→ العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي | مجلة المنار نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية محمد توفيق صدقي |
نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ← |
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوا أَحَدٌ } (الإِخلاص: 1-4 )
وبعد، فقد كتبت هذه المقالة، وهي بحث تاريخي عقلي في العهد الجديد وفي عقائد النصرانية، تتميمًا للبحث السابق في مسألة الصلب والفداء، راجيًا من الله أن يوقظ بها الغافلين، ويهدي بها الضالين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، فأقول وبه تعالى وحده أستعين، إنه حسبي ونعم الوكيل:
اتفقت شهادة علماء النصارى الأقدمين على أن متَّى لم يكتب إنجيله اليوناني الحالي، وإنما الذي فعله، كما سيتضح لك، هو أنه جمع بعض أقوال المسيح عليه السلام باللغة العبرية، وأقدم شهادة وصلت إلى النصارى في هذا الموضوع هي شهادة بابياس (Papias) أسقف هيرابوليس الذي استشهد في سنة 164 أو 167 ميلادية، فإنه كتب في منتصف القرن الثاني كتابًا ضخمًا في خمسة مجلدات، فُقِدَ ولم يبقَ منه سوى جمل قليلة نقلها عنه أوسابيوس (Eusebius) وإيريناوس (Irenaeus) فمن هذه الجمل التي نقلها أوسابيوس ( مات سنة 340 م ) قوله: ( إن متَّى كتب مجموعة من الجمل (Logia) باللغة العبرية ) يعني بعض كلمات المسيح باللغة الآرامية ( وقد ترجمها كل بحسب طاقته ). ا هـ. ومع أن أوسابيوس المؤرخ وغيره وصفوا بابياس هذا بسخافة العقل وضعف الإدراك؛ فإنه لا يوجد عند النصارى شهادة لكتبهم أقدم وأعظم من شهادته هذه على ضعفها؛ فهي سندهم الوحيد من عصر المسيح إلى منتصف القرن الثاني.
وفي سنة 180 ميلادية، ذكر إيريناوس الذي مات سنة 202 م أن متى كتب إنجيلا باللغة العبرية أو الآرامية ولا ندري لماذا فقدت كتابات متى العبرية ومن ترجمها ومتى ترجمت؟ وإذا لاحظنا أن الأصل الذي كتبه متى كان عبارة عن بعض عبارات المسيح وكلماته ( Logia ) كما هو صريح شهادة بابياس المذكورة - ظهر لنا أن واحدًا مجهول الاسم أخذ هذه المجموعة وترجمها وهذَّبها ورتَّبها وأضاف إليها ما شاء من الحوادث وغيرها لربط الجمل بعضها ببعض حتى صارت هي الإنجيل اليوناني الذي سمي باسم متى فيما بعد، فهل بمثل هذا الإنجيل يمكننا أن نثق ونحن لا نعلم من ترجمه؟ ومن الذي توسع فيها؟ وهل الترجمة صحيحة أم محرَّفة؟ وهل الزيادات التاريخية التي فيه صادقة أم كاذبة؟ وأين هو الأصل الذي ترجمه هذا المترجم؟ واعلم أنه لم يروِ أحد من قدمائهم أن متى كتب إنجيلا يونانيًّا كما يدّعون الآن بلا برهان.
فهذا هو حال إنجيلهم الأول، ومنه يُعلم أن أول من نص على أن متَّى كتب إنجيلا عبرانيًا هو إيريناوس سنة 180 ميلادية أي في أواخر القرن الثاني، ولا نعلم إن كان الإنجيل اليوناني الحالي مترجمًا عن هذا الذي ذكره إيريناوس أم لا؟
أما مرقس فإنه جمع بعض أخبار المسيح وأقواله غير مرتبة كما هي الآن على ما صرح به بابياس المذكور، وعليه فَيَدٌ أخرى رتبت هذا الإنجيل وزادت فيه، ثم زيد فيه شيئًا فشيئًا حتى صار كما هو الآن، ومن أحدث الزيادات فيه العبارات المذكورة في آخره ( 16: 9-20 ) ولذلك لم توجد في بعض نسخهم القديمة التي عثروا عليها؛ لأن زيادتها إذ ذاك لم تعم جميع النسخ، ولكنها عمتها فيما بعد كما هو الحال الآن؛ وهذه العبارات المشار إليها تتضمن ظهور المسيح لتلاميذه، ودعوة العالم كله للنصرانية، ورفعه إلى السماء ودعوى إعطاء المؤمنين بالمسيح القدرة على خوارق العادات والمعجزات ( عدد 17 و18 ) وهي دعوى يردها الحس والعيان وسيأتي البحث فيها.
هذا وقد كتب مرقس ما كتب بعد موت بطرس و بولس كما صرح بذلك إيريناوس (Irenaeus) فلم يطلع إذًا بطرس على ما كتبه مرقس بالرواية عنه. ومرقس لم يجتمع بالمسيح ولم يره قط. فأي ثقة لنا بمثل هذا الإنجيل؟ وهو لم يذكر إلا في أواخر القرن الثاني كإنجيل متى. وأما ما ذكره بابياس في منتصف هذا القرن فعن مجموعة أخرى من أقوال المسيح وأخباره غير مرتبة بحسب زمن وقوعها بخلاف هذا الإنجيل فإنه مرتب.
وأما لوقا فإنه أيضا ليس تلميذًا للمسيح ولم يره وكذلك بولس أستاذه [1] ، ولا يوجد دليل على أنه كتب إنجيله بالوحي، بل الظاهر من مقدمته أنه كتبه بالاجتهاد ( 1: 1-3 ) ولم يذكر أيضا هذا الإنجيل صريحًا في القرن الأول والثاني إلى سنة 180 ميلادية، وقد اعترف مؤلفه أنه وجد قبله أناجيل أخرى كثيرة، وهو يدل على تأخر زمنه.
وأما إنجيل يوحنا فلم يذكره أحد إلا في أواخر القرن الثاني، وفيه من الأقوال والآراء ما لم يروِه أحد غيره. مثال ذلك دعواه أن المسيح قال: 8: 58 ( قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن ). ولا ندري لماذا لم تذكر أمثال هذه العبارة في الأناجيل الثلاثة الأخرى؟ فهل كان العالم غير مستعد لهذه التعاليم قبل كتابة إنجيل يوحنا كما يزعمون؟ مع أن بحث الناس في الكلمة (Logos) بدأ قبل المسيح بقرون عديدة، فكان الفيلسوف اليوناني زينو ( Zeno ) أستاذ الرواقيين من سنة 340 - 260 قبل الميلاد يعتقد أن الكلمة هي الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، وكان الناس في زمن المسيح كثيري البحث في مثل هذه المسألة وغيرها، شديدي الشغف بأمثال هذه الفلسفات اليونانية اليهودية التي نشأت عنها بعض العقائد المسيحية. ولذلك نجد بحثًا طويلا في هذه المسألة في كتابات فيلو (Philo) الفيلسوف اليهودي الإسكندري الذي كان معاصرًا للمسيح، وفي الترجوم الكلداني، وأيضا في كتاب الحكمة (Wisdom) المنسوب لسليمان عليه السلام.
فلماذا إذًا لم يذكر بحث الكلمة إلا في مؤلفات يوحنا دون سائر التلاميذ الآخرين مع أن البحث كان شاغلا لأذهان الناس قبل المسيح وفي زمنه وبعده؟ فإن كان المسيح حقيقة قال تلك الجملة السابقة أو نحوها، فلماذا تركها الإنجيليون الآخرون؟ ولماذا لم يرشدهم روح القدس بعد حلوله عليهم إلى جميع الحق أو أهمه ليدونوه كما دونه يوحنا؟ أم كان الخوف من اليهود هو الذي منعهم من ذلك كما يزعمون؟ ولماذا لم يمنع هذا الخوف النصارى الأولين من المهاجرة بعقائدهم حتى نالهم من الاضطهاد والأذى والقتل ما نالهم على ما يقولون؟ فكيف يمنع الخوف الرسل من بيان الحق للناس ولا يمنع من هم أقل منهم من المجاهرة به في كل مكان وزمان؟.
