(( مجلة المنار - المجلد [ 7 ] الجزء [ 4 ] ص 134 16 صفر 1322 - 2 مايو 1904 )) |
( 7 )
نهوض الدولة العربية وسقوطها
ما ناقشنا أحدًا وكنا عند الرد على كل جملة من كلامه نلوم النفس على التصدي له إلا كاتب مقالات ( سوريا والإسلام ) فإن من كان يخلق ما يقول، ويفتحر له علله ونتائجه افتحارًا لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد عليه، وإن ساء تأثير قوله، وقد خطر لنا الآن أن نترك الرد عليه لولا أننا لا نحب أن نشرع في شيء وندع إتمامه مختارين.
قال: إن سبب تأسيس تلك المملكة العربية العظيمة هي:
( 1 ) كون جنات عدن لا يدخلها إلا المجاهدون. وهذا الحصر غير صحيح في الإسلام.
( 2 ) والغنائم والتحف التي كانت ترسل من سوريا إلى بلاد العرب. وهذا هذيان ظاهر، فإن كل فاتح يغنم، وما كل من غنم أسس مثل ذلك الملك العظيم، ثم إن إرسال الغنائم من الفاتحين بالفعل إلى المقيمين في بلاد العرب لا ينبغي أن يزيد في همتهم إنما يزيد فيها استئثارهم بما يغنمون.
( 3 ) وتولية كل قائد على البلاد التي يدوخها، وهذا غير صحيح، وإذا صح فهو لا يصلح سببًا؛ لأن القائد في العرب لم يكن حاكمًا مستبدًّا مستعبدًا لجيشه يسيرهم لمصلحته، ولأن أكثر أولئك القواد الكرام لم تكن لهم عناية بالولاية.
والسبب الصحيح لتأسيس الدولة العربية هو أن الأمم التي فتحت العرب بلادها كانت كلها فاسدة الدين والأخلاق، مختلة النظام، معتلة الأحكام، فجاء الإسلام وجمع كلمة العرب المتفرقة على الاعتقاد الصحيح، والتهذيب الكامل، والعدل الشامل؛ فكانوا بذلك سادة لتلك الأمم التي سبقتهم بالمدنية، وبكل مقومات الأمم قبل انحطاطها وتقدمهم.
وقد جاءت في كلامه كلمة فيها روح الحق لو فهم ما ترمي إليه لما كتبها؛ وهي أن العرب قنعوا أولا بامتلاك سوريا، ولولا أن رأوا أنفسهم مهددين بالروم الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لما تصدوا لافتتاح غيرها. وروح الحق في هذه الجملة هو أن السبب الصحيح في زحف المسلمين إلى سوريا هو اعتداء أهلها من العرب المتنصرة وغيرهم على من يدخل في الإسلام، وقطع الطرق عليهم ومنعهم من التجارة، وإنما شرع الجهاد في الاسلام لأجل تأمين الدعوة؛ ليكون الإنسان على الدين الذي يختاره بلا إكراه ولا إجبار، ثم إنهم بعد ذلك صاروا محاربين للروم الحاكمين على سوريا ومصر وغيرهما من الأقطار، ومثل هذه الحرب لا تنتهي إلا بتدويخ إحدى الطائفتين الأخرى.
ومثل هذا المقام يشتبه على الأكثرين، وسنبينه في المقال الموعود به في تاريخ الحرب وإصلاح الإسلام فيه.
ثم أراد الكاتب أن يبين أسباب سقوط الدولة العربية فذكر أمورًا:
( أحدها ) أن ما بني على الظلم مهدوم، فإن الأمم التي خضعت للعرب كرهًا كانت كالماء المحصور بسد عظيم يطلب ثغرة ينفجر منها، ولو كان سقوط الدولة العربية بخروج السوريين والمصريين والفرس عليها، وإشعالهم نيران الثورات والفتن الأهلية في بلادهم لإسقاطها، أو إزالة ظلمها؛ لكان لقوله وجه، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن إذ لم ير أهل هذه الممالك أرحم ولا أعدل من دولة العرب فهذا السبب مخترع من مخيلة الكاتب المتعصب كما ترى.
