و14).
ومن مضحكات براهين النصارى أنهم إذا وجدوا في بعض الكتب القديمة قولا من أقوال المسيح يشبه ما في أناجيلهم الحالية زعموا أن المؤلف اقتبسه من أناجيلهم واتخذوا ذلك دليلا على وجود هذه الأناجيل في زمن المؤلف وعلى صحة نسبتها إلى من نُسبت إليهم، ولا أدري لماذا إذًا رفضوا كتاب أخنوخ وقالوا أنه موضوع مكذوب، على أن أخنوخ هو القائل للعبارة التي استشهد بها؛ فلماذا إذًا خالفوا طريقتهم في الاستدلال على صحة هذا الكتاب؟
( 4 ) يوحنا: وإنجيله مشكوك فيه كما بينا، وقد زادوا في إحدى رسائله أصرح عبارة عندهم في عقيدة التثليث ( 1 يو 5: 7 ) فإذا سلمنا صحة نسبة هذه الكتب إلى يوحنا، فكيف نأمن أن يكونوا حرفوها كما حرفوا هذه العبارة؟ ومن أين لنا صدق هذا الرجل وعصمته من الخطأ؟ وما الدليل على أنه موحى إليه؟ وفضلا عن ذلك فهو لم ينص على الألوهية الحقيقية للمسيح كما بَيَّنَّاه، ولو سلم أنه دعا الناس إليها لاستحق القتل بنص التوراة ( تث 3: 5 ) ولو كان مؤيدًا بالمعجزات فما بالك وهو لم تثبت له ولا واحدة باليقين؟.
ومما تقدم تعلم أن الرسل لم يكتبوا شيئًا هامًّا عن تاريخ المسيح وتعاليمه فهل كتبوا شيئًا غير ذلك لم يصل إلينا؟ لا ندري. ولماذا تعرَّض للكتابة سواهم من تلاميذ بولس ومريديه؟ حتى إنك لترى أن جل العهد الجديد ليس من عمل تلاميذ المسيح بل هو عمل بولس ومريديه.
وإذا تذكرنا مشاجرة بولس مع برنابا ( أع 15: 39 ) مع أنه هو الذي قدمه للرسل وجعلهم يثقون به ( أع 9: 27 ) وعدم وصول شيء لنا من برنابا تثق به النصارى الآن مع أنه كان شريك بولس والمخصص معه لدعوة الأمم غير اليهودية إلى المسيحية ( غل 2: 9 ) ووصول جميع كتابات بولس وذيوله [6] ( تلاميذه ) إلينا، وانتهار بولس لبطرس في أنطاكية، وكلام بولس القارص وتحامله وبغضه لأكثر تلاميذ المسيح كما هو صريح عباراته في رسالته إلى أهل غلاطية ( إصحاح 1 و2 ) وتهكمه بهم وترفعه عنهم ( غل 2: 6 كو 11: 5 و6 و23 ) إذا تذكرنا كل ذلك تبين لنا كيف كان هذا الرجل مستبدًّا فيهم مسلطًا عليهم غير ميال إليهم مستأثرًا بهذا الأمر دونهم، مع أنه لم يَرَ المسيح ولم يعرفه ولا آمن به في عهده بل كان عدوًّا له ولمن اتبعه طول حياته. ثم إنه كان يناقض نفسه بنفسه في قصته كما في سفر الأعمال حيثما سمع صوت يسوع وراءه كما يزعم ( راجع أع 9: 6 - 8 و22: 9 و26: 13 - 18 ) وكذلك يناقض برسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي سفر الأعمال ( قارن أع 17: 14 - 16 و18: 5 مع 1 تسا 3: 1- 2 ) وأيضا فإن عباراته في غلاطية ( 1 و2 ) تناقض أخباره الواردة في سفر الأعمال المذكور كما بينه رينان بالتفصيل في كتابه عن الرسل ( صفحة 21 و22 منه ) وذلك لتقلُّب هذا الرجل وتلونه فهو - كما يقول عن نفسه - يهودي لليهود ( انظر أع 21: 18 - 26 و16: 1 - 3 ) ونصراني للنصارى ووثني للوثنيين ( انظر 1 كو 9: 19 - 23 ) ليربح الجميع لمذهبه وتعاليمه التي يسميها الإنجيل، والظاهر من رسائله أنه كان له إنجيل مخصوص يدعو الناس إليه، ويزعم أن الله سيدين سرائرهم يوم القيامة بحسب هذا الإنجيل ( رو 2: 16 و16: 25 و2 تي2: 8 ) ولا ندري ما هو هذا الإنجيل؟ وأين ذهب؟ وقال: إنه كان غير إنجيل تلاميذ المسيح المسمى بإنجيل الخِتان ( غل 2: 7 ) أي أن تعاليمه كانت خلاف تعاليم موسى و عيسى وأنه وحده اؤتمن على هذا الإنجيل ( 1: تي 1: 11 ) فهو في الحقيقة الكل في الكل، وجميع العهد الجديد هو مؤلفه إما بنفسه أو بيد تلاميذه وشيعته كمرقس ولوقا إلا القليل جدًّا منه، وقد قضى على كل عمل لغيره تقريبًا من أعمال التلاميذ الآخرين إلا اللذين وافقاه على آرائه وشايعاه وهما بطرس ويوحنا، على أن يوحنا قد ذمه تلميحًا بعد موته في سفر الرؤيا، ولم يجاهر بذلك خوفًا من أتباعه الكثيرين من الأمم ( رؤ 2: 2 و9 و14 و3: 9 ) هذا إذا صح أن يوحنا هو الكاتب لسفر الرؤيا.
وأما الذين تجاهروا بمخالفته من الحواريين فكان يمقتهم ويدعي أنهم يريدون تحريف الإنجيل ( غل 1: 7 ) وأنهم دخلاء في المسيحية ( غل 2: 4 ) مع أنه هو الدخيل فيهم [7] . ومن شدة تأثيره في الناس في ذلك الوقت ولعبه بعقولهم أنه لما تشاجر مع برنابا وانفصل عنه مرقص ( أع 15: 39 ) أوصى الكنائس بعدم قبول مرقس إذا جاءهم واعظًا، ولما صالحه أرسل إليهم بقبوله، فكانوا طوع أمره دون غيره من الرسل، ومما يدل على ذلك قوله في رسالته إلى أهل كولوسي 4: 10 ( ومرقس ابن أخت برنابا الذي أخذتم لأجله وصايا إن أتى إليكم فاقبلوه ) ولولا هذه العبارة لما قبل مرقس أحد وربَّما ما كان يبقى الإنجيل المسمى باسمه إلى اليوم كما حصل لتلاميذ المسيح الذين أطفأ ذكْرَهم ولم يقف أحد لهم على أثر أو خبر وخصوصًا المحافظين منهم على تعاليم موسى وعيسى وهم الذين كانوا قدوة لبعض الفرق القديمة كالأبيونيين والناصريين وغيرهم، ولذلك ذم ذمًّا شنيعًا في الخطب المنسوبة إلى أكليمندس الروماني.
ومما انفرد به عن سائر الناس قوله ( 1 كو 15: 6 ) في قيامة المسيح من الموت: وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من 500 أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن، ولكن بعضهم قد رقدوا 8 وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا ) ولا ندري ولا غيرنا يدري من أين له هذا الخبر: خبر ظهوره لخمسمائة شخص، ومتى وكيف كان ذلك؟ ومن هم؟ وأين ظهر لهم المسيح؟ وهل رأوا شخصه أو رأوا نورًا وبرقًا فظنوه المسيح كما ظنه بولس ( قارن أع 9: 3 و4 و7 و22: 9 مع 1 كو 15: 8 ).