وهناك مسائل أخرى كثيرة مذكورة في هذا الإنجيل الرابع ذكرنا بعضها سابقًا في مقالة الصلب، ولا أثر لها في الثلاثة الأولى، كدعواه أن يوحنا ذهب مع بطرس إلى دار رئيس الكهنة وقت محاكمة المسيح ودخوله وحده قبل بطرس ثم استئذانه له ( 18: 15 و16 ) وأنه دون سائر التلاميذ كان واقفًا عند الصليب مع مريم أم عيسى ( 19: 26 ) وذهابه مع بطرس إلى القبر بعد قيامة المسيح منه ( 20: 2 و3 ) وتسميته نفسه في أغلب الأوقات بالتلميذ الذي يحبه يسوع ( 21: 20 و13 و13: 23 - 26 ) إلى غير ذلك مما لم يرد في الأناجيل الأخرى، وهي كلها مسائل موضوعة من مؤلف هذا الإنجيل للمبالغة في مدح يوحنا، وتعظيمه وتفضيله عن باقي التلاميذ، ولذلك لم يروها إنجيل من الأناجيل الأخرى وهي من الأهمية بمكان عظيم لو صحت.
ومما يلاحظه الإنسان أن يوحنا يتكلم في رسائله بصيغة المتكلم، وأما في هذا الإنجيل فيتكلم دائمًا عن نفسه بصيغة الغيبة. وورد في آخر هذا الإنجيل (21: 24 ) هذه العبارة: هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق. وهي تشعر بأن بعض أتباع يوحنا في أفسس أخذوا ما كتبه يوحنا وتوسعوا فيه ومنه ألفوا هذا الإنجيل ونسبوه إليه وعظموه فيه كثيرًا، واخترعوا له من الحوادث ما لم يذكره غيرهم، ثم قالوا: ونعلم أن شهادته حق، ولذلك ترى هذا الإنجيل أصح عبارة في اللغة اليونانية من سفر الرؤيا لمهارة كاتبيه فيها.
ومن غرائب استدلال النصارى على أن لبطرس يدًا في تأليف إنجيل مرقس، أنه خالٍ من مدح بطرس مع أنه قد خص بطرس بالذكر في أعظم المقامات ( مر 16: 7 ) وهو إنجيل مختصر وترك تفصيل كثير من المسائل. وفي مقابلة هذا النقص والاختصار لم يذكر تفاصيل أخرى من الخالية عن المدح تكون مكتسبة من معلومات بطرس.
ومع ذلك فإذا صح استدلال النصارى هذا في بطرس فكيف ساغ ليوحنا مدح نفسه كل هذا المدح حتى خص نفسه بحب المسيح أكثر من كل أحد سواه وذكر لنفسه من الحوادث ما لم يروه أحد غيره.
فالحق أن هذا الإنجيل هو من وضع بعض أتباع يوحنا المتأخرين في أفسس، كما قلنا؛ ولذلك نجد أن بوليكارب (Polycarp) تلميذ يوحنا الخصيص لم يشر إلى هذا الإنجيل بكلمة واحدة مع أنه ذكر كثيرًا من العبارات عن المسيح توجد في الأناجيل الأخرى وكذلك بابياس (Papias) لم يذكره، وإن كان في يوستينوس (Justin) الشهيد المتوفى نحو سنة 166 ميلادية، يقول: إن سفر الرؤيا هو ليوحنا. لكنه لم يذكر أن يوحنا كتب هذا الإنجيل مطلقًا وهو ينقل كل ما يكتبه من حياة المسيح عن الكتاب المسمى (Memoris Of The Apostles) ( مذكرات الرسل ) تاركًا ذكر جميع هذه الأناجيل الحالية، وما في كتاباته عن حياة المسيح يختلف كثيرًا في بعض المسائل عما في إنجيل يوحنا، فلو كانت هذه الأناجيل معروفة في زمنه لنقل عنها وخصوصًا إنجيل يوحنا فإنه يناسب آراءه، ومع ذلك لم يشر إليه بكلمة واحدة. وفي هذه المذكرات أشياء لا توجد في الأناجيل الحالية أو تناقضها.
وقد صورت الأناجيل الثلاثة الأول المسيح بأنه ما كان يعلم أن يهوذا الإسخريوطي سيسلمه ( متى 19: 28 ولو22: 30 ) إلا في آخر حياته، وأنه ما كان يعلم متى تقوم القيامة [2] ( مر 13: 32 ) وأنه كان حزينًا جدًّا؛ ويستغيث بالله مرارًا لينجيه من الصلب ( مت 26: 38 - 44 ومر 14: 34 - 41 ) حتى صار يتصبب عرقًا من كثرة الإلحاح في الدعاء فنزل عليه ملك من السماء ليقويه ( لو 22: 43 و44 ) وأما الإنجيل الرابع فصوَّره بأنه كان من أول الأمر يعلم أن يهوذا سيخونه ( بو 6: 70 و71 ) وأنه يعلم كل شيء ( 6: 64 و2: 25 و16: 30 ) وأنه ما كان حزينًا لأجل الصلب ( إصحاح 14 - 17 ) غير أنه اضطرب قليلا ( يو 12: 27 ) وأنه أسلم نفسه لليهود طائعًا مختارًا ( يو 10: 18 ) حتى كانوا يسقطون على الأرض من هيبته ( 18: 1 - 11 ).
وقد ترك أيضا هذا الإنجيل ذكر تجارب الشيطان له [3] وصيامه أربعين يومًا وليلة لله تعالى ( مت 4: 1-11 ) وصلواته الكثيرة ( لوقا 6: 12 و 11: 1 و9: 18 ومر 6: 46 ومت 14: 23 ) وصراخه وقت الصلب من الألم ( مت 27: 46 ) وكذلك ترك قصة شجرة التين [4] ( مت 21: 18 - 22 ) ومر 11: 12 - 14 ) لأنها تؤدي إلى نسبة الجوع والجهل والظلم والعجز للمسيح؛ حيث إنه لم يعرف إن كان بالشجرة تين أم لا مع أنه لم يكن وقت التين كما ذكر مرقس ( 11 - 13 ) ثم إنه ظلمها وظلم صاحبها أو كل من كان ينتفع بها من السابلة بدعائه عليها حتى يبست، وكان الأولى به أن يُوجِد التين فيها في غير وقته بقدرته!! فإن ذلك يكون أفيد وأحكم وأدل على القدرة، أو يشفيها إن كان عدم ثمرها لمرضها!! لذلك ترك يوحنا هذه القصة كما ترك كل أمثالها خوفًا مما تؤدي إليه، فكل ذلك يدل على أن هذا الإنجيل كتب في زمن كان فيه الناس قد تغالوا في المسيح ورفعوه لدرجة تقرب من درجة الأب ( الله ) [5] فهو مظهر من مظاهر ترقيهم في هذه العقيدة تدريجيًّا؛ ولذلك اختلف هذا الإنجيل المتأخر عن الأناجيل الثلاثة الأول في هذه وغيرها وتركها عمدًا لغاية له علمها العلماء من الناس الآن.