( ثانيها ) أن اتساع المملكة، وعدم وجود رابطة بين أممها غير الدين كان يجزئها، ولهذا وجه يشرح بغير ما قرره.
( ثالثها ) عدم مهادنة دولة الروم، وهو كما ترى لا قيمة له.
( رابعها ) أن إطلاق الخلفاء لحكام المقاطعات والولايات الحرية التامة في تدبير شئون ولاياتهم؛ حمل هؤلاء على الاستبداد والاستقلال عند ضعف الدولة. وهذا سبب صحيح مسطور في الكتب لا ينازع فيه، ولكنه لا يبرد غليل تعصب الكاتب.
( خامسها ) وهو المهم عنده: أن التعصب الديني واضطهاد المسلمين لتلك العناصر المختلفة والتضييق عليهم في كل شيء بسبب الاختلاف الديني حمل هذه العناصر على كره الإسلام وخلفائهم وولاتهم، وحمل مسيحيي سوريا على الأخص على مد يد الاستغاثة إلى إخوانهم في أوربا حتى جروا على المسلمين الحروب الصليبية المشهورة.
وهذا كما ترى مكرر مع الأول لا يزيد عليه إلا في ذكر نتيجة كراهة نصارى سوريا للمسلمين، وقد أنسى الكاتب تعصبه أن الحروب الصليبية ما حدثت إلا بعد انحطاط الدولة العربية، فكيف يكون الشيء سببًا لما وجد قبله؟!
التاريخ الصحيح يشهد للعرب بأنهم كانوا أعدل الحاكمين، والحروب الصليبية لم تحدث بسوء معاملتهم، ولكن بتعصب نصارى أوربا. وذكر كُتَّابُ النصارى العارفون بالتاريخ أن الذين أساءوا معاملة زوار القدس هم السلجوقيون، وإن تعصب أوربا إنما ثار لذلك. جاء في دائرة المعارف أن زوار النصارى كانوا يفدون إلى بيت المقدس على عهد الدولة العربية ويذهبون ( بأمان وطمأنينة، ولا سيما في زمن العباسيين، حتى قيل: إن هارون الرشيد الذي استحكمت الصداقة بينه وبين معاصره شرلمان بعث إليه بمفاتيح بيت المقدس تأمينًا لقلوب الزوار وتطييبًا لخواطرهم. فكان القبر المقدس وكنيسة القيامة في أيديهم يتمتعون بزيارتها بلا معارض، ولا يدفعون إلا اليسير من المال. ولما انتقلت الخلافة إلى الفاطميين، واستولوا على القدس سنة 972م ساروا على أثر العباسيين، وظلوا يحسنون إلى المسيحيين وزوارهم إلى أن قام الخليفة الحاكم بأمر الله فضيق على النصارى، وشوه الأمكنة المقدسة عندهم، وآذى الزوار، فقلقت أوربا لذلك، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى السكون؛ لأن خلفاء الحاكم رجعوا فأحسنوا السياسة.
ولما استولى السلاجقة على بلاد فلسطين ظلموا النصارى، وضايقوا زوارهم؛ فهاجت الخواطر في أوربا.. ) إلخ، فقد رأيت ما اعترف به مؤلف الدائرة، وهو نصراني عالم بالتاريخ يقل نظيره في كتاب العربية. اعترف بأنه لم يظلم النصارى أحد من ملوك العرب إلا الحاكم العُبيدي، وقد كان مجنونًا يظلم النصارى يومًا، والمسلمين يومًا، ويحرم أكل الملوخية يومًا، ويحلها يومًا...