وما دام بولس لم يعين أسماء هؤلاء الأشخاص الخمسمائة أو بعضهم، فما فائدة قوله: أكثرهم باقٍ إلى الآن؛ فمن من الناس إذ ذاك يمكنه أن يكذبه وهو لم يذكر اسم أحد معين، وكيف يتيسر لأهل كورنثوس أن يسألوهم وهم بعيدون عنهم ولا يعرفونهم على التعيين؟ وإذا سألوا بعض المسيحيين عن ذلك في ذلك الوقت فهل نضمن أن لا يحملهم حب تأييد دينهم والرغبة في الظهور والتشرف بهذه الرؤية والإغراب في القول، على الإخبار بما لم يبصروه أو تقرير ما لم يوقنوا به؟
وإذا تذكرنا كثرة الكذب الآن في نقل أخبار البلاد القريبة منا والبعيدة عنا مع توفر جميع الوسائل عندنا لنقلها إلينا كالجرائد وغيرها ومع سهولة المواصلات وسرعة نقل الأخبار بطرق مدهشة خارقة لعادة تلك الأزمان وارتقاء الناس في العلم والعقل، إذا تذكرنا كل ذلك أدركنا كيف تكون حالة الأخبار في ذلك الزمان ومبلغها من الصدق وخصوصًا أخبار مثل تلك الغرائب والعجائب، وهل يبعد على أهل تلك الأزمنة أن يكونوا هم الذين افتجروا هذه العبارة ونسبوها إلى بولس بعد زمنه كما هي عادتهم؛ وإلا: إذا كان هذا الخبر صحيحًا فكيف تركته جميع الأناجيل مع أنه من الأهمية بمكان عظيم كما لا يخفى؟ وإذا كان هذا الجمّ الغفير كله رأى المسيح، فكيف لم يروِ هذا الخبر أحد منهم مطلقًا في الأناجيل أو في الرسائل أو غيرها وبقي سرًّا مكتومًا بينهم حتى أفشته رسالة بولس هذه؟ وإن كان هذا الخبر وصل بولس بالوحي فلمَ لم يوحَ به إلى غيره ليدونه؟ وما هذا الوحي الذي يكثرون من ادعائه لكل نصراني في القرن الأول؟ وإذا كانت روح القدس توهب لكل شخص من المؤمنين ( أع 8: 14 - 20 و19: 1-7 ) بمجرد وضع اليد عليه فما حاجة الناس إذًا لهؤلاء الرسل الكثيرين وكتاباتهم ولرسائل بولس وغيره الطويلة العريضة إذا كانوا كلهم أنبياء متمثلين من روح الله؟
وإذا صح قول النصارى في نبوة دانيال ( 9: 24 ) أنها في حق المسيح فلماذا لم تختم الرؤيا والنبوة به كما قال دانيال فيها؟ وكيف يكون جميع تلاميذ الميسح أنبياء بعده ملهمين من الله؟ وما معنى قول سفر الأعمال نقلا عن يوئيل 2: 17 ( يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ( جمع رؤيا ) ويحلم شيوخكم أحلامًا وعلى عبيدي أيضا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون؟ وهو ينافي ختم الرؤيا والنبوة بالمسيح.
وكيف رأى يوحنا رؤياه المشهورة؟ وكيف صار بولس نبيًّا موحى إليه من الله بعد المسيح يحل ما يحل ويحرم ما يحرم؟ فهل نسي صاحب كتاب الأعمال نبوة دانيال؟ أم هذه النبوة في اعتقاده ليست في حق المسيح؟ ففي حق من إذًا؟ [8] وكيف كثرت الأنبياء إلى هذه الدرجة بعد المسيح كما في كتاب الأعمال حتى كان منهم أغابوس وغيره ( انظر أع 11: 27 - 30 و13: 1- 3 و21: 10 - 12 ) إلخ إلخ.
فلولا عبارة يوئيل السابقة 2: 28 - 13 ) في انسكاب روح الله على كل بشر، وكثرة تنبؤ الناس في آخر الزمان لما جعل كاتب سفر الأعمال جميع النصارى الأولين أنبياء، ولما صاغ كل هذه القصص في نزول روح القدس عليهم وتنبئهم، فهو في هذه المسألة أيضا لم يخرج عما ألِفوه من عادة اختراع الحكايات لتطبيق النبوات عليهم. فهل مثل هذه الكتب يصح أن تعتبر تاريخية يؤخذ بما فيها ويعول عليها، وهي كما بينا مرارًا لم تخلُ في كل ما كُتب فيها من الأهواء والأغراض؟ ولماذا لا تنزل عليهم روح القدس الآن؟ وأين ذهبت معجزاتهم وآياتهم العديدة وقد امتلأت أوربا وغيرها بالملحدين والمشككين وجماعة العقليين ( Rationalists ) وغيرهم؟ ولماذا لا تقدر النصارى على عمل الآيات والعجائب الآن كما وعدهم المسيح على زعمهم بقوله مثلا ( مر 17: 17 ): ( وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يُخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة 18 يحملون حيات وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى، فيبرأون ) وما وجه تخصيصهم الآن هذه العبارات ونحوها كما في ( يو 14: 12 ) بالحواريين وهي عامة في جميع المؤمنين كما هو ظاهر منها؟ أليس لأنها لم تتحقق؟ وهناك مسألة أخرى تُبطل أيضا دعوى بولس السابقة ظهور المسيح لخمسمائة شخص، وإليك بيانها: جاء في كتاب صدق المسيحية ( Christianity Of Truth The) في صفحة 385 منه ما مؤداه أن ظهور المسيح لهؤلاء الخمسمائة كان في الجليل لأنه لم يكن في أورشليم قدر هذا العدد من التلاميذ كما يفهم من كتاب الأعمال ( 1: 15 ) اهـ. وهذا الرأي هو المعول عليه عند جميع علماء المسيحية، وهو مبني على قول متى ( 28: 10 ) أن المسيح أرسل إلى تلاميذه أمرًا بالذهاب إلى الجليل لكي يروه هناك ( راجع أيضا مرقس 16: 7 ) وأن بعضهم شكُّوا حينما رأوه ( عدد 17 ) والظاهر من ذلك أنهم رأوه على بعد في الأفق ولذلك خرجوا إلى الجبل ليرتقبوا ظهوره هناك. فلم يقل متى ولا غيره: إنهم كانوا خمسمائة. ومع ذلك فرواية الظهور في الجليل هذه منقوضة بقول لوقا: إن المسيح في مساء اليوم الذي قام فيه قابل تلاميذه، وقال لهم: أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي ( لو 24: 1 و13 و29 و 33 و44 -49 ) ثم صعد إلى السماء ورجعوا هم إلى أورشليم ( عدد 51 و52 ) وبقطع النظر عن مناقضة لوقا نفسه في سفر الأعمال حيث جعل الصعود بعد أربعين يومًا من أورشليم ( أع 1: 3و9 ) إلا أنه قال: إن المسيح أوصاهم أيضا في آخر يوم أن لا يبرحوا أورشليم حتى تحل عليهم روح القدس ( عدد 4 و8 ) فيستفاد من ذلك أن المسيح من أول يوم إلى آخر يوم أوصى تلاميذه بعدم مبارحة أورشليم إلا بعد حلول روح القدس عليهم. وهذه الروح لم تحل عليهم إلا يوم الخمسين أي بعد صعوده بنحو عشرة أيام ( أ ع 2: 1-4 ) وعليه فهم لم يبرحوا أورشليم إلا بعد الصعود، فكيف إذًا قال متى: إن المسيح أمرهم بمبارحتها إلى الجليل وأنهم هناك رأوه؟ وكيف يمكن رفع هذا التناقض البين من بينهما؟ اللهم إلا بالتكلف البارد والتعسف الذي لا مزيد عليه.
وإن كان ظهر لهم في أورشليم فالتلاميذ الذين كانوا فيها وأمروا أن لا يبرحوها من أول يوم إلى آخر يوم كانوا نحو 120 شخصًا بنص كتاب الأعمال (1: 15 ) وإن قيل لعلهم كانوا 500 نفرًا، ولما ظهر لهم المسيح سافر أكثرهم وبقي الأقلون. قلت: وهل يعقل أن تلاميذه هؤلاء الذين رأوه بأعينهم بعد قيامته من الموت يكونون أول العاصين له المخالفين لأوامره حتى إنهم تركوا أورشليم بعد أن شدد عليهم ووصاهم مرتين على الأقل بعدم مبارحتها؟ وإن كانوا غير مطيعين له ولا مبالين بأمره ونهيه بعد كل هذه المعجزات فمن يثق بهم أو يصدق ما يقررونه؟ هذا إذا كانوا شهدوا بأنهم رأوه فما بالك إذا كنا لم نسمع من أي واحد منهم أنه شهد بأن 500 شخص رأوا المسيح حقيقة؟ بل لم نسمع من أحد من تلاميذ المسيح ولا من غيرهم - خلاف بولس - أن المسيح ظهر لكل هذا العدد من الناس الذين لم يعرفهم أحد قط.
فإن قيل: لعل المسيح ظهر لهم في الجليل بدون علم أحد من التلاميذ الأحد عشر؟ قلت: ومن إذا الذي جمع كل هذا العدد من الناس في ذلك المكان وعيَّنه لهم وأخبرهم بأن المسيح سيظهر فيه وبوقت الظهور؟ مع ملاحظة أن مثل هؤلاء الناس لا بد أن يكونوا من الذين يئسوا منه وتركوه بعد حادثة الصلب ورجعوا إلى بلادهم شاكِّين فيه حائرين، فكيف إذًا اجتمعوا في ذلك الوقت والمكان المعين، ولو لم يُروَ عن أحد منهم خبر هذه الرؤية؟ ولم فعلها المسيح بدون علم أعظم تلاميذه؟ ولم لم يُخبر بها الرسلَ حين ظهوره لهم؟ ولِمَ لم يخبرهم روح القدس بها بعد نزوله عليهم ليدونوها في الأناجيل؟ وكيف يقول متى ( 28: 16 ) إن الذين ذهبوا إلى الجليل ورأوه هناك كانوا هم الأحد عشر رسولا ولم يشر إلى غيرهم، بل نص على أن بعض هؤلاء أيضا شك في أن الذي رأوه هل هو المسيح أم لا؟ فكل هذه الأسباب تحملنا قطعًا على رد زعم بولس هذا، وعدم الاعتداد به مطلقًا.