فإن قيل: لعل يوحنا أراد أن يكون إنجيله مكملا للأناجيل الثلاثة الأولى فلذا لم يذكر ما ذكرته منعًا للتكرار. قلت: إن ما سبق بيانه لا يصلح أن يعتبر تكميلا بل هو تناقض بيِّنٌ كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر من الأناجيل أن كُلا منها كتب ليكون كاملا بنفسه لا مكملا لغيره، وإلا إذا صح قولكم هذا فكيف ذكر يوحنا كثيرًا من الحوادث التي ذكرتها الأناجيل الثلاثة مع أنها ليست من الأهمية بمنزلة الأشياء التي تركها؟ مثال ذلك معجزة إطعام خمسة آلاف رجل قد ذكرها متى ( 14: 21 ) ومرقس ( 6: 44 ) ولوقا ( 9: 14 ) فكيف بعد ذلك ذكرها يوحنا؟ ( 6: 10 ) وكذلك دخول المسيح أورشليم راكبًا حمارًا [6] [7] قد ذكروه كلهم ( انظر مت 21: 2 ومر 11: 2 ولو 19: 30 ويو12:14 ) فإن قيل: إن ذكرهم لركوب الحمار هو لأنه كان تتميمًا لنبوة زكريا ( 9: 9 ) قلت: كذلك كان صراخ المصلوب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ تتميمًا للمزمور ( 22: 1 ) فلِمَ لم يذكره يوحنا؟ ألا يدل ذلك على أنه تحاشى ذكر كل ما من شأنه أن يقلل من درجة المسيح التي يريد رفعه إليها؛ ليجعله كلمة الله القديمة التي وُجدت قبل جميع المخلوقات، وبها كانت المخلوقات ثم تجسدت وقبلت الصلب بإرادتها لا رغمًا عنها كما يفهم من الأناجيل الأخرى؟ راجع رسالة الصلب ( ص 124 و156 و161 ) فالحق أن كلا منهم كتب إنجيله على استقلال، وتوخى فيه غاية مخصوصة فذكر من الحوادث والأقوال ما يلائم غرضه؛ ولو كان مكررًا في الأناجيل الأخرى فتجدها تتفق في بعض المسائل حتى في لفظها؛ ثم تختلف في الأخرى، حتى يتعسر أو يتعذر الجمع بينها وما دام هذا حال الأناجيل فهي من الوجهة التاريخية لا قيمة لها؛ لأنها تابعة للأغراض تدور معها حيث دارت.
وقد ذكرت الأناجيل الثلاثة الأول ( مت 19: 17 ومر 10: 18 ولو 18: 19 ) أن رجلا نادى عيسى ﷺ بقوله: أيها المعلم الصالح، فأنكر المسيح عليه ذلك تواضعًا، وقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله. وأما يوحنا فلم يذكر هذه القصة مطلقًا كعادته، وروى عن المسيح أنه كان يقول مرارًا ( يو 10: 11 و14 ) أنا هو الراعي الصالح، وأنه قال: ( يو10: 30 ) أنا والأب واحد، وغير ذلك كثير مما لم تروِه الأناجيل الأخرى، وإن كانت العبارة الأخيرة التي رواها يوحنا ليست نصًّا في ألوهيته؛ إذ حملها على المجاز سهل كما هو ظاهر وقد قال المسيح أيضا نحوها في تلاميذه ( يو 17: 14 - 26 ) إلا أن روح العظمة والكبرياء التي في رواية يوحنا هذه لا تتفق مع روح التواضع التي تُرى في رواية الآخرين عن المسيح، فإن كان ما رواه يوحنا عنه ( مثل 3: 13 و8 و12: 45: 10 و16: 28 و17: 5 ) صحيحًا، فمن أقبح النقص ومن أعظم أسباب تضليل الناس في أمر المسيح أن يترك ذلك الإنجيليون الثلاثة، وخصوصًا لوقا الذي تعمد أن يكون إنجيله كاملا وجامعًا لجميع أخبار المسيح وأقواله المهمة؛ إذ قد تتبع كما يقول عن نفسه ( 1-3 ) كل شيء من الأول بتدقيق. فلا يعقل أن مثل هذا الكاتب المدقق يترك كل أقوال المسيح المهمة في مبحث ألوهيته؛ ليكملها له يوحنا أو غيره كما يدَّعون، وإن خالفوا قول لوقا نفسه، وهو عندهم موحى إليه، وكتب إنجيله بالإلهام الإلهي بعد نزول روح القدس عليهم جميعًا!! فلم إذًا لم يوحَ إليه ما أوحى إلى يوحنا مع أن يوحنا لم يُرد أن يكون إنجيله كاملا كلوقا؟ ( يو 21: 25 ) أم نسي الله أن يلهمه هذا المبحث العظيم ولم يعلم أن ذلك سيكون سببًا في إنكار كثير من الناس ألوهية عيسى في كل زمان ومكان وتكذيبهم يوحنا فيما رواه وانفرد به دون جميع زملائه الآخرين حتى إن تسمية المسيح ( بالابن الوحيد ) و( بالكلمة ) بالمعنى الذي أراده يوحنا لم ترد في كتاب من كتب العهد القديم أو الجديد إلا في المؤلفات المنسوبة إلى هذا الرجل؟! وما هي إلا فلسفة يهود الإسكندرية وغيرهم سرت إلى المؤلف فطبقها على المسيح، والمسيح براء مما ينسبه إليه، أو يرويه عنه، كما هو ظاهر من الأناجيل الأخرى.
فإن قيل: لعل لوقا أراد أن يكون إنجيله شخصيًّا؛ لأنه قدمه لثاوفيلس، وربما أن هذا الرجل كان يعرف ألوهية المسيح وأقواله في هذه المسألة وما كان يشك فيها؛ فلذا تحاشى لوقا ذكر كل ما يثبتها له من أقوال المسيح؟ قلت: إن الذي يفهم من إنجيل لوقا نفسه ( 1: 4 ) أن ثاوفليس ما كان يجهل شيئًا مما جاء في هذا الإنجيل، وإنما كان الغرض من كتابته له تثبيته، فلماذا لم يُثَبِّتْهُ لوقا في عقيدته في لاهوت المسيح، ولم يروِ له ما قاله المسيح نفسه في ذلك كما ثَبَّته في غيرها من الحوادث؛ وإن كان يعرفها من قبل؟ وأيُّ ضرر إذا ذكر لوقا أقوال المسيح في ألوهيته؟ حتى إنه تجنب ذكرها [8] في إنجيله بالمرة؟ وسماه إنسانًا ونبيًّا ( لو 24: 19 ).
ولو فرض أن لوقا لم يذكر إلا ما جهله ثاوفيلس، فهل يُعقل أن هذا الصديق العزيز للوقا ( 1: 3 ) والذي يعلم النصرانية من قبل ( لو 1: 4 ) كان يجهل أو يشك في وجود عيسى وفي جميع تفاصيل حياته وولادته من العذراء وفي صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، حتى فصَّل له لوقا كل ذلك تفصيلا؟ وإذا كان يجهل هذه المسائل أو يشك فيها فكيف لم يشُك في ألوهية المسيح؟ وكيف علم ثاوفيلس أقوال المسيح في ألوهيته ولم يعلم باقي تفاصيل قصته التي فصَّلها له لوقا، مع أن هذه الأقوال ما كانت منفصلة عن حوادث حياته كما يفهم من إنجيل يوحنا، ومن علم هذه علم، تلك فلمَ فصَلها لوقا عنها وتركها؟ وإذا كان هذا الإنجيل شخصيًّا فلمَ لم يكتب تلميذ من تلاميذ المسيح إنجيلا عموميًّا يكون وافيًا بجميع المسائل؟ ولم إذًا جعلتم إنجيل لوقا عموميًّا ونشرتموه بين الناس في كل زمان ومكان وهو غير وافٍ بالغرض؟ وأي إنجيل عندكم أوفى منه؟ وكيف يجب على البشر الإيمان بأكبر معضلة في العالم مخالفة للعقل ولما نُقل عن جميع أنبياء بني إسرائيل، وهي مسألة ألوهية المسيح - كيف يجب الإيمان بها لمجرد رواية شخص واحد خالف فيها جميع التلاميذ الآخرين، وأتى بما لم يأتوا به؟ وهل نسيتم أن من دعا لعبادة غير الله يجب قتله كما في سفر التثنية ( 13: 1-5 ) ولو كان مؤيدًا بالآيات والمعجزات؟ فكيف إذًا يصدق يوحنا هذا، وهو لم تتواتر عنه أيّ معجزة؟ ولو تواترت لما عافته من استحقاق القتل بنص التوراة. على أن جميع عباراته في هذه المسألة ليست نصًّا قاطعًا كما بُين في إحدى الحواشي الماضية، وفي كتابنا ( دين الله ) ص 76 و77 وهي كلها مما يمكن تأويله.
