→ إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين | مجلة المنار دعوى صلب المسيح محمد رشيد رضا |
دعوى صلب المسيح ← |
(( مجلة المنار - المجلد [ 6 ] الجزء [ 2 ] ص 62 16 المحرم 1321 - مايو 1903 )) |
جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام: إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر.
ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار.
ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر:
هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار.
قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: ( وما صلبوه وما قتلوه ) ( كذا ) فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور.
قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن محمدا ( ﷺ ) لما بعث رسولا أيده الله بالمعجزات الباهرة.
قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } ( الإسراء: 59 ) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت السماء؟!
وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو وأصحابه!
وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: { وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } ( النساء: 157 ) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق يقال لها ( الدوسيتيين ) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم، وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: ( ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم ) فمحمد إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ.
هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب:
إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة الفاضحة؟!
إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك الفرض ككلمة ( كنت أرى ولا شك ) وكلمة ( كما رآه الجمهور ) وكلمة ( كنت أوقن وأؤمن وأشهد ) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام البرهان على عصمته؟! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن هذه المسائل.
أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي وصدقنا بصرنا.
وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة فوجب اتباعه في ذلك.
وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن الرب قال للحية: ( وترابًا تأكلين كل أيام حياتك ) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن كلا من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين.
وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدا رسول الله، وأن ما جاء به وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات والخوارق ( راجع المسألة العاشرة )، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها تصدر على أيدي الكذبة والمضلين.
هذا إذا سلمنا أن النبي لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل دليلا على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم قد أُوتي آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛ لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى.
وأما قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } ( الإسراء: 59 ) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو أن قريشًا اقترحت على النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما هنا نزل قوله تعالى: { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } ( العنكبوت: 51 ).
وأما قول النصراني: إن محمدا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب.
وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في الإسلام مستأجَرون من قِبل الجمعيات الدينية؛ لتشكيك عامة المسلمين في دينهم وإهانة كتابهم ونبيهم، وأن هذه الجمعيات تنفق على دعاتها في كل سنة أكثر من ثلاثة ملايين جنيه لأجل هذا الغرض، ونتيجة هذا أن النصارى بمجموعهم لا يمكن أن يرضوا عن الأمة الإسلامية حتى تتبع ملتهم؛ فالذنب في كل عداوة وشقاق على النصارى دون المسلمين.
وأما ردنا عليهم وتصدينا لبيان أباطيلهم فلا ينبغي أن يكون له تأثير سيئ في النصارى؛ لأنه دفاع لا اعتداء فإن رد الشبهات الواردة على الدين فريضة دينية على جميع المسلمين إذا لم يقم بها أحد كانوا جميعًا عصاة لله تعالى فاسقين عن أمره، فنحن ندفع الحرج عن نفسنا وعن جميع المسلمين في هذه البلاد بحكم الاعتقاد المالك لروحنا والمتصرف في إرادتنا وهم ليسوا كذلك.
ومن البلاء أن هؤلاء الطاعنين لا يؤثر فيهم البرهان؛ لأنهم لا يطلبون الحق وإنما يطلبون المال فإذا استطعنا إسكات غيرهم ممن يكتب لمنفعة شخصه فلا يتيسر لنا إسكاتهم لأن منفعتهم الشخصية مرتبطة بهذا الطعن؛ ولذلك نضطر إلى الرد عليهم دائمًا عملا بالواجب المحتم علينا في الدين فلا يلومنا عقلاء النصارى الذين عرفوا مضرة التعصب الذميم بل يجب عليهم أن يساعدونا عليهم بتخطئتهم في سيرهم. وإن كانوا راضين منهم فهم أنصارهم وأولياؤهم. والله وليّ المؤمنين.
((يتبع بمقال تالٍ))