ومن تناقض كتبهم أيضا في هذه المسألة - غير ما تقدم - قول يوحنا ( 20: 22 و23 ): إن المسيح وهبهم روح القدس في مساء اليوم الذي قام فيه ( عدد 19 ) مع قول لوقا: إنها لم تنزل عليهم إلا يوم الخمسين ( أ ع 1: 4 و5 و2: 1 - 4 ولو 24: 49 ).
ومن التناقض العجيب أن المسيح يطلب ليلا من تلاميذه بعد قيامته أن يجسوه كما في لوقا ( 24: 39 ) مع أن يوحنا يقول: إنه منع في الصباح مريم المجدلية من لمسه بعلة أنه لم يصعد بعد إلى أبيه وإلهه ( يو 20: 17 ) وفي إنجيل متى ( 28: 9 و10 ) يقول: إنها هي ومريم الأخرى أمسكتا بقدميه وسجدتا له، فلم يمنعهما المسيح من ذلك بخلاف ما يقول يوحنا، بل قال لهما: ( لا تخافا ).
وجاء في لوقا ( 24: 33 ): أن الأحد عشر تلميذًا كانوا مجتمعين في مساء يوم قيامة المسيح فظهر لهم ووقف في وسطهم ( عدد 36 ) وفي يوحنا ( 20: 24 ) أن توما أحدهم لم يكن موجودًا في هذا الاجتماع حينما جاء المسيح فلم يكونوا إذًا إلا عشرة لا أحد عشر كما قال لوقا؛ فانظر إلى مقدار تناقضهم في كل شيء حتى في أبسط المسائل؛ لأنهم أخذوا ما كتبوه عن الإشاعات المتضاربة والروايات المتناقضة ولم يميزوا بين صحيحها من باطلها؛ فهل مثل هذه الكتب يصح أن يعول عليها؟ وهي كالثوب الخلِق كلما رقعته من مكان اتسع الخرق أو ظهر لك غيره حتى أصبحت بالية لا تصلح لشيء؟
ومن كثرة مبالغة بولس وإغراقه قوله أيضا ( 1 كو 15: 5 ): وأنه ظهر لصفا( بطرس ) ثم للاثني عشر وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين مع أن يهوذا أحدهم كان قد مات في ذلك الوقت، ولم تكن الرسل إلا أحد عشر فقط؛ ولذلك قال مرقس ( 16: 14 ) أخيرًا ظهر للأحد عشر، ولكن رغبة بولس في تكثير عدد الذين رأوا هذه القيامة المزعومة أنسته موت يهوذا فقال ما قال.
أما بطرس فلم يُروَ عنه في إنجيل من الأناجيل أنه قال: إنه رآه أولا وحده، غير أن لوقا ( 24: 34 ) قال في إنجيله: إن اثنين من التلاميذ مجهولين يسمى أحدهما: كليوباس، قالا: ( إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ) بطرس، وصريح القصة أن هذه إشاعة نقلاها ولا ندري عمَّن روياها وكيف سكتت الأناجيل عن رواية هذه الرؤية الأولى لبطرس حتى نفس إنجيل لوقا الذي روى قصة كليوباس هذه.
أما ظهور المسيح للأحد عشر، فلا برهان عليه إلا رواية هذه الأناجيل الأربعة التي أظهرنا لك قيمتها وقيمة سندها على أنها لم تذكر ذلك رواية عن كل فرد منهم، وقد تضارب الإنجيلان المنسوبان إلى التلاميذ متى ويوحنا في أمر هذه الرؤية، ففي إنجيل متى أن ملكًا قال للمرأتين 28: 7: اذهبا سريعًا وقولا لتلاميذه أنه قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه - 16 فانطلق التلاميذ إلى الجليل إلى الجبل؛ ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا. وليس في إنجيل متى رؤية أخرى غير هذه وهي التي شك فيها بعضهم [9] .
أما إنجيل يوحنا فإنه يذكر أنهم رأوه في أورشليم قبل الذهاب إلى الجليل مرتين وفي المرة الأولى منحهم الروح القدس ( يو 20: 22 ) وفي الثانية أقنع توما الذي لم يره في المرة الأولى وكان شاكًّا فيه وأراه يده وجنبه حتى صدق كباقي التلاميذ ( يو20: 20 و27 ) ولا ندري لماذا لم يذكر متى كل ذلك؟ وإذا كان التلاميذ رأوه في أورشليم المرة بعد المرة، كما قال سفر الأعمال: ( 1: 3 ) حتى اقتنعوا وزال عنهم كل شك وأعطوا الروح القدس - كما قال يوحنا - أي صاروا أنبياء ملهمين، فكيف بعد ذلك شكوا فيه لما رأوه في الجليل على ما قال متى ( 28: 17 ) الذي يفهم منه أنها كانت أول رؤية لهم ولذلك شك بعضهم فيها، وإذا كان المسيح هو الذي وهبهم روح القدس بنفسه قبل أن فارقهم، فما معنى قول إنجيل لوقا ( 24: 49 ) وقول سفر الأعمال: إن المسيح أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى تحل عليهم وأنها حلت عليهم بعد صعوده يوم الخمسين، كما هو صريح الإصحاح الأول والثاني من الأعمال كما سبق بيانه؟
وإذا صح تفسيرهم لعبارة البارقليط التي في إنجيل يوحنا وأن المراد بها روح القدس هذه كما يزعمون، فما معنى قول المسيح ( 16: 7 ) لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ( البارقليط ) ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. فإذا كانت روح القدس لا تنزل عليهم إلا إذا انطلق ولا يرسلها إليهم إلا بعد ذهابه، فكيف إذًا أرسلها إليهم قبل صعوده كما قال نفس إنجيل يوحنا؟ ( 20: 22 ) ألا يدل ذلك على صحة قولنا في كتاب ( دين الله ص 118 -120 ) أن البارقليط هو غير روح القدس [10] وأن المراد به محمد ﷺ كما بيناه هناك؟ ولماذا كان انطلاق المسيح ونزول الروح خيرًا للتلاميذ من بقاء عيسى بينهم مع أنه لو بقي لأمكنه أن يعلمهم كل شيء علمه لهم روح القدس على حد سواء؛ إذ كل منهما أقنوم إلهي يعلم كل شيء كما يدعون؟ أليس في ذلك تصريح بأن الرسول الآتي سيكون خيرًا للناس من المسيح، وأنه أفضل منه؟ ولذلك كانوا يرغبون فيه أكثر من رغبتهم في المسيح عليه السلام كما هو ظاهر من هذه العبارة.
ولنرجع إلى ما كتبنا فيه:
أما قول بولس ( كو 15: 7 ) وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجميعن، فلا يوجد أيضا في إنجيل من الأناجيل أنه ظهر ليعقوب هذا، فلا ندري من أين أتى بذلك بولس؟ وإذا كان حقيقيًّا فلماذا تركته الأناجيل، ولماذا لم يَرْوِهِ متى ولا يوحنا التلميذان ولا لوقا المدقق الذي تتبَّع كل شيء قبل كتابة إنجيله ( 1: 3 )؟.
الظاهر أن بولس إنما ذكر كل هؤلاء التلاميذ وخصوصًا بطرس ويعقوب أخا يسوع في قائمته هذه أو جدوله تملقًا لهم في أوائل أمره ليرضوا عنه وليعترفوا له بالرسالة. فإن دعوى الرؤية هذه كانت عندهم كالشهادة العظمى ( دبلومًا ) لهم باستحقاق الرسالة [11] فمن ( أين ) يتبرأ من هذه ( الدبلوما ) وينكرها أو يردها بعد أن أعطاها بولس لهم جميعا؟.
والذي يدلك على أن ظهور المسيح لأي واحد منهم كان يعتبر عندهم شهادة بالرسالة: قول بولس ( 1 كو9: 1 ): ألست أنا رسولا... أما رأيتُ يسوع المسيح ربنا. وقوله ( 1 كو15: 8 ): ( وآخر الكل للسقط ظهر لي أنا 9 لأني أصغر الرسل أنا الذي لست أهلا لأن أُدعى رسولا... لى قوله: 10 ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم ). وهو صريح في أن المسيح إنما ظهر له في آخر الكل؛ لأنه أصغر الرسل، وهذا التعليل يفهم منه أن المسيح لا يظهر إلا للرسل ووقت ظهوره لهم يختلف باختلاف مقامهم عنده؛ فبولس وإن كان قال ذلك اضطرارًا للتعليل عن ظهور المسيح له في آخر الكل إلا أن نفسه الفخورة المعجبة المتكبرة عادت فرفضت هذا التواضع الظاهري الذي اضطرت إليه أولا وقالت: أنا تعبت أكثر من الرسل جمعيهم. وقال أيضا عن نفسه ( 2 كو 11: 2 ): ( فإني أغار عليكم غيرة الله 5 لأني أحسب أني لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل 6 إن كنت عاميًّا في الكلام فلست في العلم، بل نحن في كل شيء ظاهرون لكم بين الجميع 23 أهم خدام المسيح أقول كمختل العقل: فأنا أفضل. في الأتعاب أكثر في الضربات أوفر في السجون أكثر من الميتات مرارًا كثيرة 26 بأسفار مرارًا كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة، في تعب وكد، في إسهار مرارًا كثيرة في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة. في برد وعري 28 التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس 29 من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب 30 إن كان أحد يحب الافتخار فأفتخر بأمور ضعفي ). إلى غير ذلك من خيلائه وإعجابه بنفسه وافتخاره بأعماله ومَنِّه على الناس وعلى الله. راجع أيضا ( كو 2: 1 ).