ولا أدري لِمَ لم يأولوها وباعهم في التأويل أطول من جميع العالمين، ولهم في التعسف والتكلف آراء تعجز عنها الجن والشياطين؟! فالحق أن لوقا إنما لم يرو ما رواه يوحنا؛ لأن كاتب إنجيل يوحنا افتجره من عند نفسه افتجارًا وليس هناك من سبب آخر غير ذلك؛ فلا تجهدوا أنفسكم في انتحال الأعذار والأسباب ولا تكونوا في كل شيء مكابرين، وعن الحق دائما معرضين.
وهناك مسائل أخرى كثيرة ذكرها علماء النقد تدل على أن كاتب هذا الإنجيل ليس يوحنا تلميذ المسيح بل ولا يهوديًّا ممن يعرفون أرض فلسطين ولا هيكل أورشليم ولذلك وقع في الغلط في أثناء وصف تلك البلاد ومعبدها.
فمن ذلك قوله ( 1: 28 ) ( هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمِّد ). كما في جميع النسخ القديمة، وهي مدينة لا وجود لها في هذا المكان، ولم يعرفها أحد حتى ولا أوريجانوس المتوفى نحو سنة 254 ولذلك أبدلوها في نسخهم الحالية ( ببيت عبرة ) وقوله ( 3: 23 ) ( وكان يعمد في عين نون بقرب ساليم؛ لأنه كان هناك مياه كثيرة )، وهذا الموضع أيضا ما عُرف قط حتى ولا في القرن الثالث، وأقرب مكان يمكن أن يقال: إنه هو المراد، موضع في شمال السامرة، ولكن الذي يُفهم من إنجيل يوحنا أنه في اليهودية ( 3: 22 و4: 3 ) وقوله ( 4: 5 ) ( فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار ) وهي غير معروفة ويظن بعضهم أنها ( شكيم ) ويرُد هذا الظن أن بئر يعقوب عند مدخل الوادي تبعد ميلا ونصف ميل عن شكيم، ولا يعقل أن المرأة السامرية كانت تذهب هذه المسافة البعيدة لجلب الماء مع أن الماء غزير بالقرب من المدينة ( راجع قاموس بوست مجلد 1ص 592 ).
ومن ذلك أيضا قوله: ( يو2: 14 و15 ) ( إن البقر والغنم كانت تباع في هيكل أورشليم ) وقد حقق العلماء أنه لم يكن لها موضع هناك بل كانت تباع في سوق بعيدة عنه خارج أورشليم ( راجع كتاب دين الخوارق ص 550 ) على أن هذه القصة ذكرت في الأناجيل الأخرى متأخرة عن الزمن الذي ذكره يوحنا ( انظر متى 21: 12 ومر 11: 15 ولو 19: 45 ) والظاهر أن الحق معها، فإن المسيح ما كان ليقدم على طرد الباعة وكب الدراهم وقلب الموائد وضرب الناس بالسوط ( يو 2: 15 ) وهو لا يزال في أول أمره في السنة الأولى من بعثته قبل أن يعرفه الناس مع أنه كان بعد ذلك يذهب إلى أورشليم مختفيًا خوفًا من اليهود كما قال يوحنا نفسه ( 7: 10 - 13 و11: 53 - 57 ) ثم قصة بِركة بيت حسدا ( 5: 2 - 9 ) ومع أن هذه البِركة الآن غير معروفة مطلقًا، فمن العجيب أن يكون لها هذه الخاصية العظمى التي ذكرها يوحنا في شفائها للمرضى الذين كانوا ينزلون أولا فيها بعد تحريك المَلَك ماءها مباشرة، ولا يذكرها يوسيفوس ولا غيره من المؤرخين في ذلك العصر؟! فهي قصة كاذبة ولذلك حاول النصارى حذفها من الإنجيل من قديم الزمان وهذا هو سبب حذفها في كثير من نسخهم القديمة كالسينائية والفاتيكانية ولكنها موجودة في الإسكندرية وغيرها، فانظر إلى مقدار تصرف هؤلاء الناس في كتبهم المقدسة.
والخلاصة أن هذه الأناجيل الأربعة ما كانت معروفة إلا في أواخر القرن الثاني، وكان هناك كتب أخرى كثيرة يستشهد بها المؤلفون غير هذه الأناجيل كمذكرات الرسل [9] المذكورة سابقًا وإنجيل العبرانيين وإنجيل الأبيونيين والأناجيل المنسوبة إلى بطرس وتوما والاثني عشر وبرنابا ونيقوديموس وغيرها كثير، وبعد ذلك صارت تشتهر الأناجيل الأربعة شيئًا فشيئًا حتى جُعلت هي القانونية ورُفض غيرها الذي ضاع أكثره أوأعدموه تدريجيًّا. ولعل السبب في بقائها دون غيرها هو أنها أصح عبارة في اللغة اليونانية وأقرب إلى غرض النصارى في تلك الأزمنة وأقل تناقضًا وخطا من غيرها، وربما كان مروجوها بينهم أكثر وأمهر من مروجي تلك وأبرع منهم في حسن السبك.
هذا، وقد امتدت فلسفة اليهود في الكلمة (Logos) أو الحكمة كما يسميها سفر الأمثال ( 8: 12 ) وكتاب الحكمة ليشوع بن سيراخ ( 24: 9 ) امتدت من الإسكندرية إلى آسية الصغرى، وهناك وجدت وسطًا صالحًا لنموها فامتزجت بآراء بولس وغيره في المسيح في الفداء والخلاص وهي الآراء التي فشت في النصارى وقتئذ، ومن مجموع ذلك صدرت الكتب المنسوبة إلى يوحنا من كنيسة أفسس، وهي المدينة التي كان يوحنا مقيمًا فيها؛ ولذلك لم تعرف هذه الكتب ( الأناجيل والرسائل ) المنسوبة إليه بين النصارى الأقدمين إلا في آخر القرن الثاني كما سبق.
فإن قيل: إذا كانت الأناجيل الحالية مما كُتب في القرن الثاني، فكيف لم يحذف النصارى منها أقوال المسيح الدالة على قرب مجيئه وعلى أن ذلك يكون عقب خراب أورشليم مباشرة ( راجع مثلا مت 10: 23 و16: 28 و 24: 3 و29 -34 ومر13: 24 - 30 ) مع أن ذلك لم يتحقق؟ قلت: إن هذه الأقوال كانت تعزية المسيحيين الكبرى على مصائبهم في هذه الدنيا ( 1 تس 4: 18 ) من عهد المسيح إلى أوائل القرن الثاني بعد موت يوحنا الذي كانوا يظنون أنه يبقى حيًّا إلى مجيء المسيح عليه السلام ( يو 21: 23 ) فإذا صح أن عيسى قال شيئًا منها فلا بد أنهم لم يفهموا مراده الحقيقي فنقلوا عبارته محرفة حتى خرجت عن معناها الأصلي وشاعت بينهم على غير حقيقتها.