ولا يسع هذا الموضع ذكر الشواهد التاريخية على حسن معاملة العرب للنصارى وسائر الملل بالعدل والمساواة، وكيف كان هؤلاء يفضلون سلطتهم على سلطة أبناء دينهم لا سيما في أول الإسلام؛ إذ كان العمل بالدين دون السياسة. ولا يسع أيضا ذكر الأكاذيب التي افتراها قسوس أوربا على الإسلام والمسلمين ليهيجوا شعوبهم على غزو البلاد السورية، وإبادة المسلمين منها. فقد خلقوا لنا من العقائد الوثنية والتقاليد الكفرية، والعيوب الدينية والخلقية ما تقشعر منه الجلود، ولا يخطر على بال أحد من البشر أن يخترعه إلا أمثال هؤلاء المتعصبين الذي خلفوا لنا من بعدهم ( رفول سعادة ) فورث تعصبهم وقرائحهم القادرة على الاختراع. ومن شاء أن يرى العجب العُجاب من ذلك؛ فليقرأ كتاب ( الإسلام- خواطر وسوانح ) لكونت كستري الفرنسي الذي عربه أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر.
ولد التعصب الدينى الذميم في أوربا وتربى فيها، وساح إلى الشرق فأفسده على أهله، ولم يكن قبل حرب الصليب غلو في التعصب على المخالف في الدين يذكر بعدما علم العرب الناس التساهل بالعدل والمساواة بينهم وبين غيرهم؛ فسكن بذلك ما كان بين اليهود والنصارى من قبل. وكل ما كان يقع من النزاع والخلاف بين المختلفين في الدين فقد كان يقع مثله بين أهل الدين الواحد، والجنس الواحد ومن شاء زيادة البيان في هذا فليراجع مقالات ( التعصب ) التي نشرناها في السنة الأولى للمنار، فقد كانت موضع إعجاب النصارى والمسلمين.
افتات رفول سعادة على العرب، وجردهم من مزية العدل والإنصاف التي شهد لهم بها العالم أجمع، ولم يكتف تعصبه بهذا، بل جردهم أيضا من سائر المزايا العلمية فقال: ( وهكذا سقطت الدولة العربية، ولا أسف عليها؛ لأنها لم تترك أثرًا صالحًا إلا نشرها اللغة العربية في أطراف المعمورة. ولو سأل مؤرخي الفرنجة وفلاسفتها وعلمائها عن آثارهم؛ لقالوا له: إن العرب أحيوا العلم بعد موته، والفلسفة بعد دفنها، والفنون بعد تلاشيها، وأنهم أساتذتنا في كل العلوم والمعارف فيا أسفى على دولتهم، ويا أسفى على أيامهم، ويا ليتها دامت أو طالت، وبلغت من السعي في الفضل ما أرادت؛ ليأخذ العالم عنها كل شيء كاملا. ليقرأ تاريخ.... [1] المؤرخ، وكتاب الفيلسوف جيون، وغيرها من الكتب الإفرنجية، بدلا من رسائل ذلك الراهب، وخطبه التحمسية التعصبية، فذلك خير له إن كان يريد أن يكتب كلامًا مقبولا عند العقلاء، ويخدم سوريا العربية التي يملك معظمها المسلمون.
إن الكاتب يفتخر بالسوريين الأصليين الذين انقرضوا وبادوا، وصارت سوريا بعدهم عربية خالصة فليخبرنا أي اثَارَةٍ من علم تركها السوريون الأصليون؟ وهم قبائل نيفليم وأميم ورافاييم وزوزيم وعناقيم. وإن ذَكَرَ الفنيقيين؛ أَقُلْ له: إنهم جاءوا سوريا من جبال كردستان، وليسوا بسوريين أصليين، فهم فاتحون كالعرب، ولم يكن لهم من الآثار العلمية مثل ما للعرب، وإنما كانوا أصحاب ملاحة وتجارة.
أعود في آخر هذه النبذة إلى معاتبة نفسي على تفنيد كلام مخترع ككلام هذا المتعصب الغالي الذي غرني بأوائله نشر جريدة المناظر محبة الإنصاف له، ولعلها تنشر الرد عليه؛ ليكون هذا كفارة لذلك، والله يتولى هدانا أجمعين.
للرد بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.