كأن جميع الرسل الآخرين لم يسافروا ولم يدعوا أحدًا قط إلى المسيحية ولم ينلهم شيء مما ناله من المتاعب ولم يعملوا عملا مثله مطلقًا، فهو كما قلنا يعتبر نفسه أفضل منهم وأنه الكل في الكل. ولا عمل لأحد سواه وقد بلغت به درجة حبه للظهور والفخر أنه كان يطلب بنفسه من أتباعه أن يمدحوه ولا يستحيي من ذلك كما في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ( 12: 11 ).
ومما تقدم تعلم أن ظهور المسيح كانوا يعتبرونه أعظم شهادة لاستحقاق الرسالة ولذلك كان بولس يذكر مرارًا ظهور المسيح له كما في سفر الأعمال، وفي رسائله حتى ادعى أنه اختطف إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس، ورآه هناك وسمعه ( 2 كو 12: 1-4 ) [12] وأي برهان يمكن لمثله ممن لم ير المسيح في حياته أن يقدمه للناس البسطاء على صحة رسالته سوى مثل هذه الدعاوى؟
وربما كان هو الذي بث في التلاميذ فكرة ادعائهم رؤية المسيح بعد موته لينالهم شيئ من الشرف الذي ناله بدعواه لها. ولا يبعد على مثل أولئك العامة من الناس الفقراء الذين لا عمل لهم ولا علم أن يوافقوه على ذلك ويعترفوا له بها كما اعترف هو لهم جميعا بها حتى ذكر في رسالته ظهور المسيح لخمسمائة شخص ولجميع الرسل، فكأنه في سياسته اتبع المثل العامي القائل: حملني وأنا أحملك.
ولكنه هو فاقهم في ذلك كثيرًا حتى جعل الظهور لكل فرد من التلاميذ فإن عددهم لا يمكن أن يزيد عن 500 شخص، ليرضوا عنه جميعًا. وأي خسارة عليه في ذلك؟ بل أي فائدة له أعظم من مسالمتهم واستجلاب رضاهم كلهم عنه؟ ولو في أوائل أمره [13] قبل أن يعلم ماذا يكون من شأنه بينهم، ومقامه عندهم، ولو علم ذلك وعلم أنه سيكون إمامهم وقائدهم الأعظم في كل شيء لما اعترف لهم بشيء مطلقًا كما تدل عليه سيرته معهم فيما بعد.
هذا؛ ولما كانت رؤية المسيح عندهم أعظم دليل على الرضا والاصطفاء والرسالة كما قلنا، تحاشوا ادعاءها للكفرة والمعاندين، إذ لا يمكن أن يتشرفوا بها مثلهم.
ويُثبت ذلك أيضا قول بطرس منكرًا على بولس: وكيف يظهر لك ( يعني المسيح ) مع أن آراءك هي مضادة لتعاليمه. كما في الخطب (Homilies) المنسوبة إلى كليمندس الروماني وهي مكتوبة في أواخر القرن الثاني أو بعده بقليل. ( راجع كتاب دين الخوارق ص320 ) وهذه الخطب وإن كانت منسوبة كذبًا لكليمندس إلا أنها تدل على أن النصارى كانوا في أوائل المسيحية يعتقدون أن المسيح لا يمكن أن يظهر للمخالفين له المعاندين. وهذا الاعتقاد هو أحد أسباب خلو كتبهم من هذه الدعوى بل هو أعظم الأسباب. وهناك سبب آخر لذلك وهو تحاشي النصارى في القرون الأولى إثارة اليهود والرومانيين عليهم لكي لا يزيدوا في احتقارهم والسخرية بهم وتكذيبهم وإيذائهم واضطهادهم وتنفير الناس منهم ومن دينهم، فكانوا في ذلك - حقيقة - حكماء، ولعلهم فعلوا ذلك أيضا بإرشاد بولس وأضرابه من عقلائهم وساستهم.
ولكن من لم يفهم ذلك من النصارى بعدهم ادعى أن المسيح وعد اليهود بالظهور لهم بعد دفنه في الأرض بثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، فزاد في هذه العبارة في إنجيل متى ( 39: 12و40 ) فإن العدد ( 40 ) منها لا وجود لمثله في الأناجيل الأخرى، وقد تكلمنا على ذلك في رسالة الصلب صفحة 106 و107 و117 و 118. راجع أيضا ( لو 11: 29 - 32 ومت 16: 4 ومر8: 12 ). وجميع هذه النصوص المشار إليها هنا صريحة في أن المسيح أجاب المقترحين للآيات مرة بقوله: ( لن يعطى هذه الجيل آية ). كما في مرقس، ومرة بقوله: لن يعطيهم آية إلا آية يونان لأهل نينوى. كما في لوقا وغيره. ولا يخفى أن يونان لم يعط أهل نينوى أي آية، فكأن مراد المسيح أنه يجب أن يؤمنوا به بمجرد دعوته لهم كما آمن أهل نينوى بيونان لمجرد مناداته لهم راجع ( لو 10: 32 ) ولمنكري المعجزات أن يستدلوا بذلك على صحة دعواهم أنه لم يفعل شيئًا منها. فالمسيح لم يظهر لأحد، ولا وعد اليهود بذلك كما ادعى المحرف للإنجيل. ولولا أن عدم ظهور المسيح لأي أحد من اليهود والرومانيين وغيرهم من الكافرين كان معروفًا شائعًا متواترًا بين النصارى الأولين لزاد المحرفون للإنجيل قولهم: إنه ظهر لفلان وعلان منهم أيضا، ولكن مثل هذه الزيادة لا يمكن أن تمر على الناس بسهولة، ولا تدخل عليهم خفية بدون أن يشعروا بها كما دخلت عليهم الزيادة التي في إنجيل متى ( 12: 40 ) لأن إدراك هذه الزيادة لا يحتاج لشيء من الانتباه والتدبر، ولذلك ترى النصارى يقرأون هذه العبارة في إنجيل متى صباح مساء ولا يشعرون بأنها كانت وعدًا لليهود بالظهور لهم، ولا بأنه وعد لم يتحقق، وإذا صح أن المسيح قالها لهم وجب عليه أن يُري نفسه لهم بمقتضاها كما أرى نفسه لتلاميذه، وإلا لكانوا معذورين في عدم الإيمان به وتكذيبه، فإن نفس تلاميذه شكوا فيه مرارًا كما بيناه في رسالة الصلب ولم يقنعهم إلا بمجهود؛ فهل كان ينتظر منهم أن يكونوا أكثر إيمانًا به من نفس تلاميذه حتى يطالبهم بالإيمان بقيامته من غير أن يروه لمجرد سماع هذا الخبر من تلاميذه الذين كانوا كثيري الشك عديمي الإيمان بنص الإنجيل؟ متّى ( 17: 20 ). فكيف أخلف المسيح إذًا وعده لهم؟ وكيف يجب عليهم تصديق عديمي الإيمان؟ ولا يخفى أن من كان كذلك لا يتحاشى الكذب وخصوصًا لمصلحته ولا يخشى الله. وأي مصلحة أكبر من أن يصبح أولئك الأشخاص الفقراء، المحترقون المستضعفون بعد موت سيدهم ويأسهم منه وابتداء تلاشيهم - يصبحون رؤساء للناس ورسلا لهم يشرعون لهم ما يشاءون، ويأخذون من أموالهم ما يرغبون ( أع 2: 44 و45 و4: 32 -37 و1 كو 16: 1 - 3 و2 كو 11: 8 و9 ) بل يقتسمون جميع أموالهم والممتلكات بينهم بلا عمل ولا تعب سوى القول بأنهم رأوا المسيح بعد موته حيًّا كما علمهم بولس وغيره. وقد عاد إليهم الأمل لما بثه فيهم عقلاؤهم ومفكروهم، بقرب رجوع مُلك إسرائيل إليهم حينما رأوا إقبال الناس عليهم وخضوعهم لهم، وهو الأمل الذي طالما خالج نفوسهم، وكانوا يرتقبون كل يوم تحققه من قديم الزمان ( انظر أع 1: 6 ) حتى إنهم اعتقدوا أنهم سيملكون في الأرض مع المسيح ألف سنة ( رؤ20: 4 و6 ) وفي ذلك العصر الذهبي الذي كان يتوهمه اليهود وإلى الآن ينتظرونه، وأنه متى جلس المسيح على كرسي مجده يجلس التلاميذ الاثنا عشر [14] على الكراسي ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر مت ( 19: 28 ) وأن زمن رجوع المسيح قريب جدًّا وأنهم يبقون أحياء إلى نزوله ( ا تس 4: 15 - 18 ) حتى قال لهم بولس: ( عزوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام ) وليس هذا فقط بل قد وعدهم المسيح كما في ( مر 10: 30 ) بأن من ترك شيئا لأجله يأخذ مائة ضعف في هذه الدنيا وله الحياة الأبدية في الآخرة، وأفهمهم بولس أيضا بأنهم جميعًا سيدينون العالم والملائكة ( 1 كو 6: 2 و3 ) وقد بلغ بالرؤساء منهم الغرور والجهل إلى درجة أن توهموا أو أوهموا الناس أن بيدهم غفران الذنوب [15] ومفاتيح ملكوت السموات [16] وأن كل ما يربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما يحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء ( مت 16: 19 و 18: 18 ويو 20: 23 ) إلخ إلخ فمن إذًا لا يقول بقولهم في قيامة عيسى ليدخل في زمرتهم حتى ينال ما نالوه أو سينالونه في الدنيا والآخرة؟ مهما ناله من الأذى والاضطهاد المؤقت طمعًا فيما سيحصل له ولأمته من صلاح الحال وحسن المستقبل والنعيم الدائم في الدارين. ألا ترى أن القاتل يقدم على القتل طمعًا في المال مع علمه بأنه غالبًا سيقع في القصاص الذي يذهب بحياته كلها، ولكن الأمل في السعادة والطمع في لذة المال يدفعه لارتكاب هذا الإثم الفظيع مهما كانت نتائجه.