والأرجح عندي أن اليهود الذين دخلوا في المسيحية استنتجوا من كتبهم أن زمن عيسى هو آخر الزمان وأن القيامة قريبة جدًّا منهم كما يفهم من سفر أشعيا ( 2: 2 ) وأرمياء ( 23: 20 ) والتكوين ( 49: 1 ) ويوثيل 2: 28 - 32 ) فانتشرت هذه الأقوال بين النصارى الأولين ( راجع أيضا أع 2: 16 - 21 ) وفشت فيهم حتى نسبوها إلى المسيح نفسه، وزعموا أنه قال: إن القيامة ستقوم عند خراب أورشليم مباشرة ( مت 24: 3 و29 - 35 ) ولذلك قال سفر الأعمال أيضا نقلا عن يوئيل ما يفهم منه أنها ستقوم عقب نزول الروح على التلاميذ يوم الخمسين ( 2: 1 - 21 ) فكان النصارى في القرن الأول وفي أوائل الثاني يظنون قرب مجيء القيامة فدخلت هذه الأقوال فيما كتب من الأناجيل إذ ذاك ( كأصل إنجيليْ متى ومرقس القديم ) وتداولها الناس بينهم واشتهرت عندهم هذه النبوات وصاروا يرتقبون تحققها يومًا بعد يوم، فلا يُمكن بعد أن كُتبت وشاعت أن يتلاعبوا فيها؛ وأعين الناس متجهة إليها في ذلك الزمن.
أما كاتب الإنجيل الثالث، وفالظاهر أنه كان في زمن يئس فيه الناس من تحقق هذه النبوات وأمثالها في القرن الثاني أو الجيل الثاني كما يفهم من مقدمة إنجيله، فلذا شك في رواية ألفاظها الواردة في أصل الإنجيل الأول والثاني وحور عباراتها تحويلا يجعلها أصلح للتأويل مما في الإنجيلين الأولين، ولم يذكر الأقوال الأخرى الواردة في إنجيل متى التي أشرنا إليها هنا ( راجع لو 21: 7 و25 - 32 ) تجد عبارته مخففة في هذا الموضع عن سابقيه ولم يمنعه اشتهار ألفاظها الواردة في الأناجيل التي قبله وشيوعها بين الناس واعتقادهم لها من هذا التحوير؛ لجزمه بخطأ روايتها، وإلا لكان المسيح نفسه هو المخطئ فيها، وهو غير جائز طبعًا.
وأما الإنجيل الرابع، فتركها بالمرة وهو مما يدل على شدة تأخر زمنه وتحقق الناس من عدم صحتها ويأسهم منها يأسًا تامًّا [10] .
ولا يلزم من اشتهار هذه الأفكار والنبوات بين النصارى في القرن الأول كله والثاني أن غيرها مما في الإنجيل المنسوب لمتى ومرقس كان شهيرًا شهرتها ومعروفًا بينهم مثلها. فكاتباهما وإن تحاشيا تحريفها أو تحويرها لشهرتها، إلا أن ذلك لا يضمن لنا صحة رواية الأشياء الأخرى التي ليست شهيرة بين الناس شهرة هذه النبوات. وهذا وعدم علم بابياس المتوفى نحو سنة 164 - 167 ميلادية بهذين الإنجيلين ( متى ومرقس ) بحالتهما الحالية - كما بيَّنا - يدل على أنهما لم يكونا بهذه الحالة في زمنه أو لم يشتهرا بها إذ ذاك، بل كان إنجيل متى عبارة عن بعض أقوال عن المسيح باللغة العبرية وإنجيل مرقس عبارة عن مجموعة من أخبار المسيح وأقواله باللغة اليونانية إلا أنها غير مرتبة كما سبق بيانه؛ وربما كان الذي منع التلاميذ من الاعتناء بكتابة الإنجيل هو توهمهم قرب انتهاء العالم، فإذا صح أن نبوات يوم القيامة كانت في أصل هذين الإنجيلين فمترجم الأول ومرتب الثاني لم يجسرا على تحويرها أو تحريفها نظرًا لشهرتها بين الناس أو لظنهما أنها ربما تحققت عن قريب ولكن هذا السبب لم يكن عند كاتب الإنجيل الثالث كافيًا لمنعه من إصلاح ما اعتقد خطأه لتأخر زمنه ويأسه، وخصوصًا لأنه كان كثير الاجتهاد والتدقيق كما هو صريح مقدمته ولم يقصد بكتابة إنجيله أن يكون لجميع الناس بل لشخص صديق له يسمى ثاوفيلس فلا يهمه إن قبله الناس منه أو لم يقبلوه ما دام مقتنعًا بصحة ما استنتجه وكتبه وصدقه فيه صاحبه.
الدكتور
محمد توفيق صدقي
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ هذا إذا صح أن كاتب الإنجيل هو لوقا تلميذ بولس (فل 24) لا واحدًا آخر غيره.
- ↑ حاشية: إذا كان المسيح بمقتضى هذه العبارة لا يعلم متى تقوم الساعة باعترافه هذا، فكيف يكون هو ديَّان الخلائق يوم القيامة؟ وقوله فيها: إن الابن لا يعلمها، نص على أنه ليس بإله، فإن قيل: لعله يريد الإنسان يسوع، قلت: ولِمَ لَمْ يُعبِّر بذلك ليكون قوله خاليًا من اللبس والتضليل؟ وإذا كان أقنوم الابن متحدًا بناسوته فكيف لم يعلم الناسوت ما يعلمه اللاهوت، وإلا فما معنى هذا الاتحاد؟ وجاء أيضا في إنجيل يوحنا أن المسيح لما أشار عليه إخوته بالذهاب إلى أورشليم لأجل العيد قال لهم ( يو 7: 8 ) أنا لست أصعد بعدُ إلى هذا العيد، ولكن لما مضى إخوته إلى العيد مضى هو أيضا بعدهم متخفيًا ( يو 7: 10 ) فعبارته هذه لهم إما أنها كذب وغش؛ ولذلك ذهب بعدها متخفيًا؛ وإما كان قالها باعتبار الناسوت، ( وهو الجواب الذي صدعوا آذاننا به ) قلت: وكيف لم يهدِه اللاهوت المتحد به إلى البت في عمل صغير كهذا وتركه يبدي كل هذا التردد والجهل؟ وما فائدة اللاهوت له إذًا؟ وفي أي شيء أفاد؟ ولم اتحد به الله وهو لم يصلب معه بل تركه، ولذلك قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ولم تعبدون هذا الناسوت العاجز الجاهل مع اللاهوت ولم تفرقوا بينهما؟ فإن قيل: ولماذا ذكر يوحنا هذه القصة وهي منافية لمبدئه في كتابه تاريخ المسيح كما تدَّعي؟ قلت: لعله لم يدرك ما تؤدي إليه أو ربما أنه كان يستحسن مثل هذا التضليل ويُعجب بحيلة المسيح هذه وتَخفِّيه حتى عن أهله، ويرى أن ذلك مهارة منه وسياسة عالية، وما درى أنها كذب مذموم ولا مسوغ له مطلقًا، ولا يصح صدوره من ابن الله!!.
