(( مجلة المنار - المجلد [ 11 ] الجزء [ 2 ] ص 114 29 صفر 1326 - إبريل 1908 )) |
قد تمّ طبع إنجيل برنابا كما قلنا في الجزء الثاني عشَر من السنة الماضية، وقد كتب له مترجمه الدكتور خليل سعادة مقدمة، ذكر فيها ملخص ما قاله علماء الإفرنج فيه ورأيه في ذلك فنشرناها وقفينا عليها بمقدمة منا، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى عيسى المؤيد بروح الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإننا نرى مؤرخي النصرانية قد أجمعوا على أنه كان في القرون الأولى للمسيح عليه السلام أناجيلُ كثيرة، وأن رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعة أناجيل، ورفضوا الباقي. فالمقلدون لهم من أهل مِلّتهم قبلوا اختيارهم بغير بحث، وسيكون ذلك شأن أمثالهم إلى ما شاء الله.
وأما من يحب العلم، ويجتنب التقليد من كل أمة فهو يود إذا أراد الوقوف على أصل هذا الدين وتاريخه لو يطلع على جميع تلك الأناجيل المرفوضة، ويقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من أمرها، ويبني ترجيح بعضها على بعض بعد المقابلة والتنظير على الدلائل المرجحة التي تظهر له هو وإنْ لم تظهر لرجال الكنيسة.
لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها أصلا للدين وما لم يقبل، ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة، ورفضوا ما سواها.
إنجيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام واحد هو عبارة عن هَدْيهِ وبشارته بمن يجيء بعده لِيُتمّ دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم، وإنما كثرت الأناجيل؛ لأن كل من كتب سيرته عليه السلام سماها إنجيلا لاشتمالها على ما بشر وهدى به الناس.
من تلك الأناجيل ( إنجيل برنابا ) وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل. صحبه بولص زمنًا، بل كان ( هو الذي عرف التلاميذ ببولص بعدما اهتدى ( بولص ) ورجع إلى أورشليم ) [1] ، فلعل تلاميذ المسيح ما كانوا ليثقوا بإيمان بولص بعدما كان من شدة عداوته لدينهم لولا برنابا الذي عرفه أولا، وعرفهم به بعد أن وثق به.
ومقدمة هذا الإنجيل الذي نقدم ترجمته لقُرّاء العربية اليوم ناطقة بأن بولص انفرد بتعليم جديد مخالف لِمَا تلقاه الحواريون عن المسيح. ولكن تعاليمه هي التي غلبت، وانتشرت، واشتهرت، وصارت عماد النصرانية. ويذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا من وضعه كما في دائرة المعارف الفرنسية. فلا غرو إذا عدت الكنيسة إنجيل برنابا إنجيلا غير قانوني أو غير صحيح.
لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها، فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد، أي: قبل بعثة نبينا ﷺ على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته، والمثبت مقدّم على النافي.
مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم يسمع أحد ذكرًا لهذا الإنجيل حتى عثروا في أوربا على نسخة منه منذ مائتي سنة، فعدوها كنزًا ثمينًا، ولو وجدها أحد في القرون الوسطى - قرون ظلمات التعصب والجهل - لَمَا ظهرت، وأنى يظهر الشيء في الظلمة، والنور شرط الظهور؟
ظهرت هذه النسخة في نور الحرية المتألق في تلك البلاد، وكانت موضع اهتمام العلماء وعنايتهم، وموضوع بحثهم واجتهادهم، وانبرى بعض فضلاء الإنكليز في العام الماضي لترجمتها بالإنكليزية، وتعمم نشرها وقد أهديت إلينا نسخة منها عند نشرها، فرأينا أنه يجب أن لا يكون حظ قراء العربية منها أقل من حظ قراء الإنكليزية، فكاشفنا بذلك صديقنا الدكتور خليل سعادة، فوافقت رغبته رغبتنا، وترجم النسخة بالعربية ترجمةً حرفيةً، وباشرنا طبعها بعد معارضتها معه على الأصل؛ لأجل الدقة في تصحيحها.
بحث علماء أوربا في هذه النسخة، وكتبوا في شأنها فصولا طويلةً لخصها الدكتور سعادة في مقدمته، فمن مباحثهم ما هو علمي دقيق ككلامهم في نوع ورقها وتجليدها ولغتها، ومنها ما هو من قبيل الخَرص والتخمين، كأقوالهم في الكاتب الأول لها، والزمن الذي كتبت فيه، وتبعهم في مثل هذا البحث أصحاب مجلتي المقتطف والهلال.
ويجب أن ننبه في هذا المقام على قاعدة من قواعد البحث الفلسفية، وأصل من أصوله العقلية، وهي قاعدة إطلاق البحث أو بنائه على رأسه ولو مفروضًا. فإن كثيرًا من الباحثين يبنون أبحاثهم على فرضٍ يتخذونه قاعدةً مسلمةً، وربما كان فاسدًا فيجيء كل ما بني عليه مثله؛ لأن ما بُنِيَ على الفاسد فاسد حتمًا.