هذا إذا سَلِم أن التلاميذ ومن معهم من النصارى كانوا حقيقة يجاهرون على رءوس الأشهاد بدعواهم قيامة المسيح ( انظر رسالة الصلب ص149 ) وأنه نالهم جميع الاضطهادات التي تسمعها من قصاصي النصارى. وإذا سَلِم ذلك فهل كانت كل هذه الاضطهادات بسبب هذه العقيدة وحدها؟ مع أنهم كانت لهم عقائد أخرى يخالفون بها غيرهم، وكان أكثر ما يتهمون به هو التهم السياسية لما عند الرومانيين من الحرية في المسائل الدينية؛ ولعدم وجود سلطة عليهم في أيدي خصومهم اليهود؛ وخصوصًا بعد تشتت هؤلاء وخراب أورشليم سنة 70 م وقد اعترف مؤرخوهم بأنه لم يمسَّ المسيحيين أذًى في أثناء حرب الرومانيين مع اليهود؛ لأن المسيح كان أنبأهم بخراب أورشليم ووصاهم بهجرها.
ولا يخفى أن استفانوس أول شهيد في النصرانية، وإنما رجمه اليهود لأنهم اتهموه بالتجديف على موسى والناموس وعلى الله، راجع ( أع 6: 11 - 14 ) وكان رجمه بعد أن ألقى عليهم خطابًا طويلا كما هو مذكور في الإصحاح السابع من سفر الأعمال وليس في هذا الخطاب ذكر لقيامة المسيح من الموت ولا لرؤية أحد له بعد هذه القيامة المزعومة، بل قال: إن اليهود قتلوه كما قتلوا قبله أنبياء كثيرين ( أع 7: 52 ).
ومن عبارة استفانوس هذه يُفهم أن بعض اليهود المتنصرين في أوائل المسيحية لم يكونوا يعتبرون الصلب والموت مقللا من قيمة المسيح عندهم ولا مزلزلا لعقيدتهم فيه بل كانوا يعدونه من مصائب الدهر التي أصابت المسيح، وأصابت غيره من أنبياء الله السابقين، الذين تعوَّد اليهود قتلهم من قديم الزمان.
فقول المبشرين الآن: إنه لولا قيامة المسيح من الموت ما قامت للنصرانية قائمة؛ لأن صلبه [17] وقتله زلزل عقيدة تلاميذه فيه، وبرؤيتهم له بعد الموت انتعشت نفوسهم - إنما هو قول باطل؛ لأن التلاميذ ما كانوا يعتقدون استحالة الموت والقتل عليه ولم يعتبروا حصول ذلك إلا شيئًا معتادًا بين الكثيرين من الأنبياء قبله فهو ليس بدعًا من الرسل في ذلك. وهذا الاعتقاد هو الذي كان فاشيًا فيهم قبل أن ينبههم بولس وأضرابه من مفكريهم البصيرين بحال أمتهم ومستقبلها الغيورين عليها، إلى حكمة حصول الصلب والموت للمسيح، وهي خلاص البشر به، فبعدئذ أصبحوا ينظرون إلى الصلب بغير نظرهم إليه أولا، واعتبروه أكبر ما يشرف المسيح ويرفع منزلته في عيون الناس أجمعين، فصاروا بعد ذلك يدعون إلى عقيدتهم هذه فرحين مسرورين ( 1كو 1: 18 ) نعم يجوز أنه لولا أن تنبهوا إلى هذه الحكمة لكان يمكن لليهود أن يؤثروا في بعض عامتهم الضعفاء ويزلزلوا عقيدتهم في المسيح أو يحولوا بعضًا منهم عن الإيمان به. فالذي حمى النصارى من ذلك أولا هو علمهم بما حصل للأنبياء قبله من الاضطهاد والأذى والقتل والمرض وغيره من مصائب هذه الحياة التي يجب ملاقاتها بالسكينة والصبر والرضا بقضاء الله وقدره انظر ( أع 2: 23 )
وثانيا: هو الحكمة التي اخترعها لهم بولس وغيره أو نبهوهم إليها، ولو أن بولس جعل قيامة المسيح من أكبر أسس هذه الحكمة إلا أنه كان لا شك يمكنه الاستغناء عن القول بها لولا ميله الفطري دائمًا إلى الغلو والإغراق في كل ما اعتقده وارتآه كما هو ظاهر من رسائله ومن أعماله قبل دخوله في المسيحية وبعده فقوله بها إنما كان من زيادة غلوه في تكريم المسيح [18] ومَحقًا لشماتة اليهود به وغيظًا لهم واستمالة للوثنيين بتقليد عقائدهم في مخلصيهم. وهو في تحوله هذا السريع من بغض المسيحية واضطهاد أتباعها إلى محبتها ونصرتها يشبه عمر بن الخطاب في تحوله فجأة من عداوة الإسلام وأهله إلى محبته ونصرته، هذا إذا سلمنا قصة بولس الواردة في كتبهم، وفرضنا أن ما نصره وأحبه هو المسيحية لا ديانة جديدة هو الواضع لها، ولكننا نرى أن علماء الإفرنج المحققين قد أصبحوا الآن يشكون في كل ما رووه ونقلوه؛ لما علموه عنهم من كثرة التحريف والاختلاق، وهو الأمر الذي قرره القرآن منذ نزوله ( راجع مثلا 2: 75 و76 ) ولكنهم كانوا وقتئذ يكابرون ويكذبون.
الدكتور
محمد توفيق صدقي
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ ذهب بعض مفسريهم الآن لرفع الخلاف بين إنجيل يوحنا ومرقس ( 15: 25 ) في ساعة الصلب إلى أن ساعة يوحنا رومانية وساعة مرقص عبرية، وقد رددنا على هذه الدعوى في رسالة الصلب (ص93 و94) ونزيد الآن أن الباحثين في تواريخ الأمم قد عرفوا خطأ هذه الدعوى مطلقًا، فإن الرومانيين لم يكونوا يعدون ساعاتهم كما يعدها الإفرنج الآن، وإنما كانوا يعدونها من شروق الشمس، واليهود من الغروب كالعرب راجع كتاب ( التوراة غير موثوق بها، تأليف Walter Jekyll ص86) وعليه فتفسيرهم لهذه المسألة منقوض من أوله إلى آخره ومبني على الخطأ والجهل، وقياس القديم بالحاضر في عادات الأمم، وما دامت كتبهم مملوءة بالخطأ والتناقض والتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في المسائل الطفيفة وغير الطفيفة، وما داموا يسلِّمون بخطأ النساخ الكثير فيها بل بالزيادة عمدًا حتى في بعض العقائد المهمة كما في رسالة يوحنا الأولى (5: 7 و8) فكيف بعد ذلك يمكنا أن نقطع بشيء فيها أو نجزم بأنه من قول المسيح أو تلاميذه وأنه لم يزد خطًأ أو عمدًا وخصوصًا لأن أقدم ما عندهم من النسخ لا يتجاوز - على قولهم - القرن الرابع (راجع كتاب صدق المسيحية لمؤلفه Turton ص 309 و310) ولا أدري إذا كان الله يريد أن تكون هذه الكتب هداية للبشر في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، فلم لم يصُنها عن كل ما حصل لها وما وقع فيها حتى تطمئن نفوس الناس إليها وخصوصًا أهلها الذين أصبحوا أشد الناس محاربة وإنكارًا لها؛ فالحق أن الله لم يرد ذلك، وإنما جعلها درجة تحضيرية تمهيدية للقرآن المصون من التحريف والتبديل كما وعد تعالى (قر 15: 9) والباقي إلى يوم القيامة (انظر كتاب دين الله ص 82 و83) فما حفظه الناس من تلك الكتب إنما كان كافيًا لهم إلى زمن القرآن.