- ↑ قصة تجارب الشيطان هذه للمسيح تشبه قصة قديمة للهنود في ( بوذا ) شبهًا يبعد أن يكون منشأه الصدفة والاتفاق لا القياس والنسج عليها ومما تمتاز به قصة الأناجيل قولها (مت: 4: 8 ولو4:5) إن الشيطان بعد أن أخذه إلى أورشليم ( كما في متى عدد 5 و8 ) أو قبل ذلك 0 كما في لوقا عدد 5 و9 ) أرى المسيح العالم كله من جبل عال جدًّا، فكيف يمكن ذلك والأرض كروية، وأين هذا الجبل الذي يرى منه العالم كله؟ فالحق أن كتبة الإنجيل كباقي أهل زمنهم كانوا يتوهمون أن العالم عبارة عن القطعة المحدودة التي عرفوها إذ ذاك من الأرض (راجع أيضا لوقا 2: 1) وملكها الرومان، ولما تنبه بعض النصارى إلى ذلك الغلط حذفوا من إنجيل لوقا قوله (في عدد 5) ( إلى جبل عال ) فلم يوجد في بعض النسخ القديمة، وربما كان هذا الإنجيل عند المحرفين له أكثر استعمالا من غيره أو كان تداوله قليلا عند غيرهم فلذا أقدموا على تحريفه في ذلك دون إنجيل متى، ولا ندري كيف تجاسر الشيطان على مثل هذا العمل مع الهه حتى صار يحمله من مكان إلى مكان طائرًا به في الهواء ويمتحنه مرات ويعده بإعطائه جميع ممالك المسكونة إذا هو سجد له، فهل نسي الشيطان أن هذا الذي يجربه هو الذي أعطاه كل هذه السلطة (لو 4: 6) وأنه هو خالق السموات والأرضين ورب العالمين؟ فكيف نسي الشيطان ذلك؟ وما الحكمة في رضوخ إلههم للشيطان إلى هذا الحد، وتجرئه عليه في كل ذلك؟ ( راجع أيضا ص109 و110 ) من رسالة الصلب والفداء.
- ↑ قد ناقض مرقس متى في وقت ملاحظة التلاميذ يبس هذه الشجرة، فجعله متى في الحال ( 21: 19 و20) وجعله مرقس في صباح اليوم التالي ( 11: 20 ) فيجوز أن الشجرة كانت مريضة من قبل وآخذة في الذبول وتم ذلك أو كاد بعد مضي 24 ساعة (مت عدد 18 ومر عدد 20) فتبين لهم حينئذ يبسها جليًّا. فكان الواجب أن يذكر يوحنا وهو - كما يقولون - المكمل لنقص الأناجيل التي قبله هذه القصة من جديد لرفع تناقضها، وبيان إن كان فيها شيء من الإعجاز أم لا، ولكن كيف يفعل ذلك وفائدتها لا تذكر في جانب ما تجلبه عليه من الضرر العظيم كما بُين في المتن.
- ↑ حاشية: مع ذلك ترى أن إنجيل يوحنا لا يزال ينص على أن الابن أقل من الأب ولذلك يقول عن لسان الابن ( عيسى ) ( 5: 30 ): ( أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا كما أسمع أدين ودينونتي عادلة؛ لأني لا أصلب في مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني ) وقال ( 5: 22 ) (لأن الأب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن ) وقال ( 8: 28 ) ( ولست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي ) وقال ( 14: 24 ) و ( الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني )، وقال ( 14: 28 ) ( لأن أبي أعظم مني ) وقال ( 12: 49 ) ( لأني لم أتكلم من نفسي لكن الأب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم ) وهي كلها نصوص صريحة على عدم مساواته تمامًا لله تعالى، وأن الله تعالى هو الذي أعطاه القدرة على كل شيء والكلام والعلم والدينونة، وأنه أعظم منه، وأن المسيح إنما يعمل مشيئته تعالى وأن الله هو إلهه أيضا كما هو إله للناس ( يو 20: 17 ) أما قول هذا الإنجيل ( 1: 1 ) ( والكلمة عند الله، وكان الكلمة الله ) فهو صريح في أن الكلمة غير الله، وإنما صارت إلهًا للعالم كما صار موسى إلهًا لفرعون على ما يقول سفر الخروج ( 7: 1 ) راجع أيضا قول بطرس في سفر الأعمال بعد نزول روح القدس عليهم ( إن الله جعل يسوع ربًا ومسيحًا ( أ ع 2: 36 ) فلفظ ( كان ) في الإنجيل بمعنى ( صار ) كقول القرآن الشريف { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ } (آل عمران: 49) أى: يصير، فإنجيل يوحنا كباقي أسفار العهد الجديد بجعل الابن مخلوقًا قبل كل شيء (رؤ 3: 14 وكو 1: 15 وقارنهما بيع 1: 18) ولا يساويه بالله تعالى رومية ( 1: 4 ) أما هذه المساواة فقال بها النصارى بعد زمن تأليف العهد الجديد في وقت كثرت فيه فرقهم ومذاهبهم واختلفت في هذه المسألة؛ فلذا لم يمكنهم حذف هذه الأقوال المنافية للمساواة التامة من العهد الجديد لوجوده إذ ذاك عند طوائف أخرى تعرف هذه الأقوال فيه وتتمسك بها ضد الآخرين المخالفين لهم، ولكن بعد انعقاد المجميع النيقاوي 325 ميلادية وحكمه على أتباع أريوس الموحدين بالكفر وبالزندقة فشت بين جمهورهم عقيدة مساواة الابن بالأب في كل شيء وأولوا هذه الأقوال وغيرها. إذ بعد عدم إمكانهم حذفها كلها لا مناص لهم من تأويلها؛ وذلك كله لميل الجمهور في ذلك الزمن للشرك والوثنية والعقائد الرومانية والفلسفة اليونانية واليهودية وغيرها، ومع ذلك فقد أجروا بعض التحريفات راجت في نسخهم لإثبات ألوهية المسيح ومساواته بالله ولم يدركها أحد في تلك الأزمنة لعدم حفظهم لكتبهم في صدورهم ولانتشار الجهل بينهم إذ ذاك وقلة نسخهم ووجودها عند رؤسائهم فقط، وقد عُرفت بعض هذه الأشياء الآن بالمراجعة والبحث في النسخ القديمة والحديثة، فمن ذلك إبدال لفظ ( الرب ) بالمسيح في ( 1 كو 10: 9 ) وزيادة قولهم ( بيسوع المسيح ) في ( أف 3: 9 ) وزيادة كلمتي البداية والنهاية في ( رؤ 1: 8 ) وكلمات أنا هو الألف والياء الأول والآخر في ( رؤ 1: 11 ) وزيادة عقيدة التثليث في ( 1 يو 5: 7 و8 ) وزيادة لفظ الله في ( يه 4 و1 تي 3: 16 وأع 20: 28 ) إلخ إلخ، فكيف بمثل نقل هؤلاء الناس يثق الإنسان؟ وتلاعبهم بكتبهم أصبح محققًا معروفًا؟ راجع أيضا كتاب ( دين الله ) ص 76 و77 ورسالة الصلب ص 162.