- ↑ قارن عبارة المسيح هذه بقول القرآن: ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر: 43) ونحوها كثير في القرآن، أول كتاب نص على أن نواميس الكون لا تتبدل ولا تتغير، فهي ليست خاضعة لصلاة فلان، ولا لدعاء علان، ولا لكلمة مخلوق مهما كان، حتى نفس يسوع ابن الإنسان.
- ↑ جاء في تلمود اليهود أن أتباع عيسى كانوا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني يشفون المرضى باسم يسوع ويبرئون لسع الحيات بها أيضا، ويقول العهد الجديد: إنهم يُخرجون الشياطين أيضا يخرجونها باسم سليمان وإلى الآن نرى بعض عامة المسلمين يدّعون الكرامات ويفعلونها باسم مشايخهم كالرفاعي وغيره، فيأكلون النار ويضربون أنفسهم بالسيف ويشربون السموم ويحملون الحيات باسمهم إلى غير ذلك من كراماتهم التي تشبه ما ذكر في العهد الجديد عن النصارى، ومع أن النصارى كانوا يستعملون اسم يسوع لإخراج الشياطين على زعمهم، انظر مثلا (أع 16: 18 و19: 13 - 17) تراه هو نفسه يعترف بأنه إنما يخرجهم بروح الله (مت 12: 28) وأن كل أعماله هي باسم الله (يو 10: 25) وكان اليهود المعاصرون له لشدة جهلهم يقولون: إنه يخرجهم ببعلزبول رئيس الشياطين (مت 12: 24) لأنهم كانوا يظنون أن الأمراض التي كان عليه السلام يشفيها هي ناشئة عن الشياطين، فأمثال هذه الأوهام شائعة بين الناس الجهلة في كل زمان ومكان وخصوصًا في الأزمنة القديمة حتى صدقها بعض الخاصة كيوسيفوس المؤرخ الشهير الذي روى أنه شاهد شخصًا يسمى اليعيزر Eliezar اليهودي يخرج الشياطين بالقسم عليها باسم سليمان في حضرةالإمبراطور فسباسيان الذي توج سنة 69م Vespasian وبحضور أولاده وجيشه، وكان هذا الرجل يضع إناءً مملوءًا بالماء على بعد من المصاب ثم يأمر الشيطان بقلبه بعد خروجه من الإنسان وبذلك كان يظهر كما يقول يوسيفوس براعة سليمان وحكمته، وإلى الآن نرى بعض النساء في مصر حتى المسلمات يزرن صورة ماري جرجس وقبره في الكنيسة والنصرانيات قد يزرن بعض قبور أولياء المسلمين أيضا؛ والكل يزعمن أنهن شفين من أمراضهن وأوجاعهن وخرجت عفاريتهن.
- ↑ يرى بعض علماء اللغات أن كلمة ( الحواريين ) في القرآن هي معربة عن الحبشية ومعناها فيها ( الرسل ) أو ( المرسلون ) سماهم بذلك القرآن إما بحسب العرف الجاري في ذلك الزمن بين نصارى العرب كما نسمي الآن دعاة النصرانية ( بالمبشرين )؛ وإما لأن المسيح أرسلهم في حياته لدعوة اليهود إلى المسيحية كما في الأناجيل راجع (متى 10: 1 - 15 ولوقا 9: 1-6 و10: 1-12) وكذلك كان رسول الله ﷺ يرسل بعض أصحابه إلى بعض الجهات لتعليم الناس الدين والحكم بينهم وغير ذلك، كمعاذ بن جبل الذي أرسله إلى اليمن، وكانوا يسمون أيضا رسل رسول الله والحكمة في اختيار القرآن هذه الكلمة الحبشية دون مرادفها بالعربية هي منع الالتباس لتكون عَلَمًا خاصًّا بهؤلاء التلاميذ الممتازين من أصحاب عيسى، والظاهر من نصوص القرآن أن إيمان بعضهم على الأقل لم يكن كما يجب وخصوصًا بعد عيسى، وأن الخلاف في مسائل الدين نشأ منذ عصرهم (راجع قر 3: 53 - 54 و5: 77 و112 و117 و19: 37 و43: 65 و61: 14) فطباعهم كانت كطباع أسلافهم قوم موسى، بل قد نص المسيح نفسه على أنه لم يكن عندهم إيمان مطلقًا (مت 17: 20) وقال لبطرس أيضا (مت 14: 31) ( يا قليل الإيمان ) مع أنه أعظمهم، فما بالك بغيره؟!.
- ↑ يقال أن توما هذا سافر إلى جزائر الهند الشرقية ومات هناك (قاموس بوست مجلد ا ص295) ولعله كان في رحلته هذه مصاحبًا للمسيح عليه السلام في هجرته الهندية التي ذكرناها في مقالة الصلب (153 و154) وتوما هذا هو التلميذ الوحيد بحسب الأناجيل الحالية (يو 20: 25) الذي كان عارض التلاميذ في قولهم بقيامة المسيح، وله إنجيل يوناني ذكر معجزة خلق الطين طيرًا وغيرها مما ذكره القرآن، ولكن النصارى يرفضون هذا الإنجيل.
- ↑ حاشية: لا حظ أن هذا الكلام وما يأتي مبني على فرض صحة نسبة هذه الكتب إلى من نسبت إليهم كما فرضنا ذلك في مقالة الصلب ولكن بعض علماء النقد في أوربا يرى الآن أن جلَّ هذه الكتب أو كلها منسوب إلى هؤلاء الناس كذبًا كصاحب كتاب (مصادر النصرانية) المستر توماس ويتاكر وغيره عديدون من محققي الإفرنج.
- ↑ قال الأبيونيون ( أي الفقراء ) وجمهورهم عبرانيون وكانوا هم النصارى الحقيقيين في القرن الأول والثاني ( كما قال رينان وغيره )، قالوا: إن بولس هذا لم يكن يهوديًّا وكذبوه في هذه الدعوى التي ادعاها عند من لم يعرفه في رسائله لهم وقالوا: إنه دخل في اليهودية لكي يتزوج ببنت رئيس الكهنة واختتن فلما أبى رئيس الكهنة أن يزوجه ابنته دخل في المسيحية وادعى أنه رسول المسيح إلى النصارى، فلم يُحِب أن يرى في النصرانية أثرًا من آثار الديانة الموسوية؛ ولذلك سعى جهده في إخراج المسيحيين عن الناموس وحنق على كل من قاومه - راجع رسالته إلى أهل غلاطية - وأبطل جميع شرائع موسى وتبعته الأمم الداخلون حديثًا في المسيحية في ذلك؛ لأن ذلك كان أسهل بكثير من عبء الناموس (انظر كتاب دين الخوارق صفحة 748) وبقي تلاميذ المسيح والنصارى الأولون محافظين على تعاليم موسى وعيسى، ولذلك قال يوحنا في رؤياه (2: 2): وقد جربت القائلين أنهم رسل وليسوا رسلا فوجدتهم كاذبين 9 - وتجديف القائلين إنهم يهود وليسوا يهودًا بل هم مجمع الشيطان 14 إن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالآبق أن يلقي معترة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا والمراد بالزنا هنا عدم مراعاة البوليسيين أحكام الشريعة الموسوية في مسائلهم الزوجية وعدم اعتدادهم بها، والظاهر أيضا أن كاتب رسالة يعقوب كان من اليهود المتنصرين أو بعبارة: أخرى كان من هؤلاء الأبيونيين، ولذلك خالف في رسالته هذه ( ص2 ) بولس في دعواه الخلاص بالإيمان وحده (انظر مثلا رومية ص3 و4)، (وغلاطية 2: 16 و21 و3: 2- 29) وبين صاحب رسالة يعقوب أن العمل الصالح لا بد منه مع الإيمان (انظر 2: 14 - 26) ولم يذكر في هذه الرسالة شيء من عقائد النصرانية المعروفة، وكون هذا الكاتب من الأبيونيين الفقراء يظهر من عدة مواضع من رسالته هذه، مثل (1: 10 و11 و2: 2 - 7 و5: 1-6) والراجح أن الكنيسة لم تقبلها، كسفر الرؤيا، إلا بعد بولس بمدة، وربما كان قبولها للرغبة في ضم أصحابها إليهم.
- ↑ راجع (كتاب دين الله) ص 15 - 28 لتعرف الجواب عن هذا السؤال.
- ↑ إنجيل متى هو عند النصارى أقدم أناجيلهم الأربعة وليس فيه غير هذا الخبر عن رؤية المسيح بعد الموت كما قلنا في المتن أما إنجيل مرقس فلم يذكر فيه أي خبر عن ظهور المسيح بالفعل لتلاميذه ورؤيتهم له بعد قيامته، وما فيه من ذلك (16: 9-20) إنما هو - كما قلنا باعتراف علمائهم الآن -زيادة ألحقها به رجل مجهول في بعض القرون الأولى، فهي لا قيمة لها بالمرة من الوجهة التاريخية، ومن زاد هذه لا يبعد عليه أن يزيد غيرها في الأناجيل الأخرى كعبارة متى المتقدمة، وأما إنجيل لوقا ويوحنا فهما متأخران وما فيهما في هذه المسألة إنما هي أقاصيص راجت بين النصارى في القرون الأولى، وهي لا شك مختلقة بدليل أنها لو كانت موجودة في زمن الكاتب للإنجيل الأول أو الثاني لما تركاها بالمرة مع أنها في غاية الأهمية عند النصارى، بل لا يوجد عندهم أهم ولا أعظم منها لإثبات دعواهم قيامة المسيح من الموت على ما فيها من التناقض والتضارب الذي بيناه مرارًا ونحن وغيرنا من علماء الإفرنج المحققين، فليس عندنا إذًا سوى رواية واحدة قديمة تستحق أن ينظر فيها بشيء من العناية، وهي رواية إنجيل متى، فنقول: إن كانت هذه الرواية ليست مما أضافوه إلى الأناجيل وصادقة، فالذي يُفهم منها أن ظهور المسيح لم يكن جليًّا ولا واضحًا، ولذلك لم تقتنع به نفس تلاميذه، فيجوز أن الذي رأوه كان برقًا أو خيالا في الأفق كالذي ينشأ مثلا عن انكسار أشعة النور في تلك الجبال لم يسهل عليهم الوصول إلى مكانه، وكان الرجل قد غاب عن أعينهم فلم يعثروا عليه، ولذا لم يتحققوا إن كان هو المسيح أو غيره، ولذلك أظهر بعضهم شكه فيه، ومن العجيب أن متى مع ذكره ذلك وحده لم يبين لنا صريحًا إن كان التلاميذ الشاكون زال عنهم هذا الشك حينما قرب منهم - كما قال - الشخص الذي نظروه على بعد أم بقوا شاكين بعد ذلك طول حياتهم مُصرين على عدم التصديق؟ وما كان موقفه بالنسبة إليهم، وهل كان واقفًا على الأرض أم معلقًا في الهواء؟ وهل أمْره لهم بتعميد جميع الأمم (28: 19) سمعه جميع الحاضرين أم بعضهم فقط؟ وهل تكلموا معه في غير هذه المسألة؟ وماذا كان موضوع كلامهم الآخر؟ وهل كان صوته عين صوت المسيح الذي يعرفونه وألفاظه مفهومة أو مبهمة؟ وهل سجد الشاكون معهم أم لا؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كان يجب على الكاتب تفصيلها حتى لا تبقى النفوس متعطشة للوقوف على الحقيقة، شاكة حائرة في أعظم عقائد دينهم؛ فالظاهر أن الكاتب تجنب مثل هذه التفاصيل لأنه كان قريب العهد بتابعي الحواريين، وربما أنه خاف أن يكذبه أحد، فهو لم يكن عنده من المهارة والجراءة والمعرفة بطباع الناس ما عند غيره وأما الأناجيل الأخرى فلم تخشَ أحدًا؛ لأن زمنها أبعد عن الوقت الذي قيل أن هذه الحوادث حدثت فيه، ولمعرفة كاتبيها بطباع أهل زمنهم أكثر من غيرهم، فقالت ما قالت، فيُرى من ذلك أن أقدم رواية عندهم يحوم حولها شيء كثير من الشك، هذا إذا سلم أنها صحيحة صادقة، وأما إذا كانت مخترعة فقول الكاتب فيها (مت 28: 17) ( ولكن بعضهم شكوا )، يريد به - كعادة المزورين الخادعين - أن يُظهر للناس أنه فيما قصّه عليهم خالٍ من كل غرض ويقول الحق ولو على نفسه، فهي طريقة من طرق حسن السبك معتادة بين القصاصين الأفاكين لإحكام تلفيقهم؛ وإن كان كاتبنا هذا قد فاتته بعض أشياء لازمة لإتمام حسن السبك لبساطته وجهله، وأيضا فإنه يريد أن يُظهر أن التلاميذ لم يكونوا سريعي التصديق ولا ميالين لاعتقاد هذه المسائل بسهولة، بل كانوا مدققين نقادين حتى لم يبالوا بالشك في هذه المسألة، ولا بإظهار شكهم لإخوانهم الذين يريد الكاتب أن يصورهم بأنهم كانوا أحرار سُمحاء في معتقدهم يتحملون خصومهم بكل أناة وعقل ويقنعونهم بالحسنى والدليل، فمن اقتنع منهم بشيء فهو لم يقتنع به - كما يريد الكاتب أن يقول - إلا بعد التثبت والتحقق منه بالبحث والفحص، فهذه القصة هي كقصة شك توما واقتناعه بعد ذلك المذكورة في إنجيل يوحنا (20: 24 - 29) فإن المراد بهما في الحقيقة المغالاة في بيان تدقيق التلاميذ بطريقة خفية وحيلة تافهة معتادة لا تدخل على البسطاء المغفلين، ولذلك ترى المبشرين الآن وفي كل زمان يتخذون مثل هذه العبارة دليلا على أن كتبة الأناجيل كانوا مؤرخين صادقين لأنهم ذكروا هذه المسائل التي تدل على شك الحواريين وهي، - كما يتوهم هؤلاء الناس أو يزعمون -، لا تصدر إلا من المجردين عن الأغراض والأهواء الصادقين من المؤرخين.
- ↑ كان أقدم فرق النصارى يعتقدون أن المراد بالبارقليط شخص يظهر بعد عيسى لا روح القدس، ( الأقنوم الإلهي عندهم ) ومن هذه الفرق القائلة بذلك الغنوسيون Gnostics ومنهم الماركيونيون أتباع ماركيون Marcion من أهل القرن الثاني الذين ادعى بعضهم أن المراد بالبارقليط ( بولس ) راجع كتاب مصادر النصرانية لتوماس ويتاكر صفحة 144. وفي نحو سنة 156 ميلادية ادعى منتانوس Montanue النبوة في فريجية Phrygia قسم من آسيا الصغرى، وقال أنه هو البارقليط وصدقه في ذلك أناس كثيرون من النصارى وغيرهم إلى القرن الرابع، وفي أيام ( ماني ) Mani كان النصارى ينتظرون مجيء البارقليط، فلذا ادعى هذا الرجل أنه هو، وكان ذلك في سنة 275 - 276 راجع قاموس تشمبرس Chambers وكتاب ( المسحاء الوثنيين ) لروبرتسن Robertson صفحة 268 و274 وكتاب ( ملخص تاريخ الدين ) مجلد 3 ص 236 وقد بين صاحب كتاب ( إظهار الحق ) أيضا أن النصارى كانوا في زمن النبي ﷺ ينتظرون تحقق بشارة عيسى هذه بنبي يظهر بعده، فدعوى النصارى الآن أن المراد بها روح القدس وأنها منذ القدم فهمها الناس بهذا المعنى - هي دعوى كاذبة، وإنما اتفق عليها النصارى بعد محمد ﷺ الذي تحققت ببعثته هذه النبوة فرارًا من الإيمان به عنادًا وحسدًا (راجع أيضا كتاب دين الله ص118 - 120) ويؤيد ذلك أيضا أن إنجيل يوحنا صرح أن أهل الكتاب كانوا في زمن عيسى عليه السلام منتظرين ثلاثة أشخاص لا بد من مجيئهم - بحسب الكتب المقدسة - قبل يوم القيامة، وهم إيليا والمسيح والنبي (انظر يو 1: 19 - 26 و7: 40 و41) وصريح عبارات يوحنا المشار إليها هنا أنهم كانوا لا يفهمون من كتبهم أن المسيح غير النبي كما هو ظاهر لمن راجعها، فدعواهم الآن أن المسيح الذي كانوا ينتظرونه هو هو عين النبي، دعوى مردودة بنصوص كتبهم وبالتاريخ أيضا كما بيناه هنا؛ والظاهر أنهم اتفقوا عليها بعد ظهور محمد ﷺ كما قلنا، فالنبي المبشر به في العهد القديم، انظر مثلا (تت 18: 15 - 22) هو هو البارقليط في العهد الجديد الذي بشر به عيسى، ولا بد من ظهوره بعده، وقد كان ذلك ولله الحمد، فظهر محمد مصدقًا لما عندهم عنه من التوراة والإنجيل، راجع أيضا فصل ( البشائر ) في كتابنا ( دين الله ).
- ↑ مسألة الرؤية هذه تشبه من بعض الوجوه رؤيا النبي (ص) عند المسلمين في المنام، فإنهم أيضا يقولون: إنه لا يظهر إلا للمؤمنين الصالحين، وقد خيل لبعض متصوفيهم أنه رآه وكلمة يقظة أيضا.