- ↑ من المضحكات المخجلات المتعلقة بمسألة ركوب الحمار هذه ما يأتي: قال زكريا في كتابه ( 9: 9 و10 ) ابتهجي يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هو ذا مَلِكك يأتي إليك وهو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان وأقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض ) إلخ، وعدم انطباق هذه النبوة على المسيح ظاهر؛ فإنه لم يكن مَلِكًا لأورشليم ولا هو منصور ولم يمتد ملكه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، ومنذ وجوده إلى الآن استعرت نيران الحروب ولم تقطع قوس الحرب، وتشتت اليهود بعده بقليل وخربت أورشليم ولم يتكلم بالسلام بل قال ( مت 10: 34 ) ( ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا ) وعقب دخوله أورشليم أخذه اليهود وأهانوه وصلبوه وقتلوه كما زعموا، فكيف تنطبق هذه النبوة عليه؟ ولكن أبي الإنجيليون الأربعة إلا تطبيقها عليه؛ لأنهم إن لم يفعلوا ذلك لَما انطبقت على أحد مطلقًا؛ لأنه على زعمهم بعد عيسى مباشرة لم يبق إلا مجيء القيامة في عصرهم!! فانظر الآن كيف طبقوها عليه: قول زكريا وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان ) مفهومه أن الحمار هو عين الجحش ابن الأتان على طريق البدل المطابق، وكذلك فهم مرقس ولوقا ويوحنا ( مر 11: 7 ولو 19: 35 ويو 12: 15 ) ولكن متى فهم أن الحمار غير الجحش ابن الأتان فقال ( 21: 2 ) أن المسيح قال لاثنين من تلاميذه: ( اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها فحلاهما وائتياني بهما؛ وإن قال لكما أحد شيئا فقولا الرب محتاج إليهما!! فللوقت يرسلهما ) ثم ذكر متى هنا عبارة زكريا السابقة، فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما وفي بعض النسخ ( أجلسوه عليهما ) ولا ندري كيف جلس يسوع أو جلس على الأتان والجحش معا!! وما الحكمة في ذلك؟ وكيف لم يخف أن يقع من فوقهما مع أن ركوب واحد منهما سهل وهو المعتاد؟ ولكن عدم فهم كاتب إنجيل متى أوقعه في هذا الهذيان، ولم يُبالِ بمخالفة العقل والعادة في سبيل تطبيق هذه النبوة على المسيح كما هي عادتهم فاخترع قصة وجود الأتان والجحش معها وأَرَكَب المسيح عليهما معًا، وكيف سَكَتَ أصحاب الأتان والجحش ( مر 11: 5 ولو 19: 33 ) عن منع التلميذين من حَلِّهما وأخذهما وهم لا يعرفونهما، بل ربما لا يعرفون سيدهما المسيح نفسه؟ وكيف تأكد أنهما رسولاه حقيقة لا لصان؟ وكيف يركب المسيح على جحش لم يجلس عليه أحد من الناس قط، كما قال مرقس ولوقا؟ فلعلَّه فعل ذلك بمعجزة!!! فمن هذه القصة الصغيرة يتضح لك صدق قولنا مرارًا في كتبة الأناجيل أنه يعرفون نبوات العهد القديم أولا ثم يصطنعون منها حوادث للمسيح ويدَّعون أنها وقعت فعلا تتميمًا لتلك النبوات القديمة، ولا يبالون مهما أوقعهم ذلك في الغلط ومخالفة العقل والعادة، فهل يصح اعتبار هذه الأناجيل تواريخ صحيحة حرة وهي في كل ما كتب فيها متأثرة بنبوات اليهود عن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟ وإذا سلم أن المسيح فعل ما حكاه متى وركب الأتان والجحش معًا فما الذي يمنع مُنكري نبوته من القول بأنه إنما أجهد نفسه وخالف العادة رغبة منه في تطبيق نبوة زكريا عليه لتصح دعواه بأنه هو المسيح المنتظر، وإن لم يقدر على تطبيق باقي النبوة عليه لخروجها عن استطاعته؛ إذ ليس في وسعه أن يكون مَلِكا ولا منصورًا ولا قاطعًا لقوس الحروب، ولا له مُلْك يمتد من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، فما قدر عليه وهو ركوب الأتان والجحش معًا فعله وما لم يقدر عليه سلم الأمر لأتباعه ليقولوا فيه ما شاءوا والسلام. هذا شيء مما يقوله ملحدوالنصارى في أوربة الآن وغيره كثير جدًّا جدًّا لا يحصى ولولا القرآن ومحمد الذي يكرهه النصارى ويحاربونه لقال ( 300000000 ) من البشر في المسيح أضعاف أضعاف ما يقوله ملحدو أتباعه واليهود وغيرهم فشكرًا لله ولرسوله على أدبه العالي في المسيح الذي أدّب به المسلمين، والحمد لله رب العالمين!!!.
- ↑ لاحظ أن إنجيل لوقا مع أنه أوفى الأناجيل وأدقها وأصحها هو أيضا أبعدها عن عقيدة النصارى في ألوهية المسيح، حيث إنه اعتبره إنسانًا من أول الأمر إلى آخره، انظر مثلا ( لو 22: 43 و 24: 19 ) ولم يطلق عليه لفظ الرب، وهو في جميع اللغات لقب تعظيم بمعنى السيد والمُعلِّم ونحو ذلك، كما في ( يو 1: 38 ومت 23: 7 و8 ) لم يطلقه عليه إلا مرات قليلة وظهر لهم أن بعضها زيد فيه تحريفًا في الأزمنة الأولى كما في إصحاح ( 7: 31 و22: 31 ) منه وليس هذا فقط بل لم يجعل هذا الإنجيل المسيح ديانًا للخلائق جميعًا مُجازيًا لهم بحسب أعمالهم، كما فعل متى وغيره، ولم يقل إن الملائكة هي ملائكة المسيح ( قارن متى 16: 27 و28 و25: 32 و33 و24: 31 ) بلوقا 9: 26: 27 و21: 27 ) ولم يذكر عبارة متى ( 28: 19 ) التي اتخذها النصارى إشارة إلى ثالوثهم، قارن أيضا كلمات الوداع في إنجيل ( متى 28: 18-20 ) بها في لوقا ( 24: 46 - 53) فأقرب الأناجيل لعقيدة النصارى هو إنجيل يوحنا ويليه متى ثم مرقس ثم لوقا، قارن أيضا قول ( متى 13: 41 ) ( يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ) قارنه بقول لوقا ( 12: 8 و9 ) ( وأقول لكم: كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله، ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله )، ثم راجع سفر الأعمال وهو من تأليف لوقا أيضا عندهم تَرَه يقول فيه عن لسان بولس أستاذه: ( إن المسيح إنسان وإن الله هو الذي أقامه من الأموات ) ( أع 17: 31 ) انظر أيضا ( أع 2: 24 ) وأما قول بولس في سفر الأعمال هذا ( 17: 31 ) ( إن الله سيدين المسكونة بهذا الرجل ) يعني المسيح، فهو لا يدل على أنه كان يعتقد ألوهيته لأنه سماه في هذه العبارة نفسها رجلا، وقال: ( إن الله هو الذي أقامه من الأموات ) راجع أقواله في المسيح في ( 1 تي 2: 5 وأف 1: 17 ورو 5: 15 و1 كو 3: 23 وغل 4: 14 ) وأيضا فإن تلاميذ المسيح أنفسهم سيدينون بحسب هذه الأناجيل أسباط إسرائيل الاثني عشر انظر مثلا ( مت 19: 28 ) وقال عيسى لتلاميذه ( مت 18: 18 ) ( الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء ) ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، ولو أنهم كثيرًا ما سجدوا لصورهم ولصور غيرهم من القديسين والقديسات في كنائسهم. وهذه العبارة الأخيرة ونحوها كانت منشأ سلطة الباباوات العظيمة، وربما أنهم هم الذين اخترعوها ونسبوها لعيسى، وهو منها ومن أمثالها بريء. ومما يُشعر بأن هذه العبارة هي من اختراع رؤساء النصرانية القدماء قولهم عن لسان المسيح قبلها ( مت 18: 17 ) ( وإن لم يسمع ( أي من أخطأ إلى أخيه ) منهم أي من الشهود ) فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار ) فأي كنيسة كانت في ذلك الوقت يتحاكم إليها تلاميذ المسيح وهو لا يزال بينهم؟ فالحق أن هذه العبارة مما أُضيف إلى الإنجيل بعد المسيح بمدة، ويؤيد ذلك جواب المسيح الوارد في إنجيل متى ( 20: 23 ) لأم ابني زبدي بأنه لا يقدر أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله، فكيف إذًا يتصرف تلاميذه في الكون كما أرادوا؟ وقال بولس: إنه هو والقديسين وسائر النصارى سيدينون العالم والملائكة، فهل هؤلاء كلهم آلهة؟ انظر ( 1 كو 6: 2 و3 ).