- ↑ إذا كان بولس صادقًا في حكاية هذه التخيلات وما ماثلها، فالأرجح أن السبب في حصولها له هو كونه عصبي المزاج كثير التفكير والإجهاد لقواه العقلية والجسمية، مع أنه كان مصابًا بداء الصرع، كما يُفهم من عبارته عن نفسه الواردة في (2 كو 12: 7-9) وأمثال هذه التخيلات معتادة عند أهل الصرع وغيرهم من ذوي الأمراض العصبية، ومن أشهر مشاهير رجال العالم العظام - كنابوليون بونابرت ويوليوس قيصر - من كان مصابًا بالصرع مثله، فإن ذلك لا ينافي كونه عاقلا ذكيًّا مدبرًا.
- ↑ لذلك ذكر رؤيتهم للمسيح في أول رسالة - كتبها كما يقولون - بعد رسالته إلى أهل تسالونيكي، قال: هذه الرسالة التي لأهل كورنثوس كتبها سنة 57 م حينما بلغه أن بعض الناس أنكروا رسالته، وقالوا: إن تعاليمه تغاير تعاليم بطرس وغيره من التلاميذ، فذكرهم جميعًا فيها تملقًا لهم لئلا يخرجوا عليه ويكذبوه ويؤيدوا كلام الناس فيه، وقد دارى في رسالته هذه أيضا أيلوس اليهودي السكندري البليغ الذي كان مزاحمًا له (راجع 1 كو 3: 6-9 و16: 12 وأعمال 18: 24 - 28) وأما رسالته إلى أهل غلاطية التي احتد فيها على التلاميذ - كما بينا - فكتبها بعد ذلك سنة 58 م على ما يزعمون ثم عاش بولس بعدها نحو عشر سنين؛ لأنه مات سنة 68 وكان وقتئذ قد طار صيته بينهم حتى ملأ ذكره الآفاق لدهائه وسياسته وعلمه ونشاطه أكثر من سائر رفقائه.
- ↑ حاشية: لو جارينا النصارى في طريقتهم لإثبات قدم كتبهم، لقلنا: إن عبارة جلوس التلاميذ على اثني عشر كرسيًّا الواردة في إنجيل متى تدل على أن هذا الإنجيل كتب قبل حادثة الصلب وقبل تسليم يهوذا - وهو أحد الاثني عشر - للمسيح وإلا إذا كان هذا الإنجيل كتب بعد ارتداد يهوذا لما ذكر كاتبه فيه إلا أحد عشر كرسيًّا تفاديًا من نسبة الخطأ إلى المسيح، فلا أدري لِمَ لم يقولوا بذلك وقد كانوا يجدون لهم أنصارًا كثيرين، فهذا مَثَل من أمثلة براهينهم على قِدم كتبهم! فإن قيل: لعل الكاتب أخذ هذه العبارة عن بعض مكتوبات قديمة كتبت قبل حادثة الصلب ولم يصلحها لعدم التفاته، أو لأنها تقبل التأويل حيث قد انتخب متياس بدل يهوذا (أع 1: 26) قلت: كذلك نحن نقول في بعض عبارات كتبهم التي تدل على القدم، فإن مؤلفي الأناجيل أخذوها أحيانًا كما هي عمن قبلهم لعدم التفاتهم أو لأنها تقبل التأويل ولو مع التكلف الزائد كما فعل النصارى فيها بعد ذلك، وأحيانا حوروها لتكون أقرب للتأويل مما كانت أو حرفوها، مثال ما فيها مما أولوه قول متى عن لسان المسيح (24: 34): (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) فإذا صح أن الجيل قد يراد به في لغتهم الصنف من الناس كالأمة اليهودية كلها، فالكاتب إنما استعمله بهذا المعنى، وعليه فهو لا يدل على قِدم الإنجيل، وإذا كان هذا اللفظ لا يراد به إلا الطبقة الموجودة في زمن ما؛ كان هذا القول دليلا على أن هذا الإنجيل كُتب قبل انقراض جميع معاصري المسيح وحينئذ يكون عيسى نفسه مخطئًا في هذه العبارة، فهي إما أن تكون صحيحة والإنجيل ليس بقديم، وإما أن يكون الإنجيل قديمًا وعيسى مخطئًا، فأيّ الوجهين يختارون؟ وأما القول بأنها صحيحة وأنها تدل على قِدم الإنجيل فهذا مما لا أفهمه، والحق أنه لولا عدم التفات أولئك الكتبة لِما وُجد في كتبهم ما وُجد فيها من التناقض والغلطات التي لا تحتاج لكبير تأمل أو تفكر؛ ولذا كان منهم من ناقض نفسه بنفسه في الكتاب الواحد بل في العبارة الواحدة، راجع صفحة 48.
- ↑ إن كان هؤلاء الناس معصومين من الخطايا فكيف راءى بطرس اليهود في أنطاكية حتى قال عنه بولس: ( إنه كان ملومًا أو مدانًا وإنه هو ومن معه لا يسلكون باستقامته حسب حق الإنجيل ) (غل 2: 11-14) وكيف أنكر المسيحَ وقت أخذه للصلب وأقسم أنه لا يعرفه (مر 14: 71) وإن كانوا غير معصومين فكيف إذًا يغفرون للناس ذنوبهم وهم، فوق ما تقدم، عديمو الإيمان كما قال لهم المسيح (مت 17: 20) أليس اليهود أفضل منهم؛ لأنهم امتنعوا عن إدانة الزانية، حينما ذكّرهم المسيح بخطاياهم، وبكتتهم ضمائرهم (يو 8: 7-11) وأما هؤلاء فيدينون الناس (أع 13: 11) ويمسكون خطاياهم (يو 20: 23) وهم أنفسهم مدينون فلمَ ذلك؟ وما حكمته؟ وهل هو مما تسعه عقول النصارى أيضا كما وسعت التثليث وغيره؟ وهل لا يزال البروتستنت منهم ينكرون أن مسألة الاعتراف وبيع أوراق الغفران Indulgences والقطع من الكنيسة والسلطة الباباوية وغير ذلك مما تسببت عنه مفاسد عديدة يعرفونها بين جميع النصارى منذ القدم - إنما نشأت كلها من عبارات كتبهم هذه التي - في الحقيقة - ما وضعها الآباء فيها إلا ليبنوا عليها سلطتهم بدعواهم أنهم خلفاء المسيح ورسله ونوابه فيكون لهم من السلطة والحقوق ما لأولئك سواء بسواء، وإذا كان للتلاميذ حق التصرف في ملكوت السموات، فكيف أصبح البروتستنت ينكرون على الرؤساء الروحانيين وهم خلفاء التلاميذ طبعًا حق التصرف في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، وهو الحق الذي يدعونه دائمًا لتبقى الناس في أيديهم كالأنعام كما كانوا منذ القرن الأول؟ أليس إنكارهم هذا أثرًا من آثار العقائد الإسلامية التي وصلت إلى مُصلحيهم من حيث لا يشعرون، أم هم يكابرون؟ وقد جاء بها النبي الأمي في أزمنة الجاهلية والعالم كله في الضلال المبين.
- ↑ أي عقل أصغر! وأي إدراك أقصر! وأي علم أقل! وأي عقيدة أسخف! وأي وهم أكبر! وأي غرور أعظم، ممن يعتقد مثل هذه العقائد؟ فإن الأرض ومن عليها ليست إلا ذرة من ذرات هذا الكون الواسع الكبير العظيم كما أثبته علم الفلك الحديث، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن الشريف: ( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) (آل عمران: 135) وقوله: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (غافر: 57) وقوله: ( َوفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) ( الإسراء: 70 ) فالبشر ليسوا أفضل من جميع مخلوقات الله تعالى كما كان يتوهم أولئك الواهمون المفتونون المغرورون، ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (الأنعام: 91) سبحانه وتعالى عما يتوهمون ويصفون ويشركون، هو الكبير المتعال، ليس لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدًا، لا إله إلا هو الواحد القهار، رب السموات والأرض رب العرش العظيم، فله وحده الحمد والشكر أن طهر عقولنا بعقائد الإسلام، من تلك الأوهام، ورفع نفوسنا بالتوحيد، حتى لا نمتهنها بالذل والجبن والعبادة لأمثالنا من العبيد.
- ↑ هذا الكلام كله مبني على تسليم قصة الصلب كما هي في كتبهم.
- ↑ كما تغالى بعض اليهود كيوسيفوس وقالوا: إن موسى لم يمت وأنه اختفى عن قومه ولا يزال حيًّا، وكما تغالى النصارى في مريم وقالوا: إنها رفعت بعد الموت إلى السماء بروحها وجسدها ولهم عيد (يوم 15 أغسطس) يحتفلون فيه بذكرى رفعها!! وكان الوثنيون يقولون برفع بعض آلهتهم إلى السماء (انظر مثلا كتاب النصرانية والأساطير، لمؤلفه روبرتسن ص 384) ويقول اليهود، برفع بعض الأنبياء إليها أيضا (راجع عب 11: 5 و 2 مل 2: 11).