- ↑ ومن ذلك يعلم أن المسيح ليس وحده عندهم ديانًا للخلائق بل هو أكبرهم وأعظمهم فهو كقاضي القضاة يوم القيامة، وإذا لاحظت أن اليهود كانوا يسمون قضاة الدنيا ( آلهة ) وبالعبرية ( ألوهيم ) وهذه اللفظة تطلق على المفرد وعلى الجمع، فلذا كانت تطلق على الله تعالى وعلى عظماء البشر أو قضاتهم كما يفهم من ( مز 82: 6 صمو 28: 13 ويو 10: 34 - 37 ) راجع أيضا ( خر 21: 6 و22: 8 و9 ) وربما كان إطلاقها على الله - وهي جمع - من بقايا أثر الشرك القديم والوثنية في اللغة العبرية، إذا لاحظت ذلك وتذكرت أن بولس ويوحنا كانا يهوديين صميمين لم تستغرب تسميتهما المسيح، وهو عندهم ديان القيامة الأعظم بإذن الله ( يو 5: 27 ) مرة أو مرتين ( إلهًا ) كما في ( رومية 9: 5 و1 يو 5: 20 ) بعد أن وصفاه بصفات الحوادث مرارًا ونصَّا على أنه أول مخلوقات الله تعالى ( كو 1: 15 ورؤ 3: 14 ) على أن عبارة بولس الواردة في ( رومية 9: 5 ) اختلف فيها المفسرون والمترجمون، فيرى بعضهم أن ما بعد قوله ( حسب الجسد ) جملة مستأنفة ومعناها هكذا - ومن على الكل هو الله مبارك إلى الأبد ) أو ( ومن هو الله على الكل يبارك إلى الأبد ) راجع الترجمة الانكليزية المنقحة Revised version ومما تقدم يعلم أن إدانة الخلائق والتصرف في الكون ليس عندهم قاصرًا على الله تعالى وحده كما هي العقيدة الصحيحة في دين التوحيد الحقيقي القائل كتابه: { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } (الانفطار: 19) { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة: 4) { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } (الكهف: 26) وقال مخاطبًا محمدا ﷺ: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } (آل عمران: 128) وقال: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } فأين هذه العقائد العالية من عقائد الشرك والتشبيه والتجسيم؟ وجاء في سفر التثنية وأوامر التوحيد والتنزيه فيه وفي غيره من كتب العهد القديم كثيرة جدًّا قوله ( 32: 21 ) هم أغاروني بما ليس إلهًا، أغاظوني بأباطيلهم فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا، بأمة غبية أغيظهم، وهي الأمة الإسلامية الناشئة بين الأميين الجاهلين ) مصداقًا لقوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ } (الأعراف: 156-157) إلى آخر الآيات ثم قال سفر التثنية ( 32: 34 ) أليس ذلك مكنونًا عندي مختومًا عليه في خزائني 35 لي النقمة والجزاء في وقت تزل فيه أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة 36 لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يشفق حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبق محجوز ولا مطلق 37 يقول: أين آلهتهم الصخرة 38 التي التجأوا إليها التي كانت تأكل شحم ذبائحهم وتشرب خمر سكائبهم. لتقمْ وتساعدكم وتكن عليكم حماية 39 انظروا الآن أنا أنا هو، وليس إله معي، أنا أُميت وأُحيي، سحقت، وإني أشفي وليس من يدي مخلص 40 إني أرفع إلى السماء يدي، وأقول: حيّ أنا إلى الأبد، إذا سننت سيفي البارق وأمسَكتْ بالقضاء يدي، أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضيَّ ) فقارن هذه العبارات السامية الجليلة بأوهام النصارى ف العهد الجديد، هداهم الله إلى سواء السبيل.
- ↑ قد بين كثير من علماء الإفرنج المحقيقين أن هذا الكتاب الذي كان ينقل عنه يوستينوس لا يمكن أن يكون هو هذه الأناجيل الأربعة بالمرة، كما يدعي المبشرون الآن، وقد أثبتوا ذلك بعدة براهين يطول بنا إيرادها، هنا فمن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ كتاب ( دين الخوارق ) Supernatural Religion ص 181 - 267.
- ↑ حاشية: لما كان النصارى في القرن الأول يعتقدون قرب انتهاء العالم ) كما بينا هنا وفي مقالة الصلب ص 157 ) وأنهم آخر الأمم وآخر الدهور وأن الساعة قريبة جدًّا منهم (رؤ 22: 10 و يو 2: 18 و 1 كو 10: 11) وأن بعضهم يبقى حيًّا إلى مجيء القيامة (1 كو 15: 51 و52 و1 تس 4: 15 - 18) لما كان هذا اعتقادهم كان هناك مسوغ زمني للقول بحصول التجسد والصلب والخلاص في زمن المسيح - آخر الأزمان كما يزعمون - ولكن الآن وقد مضى على البشر عشرون قرنًا، ولا ندري كم بقي من عمر العالم لا أفهم لم حصل الصلب وجاء المسيح في ذلك الزمن ولم يجئ في نهاية العالم أو في أول الأمر بعد عصيان آدم مباشرة؟ وحيث قد ظهر أن العالم لم ينته عقب المسيح مباشرة كما توهموا وقد وصل الرقي البشري إلى درجة لم يصل إليها قبل المسيح ظهر لنا عدم التناسب بين حصول الصلب والزمن الذي حصل فيه! فكان الأولى عقلا والأنسب أن يحصل قرب نهاية العالم حتى تختم جميع القرابين والضحايا به ويختم به الزمان أيضا! فإن قيل: كلامك هذا صحيح إذا كان المسيح مجرد ذبيحة فقط، ولكنه هو ذبيحة ومثال للبشر في تقديم أنفسهم ضحية لأجل إخوانهم الآخرين، فلذا جاء في ذلك الزمن ليقتدي به الناس بعده في أرقى العصور. قلت: الظاهر من صلوات المسيح ودعائه وحزنه وتقوية المَلَك له وطلبه النجاة من الله ومحاولته الدفاع عن نفسه وتصببه عرقًا وصراخه إلخ الظاهر من هذا كله ( كما بينا في مقالة الصلب صفحة 122 - 125 وص 161 وأيضا 109 ) أنه لم يقدم نفسه باختياره، بل أكره على ذلك إكراهًا وبذله الله بدل الناس ولم يشفق عليه كما قال بولس رومية ( 8: 32 ) فهو ليس مثالا حسنًا لتضحية الذات في سبيل نفع الناس بإرادته رغبة منه واختيارًا راجع أيضا كتاب ( دين الله ص 80 ) وعليه يكون صلب المسيح مجرد ذبيحة بشرية لإرضاء هذا الإله المحب لسفك الدماء البريئة، وليس فيه شيء آخر يستفيد منه الناس، فكان الأنسب أن يحصل صلبه في نهاية العالم أو في أوله، وأما حصوله في ذلك الزمن من زهاء عشرين قرنًا فلا أفهم له حكمة ولا أعرف له مناسبة، فلعل المعجبين بعقيدتهم هذه من النصارى يهدوننا إليه، وفوق كل ذي علم عليم.