مثال هذا ما امتحن به بعض الفلاسفة تلاميذه، وهو أنه عمد إلى جرة كانت في الشمس، فقلبها من غير أن يروه، ودعاهم، فقال: إني أرى وجه هذه الجرة المقابل للشمس باردًا. ثم قلبها ولمس الجانب الآخر معهم، فإذا هو سخن؛ فطالبهم بعلة ذلك، فطفقوا ينتحلون العلل وهو يردها، ولما سألوه عن رأيه في ذلك قال: إنه يجب أن يتثبت من صحة الشيء أولا، ثم يبحث عن علته. وكون الجانب المقابل للشمس من هذه الجرة باردًا، والجانب المقابل للأرض سخنًا غير صحيح، بل قلبتها أنا لأختبر فطنتكم.
وكذلك فعل بعض الباحثين في إنجيل برنابا، فرضوا أنه من وضع بعض المسلمين، ثم حاروا في حزر تعيين واضعه، هل هو غربي أم شرقي، عربي أم عجمي، قديم أم حادث. وما قال أحد فيه قولا إلا وجد من الباحثين من يفنده حتى رأى الدكتور سعادة بعد الاطلاع على تلك الأقوال أن الأقرب إلى التصور أن يكون كاتبه يهوديًّا أندلسيًّا من أهل القرون الوسطى تنصر، ثم دخل الإسلام، وأتقن اللغة العربية، وعرف القرآن والسنة حق المعرفة بعد الإحاطة بكتب العهد العتيق والجديد، واستدل على هذا الفرض بعلمه الواسع بأسفار العهد القديم، وموافقة التلمود، وإحاطته بالعهد الجديد، وغفل عن عزوه إلى كتب العهدين ما لا يوجد في نسخها التي عرفت في القرون الوسطى، وهي التي بين أيدينا الآن؛ كعزو قصة هوشع وحجي إلى كتاب دانيال، وعن مخالفته لها أحيانًا في مسائل أخرى، ولو كان من أهل القرون الوسطى وما بعدها لَمَا وقع في هذا الغلط الظاهر مع علمه الواسع.
واستدل أيضا بموافقة بعض مباحثه للقرآن والأحاديث، وما كل ما وافق شيئًا في بعض مباحثه يكون مأخوذًا منه وإلا لزم أن تكون التوراة مأخوذة من شريعة حمورابي لا وحيًا من الله لموسى عليه السلام.
على أن معظم مباحث هذا الإنجيل لم تكن معروفة عند أحد من المسلمين، وأسلوبه في التعبير بعيد جدًّا من أساليب المسلمين عامَّةً والعرب منهم خاصَّةً، كما بين بعض القسيسين في مجلة دينية، وأي مسلم يذكر الله ولا يثني عليه، والأنبياء ولا يصلي عليهم، ويسمي الملائكة بغير الأسماء الواردة في الكتاب والسنة.
وقد كانت مسألة اليوبيل أقوى الشبهات عندي على كون كاتبه من أهل القرون المتوسطة، لا من قرن المسيح حتى بين الدكتور سعادة ضعفها بدقة نظره، فلم يبق للباحثين دليل يعوَّل عليه في هذا المقام، فإن موافقة بعض ما فيه لبعض ما ورد في شعر دانتي يمكن أن يعلل بأن دانتي اطلع عليه وأخذ منه إن لم يكن ذلك من قبيل توارد الخواطر.
أما الهوامش العربية التي وجدت على النسخة، فيحتمل أن تكون للراهب فرمرينو الذي اكتشف هذا الإنجيل في مكتبة البابا بأن يكون دخوله في الإسلام حمله على تعلم العربية، حتى كان مبلغ علمه فيها أن يترجم بعض الجمل بعبارة سقيمة تغلب عليها العجمة، وما فيه من العبارات الصحيحة على قلتها لا ينافي ذلك، فإن كل من يتعلم لغة أجنبية في سِنّ الكبر تكون كتابته فيها لأول العهد من هذا القبيل: صواب قليل، وخطأ كثير على أن أكثر العبارات الصحيحة في هذه الهوامش منقول من القرآن أو بعض الكتب العربية التي يمكن أن يكون قد اطلع عليها الكاتب.
ويحتمل أن يكون بعض القسوس أو من هم على شاكلتهم قد تعلم العربية؛ ليتبين هل فيها مصادر لهذا الإنجيل يمكن إرجاعه إليها. ويرجح هذا الاحتمال تسميته الفصول سورًا تشبيهًا له بالقرآن، أمّا عزو هذه الهوامش إلى مسلم عريق في الإسلام فخطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ لا يوجد مسلم عربي ولا عجمي يطلق لفظ السور على غير القرآن، أو يقول: ( الله سبحان )، كما جاء في مواضع منها هامش ص 141 و 16؛ لأن كلمة ( سبحان الله ) مما يحفظه كل مسلم من أذكار دينه، أو يقول: ميخائيل بدل ميكائيل، ويجهل اسم إسرافيل فيسميه أوريل أو أورفائيل، أو يقول: إن السموات أكثر من سبع، وإن العدد لا مفهومَ له. كما قال علماء الأصول. ولذلك أمثلة أخرى أضف إليها عدم اطلاع علماء المسلمين في الأندلس وغيرها على هذا الإنجيل، كما حققه الدكتور مرجليوث مؤيدًا تحقيقه بخلو كتب المسلمين الذين ردوا على النصارى من ذكره، وناهيك بابن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي، فقد كانا أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق اطلاعًا كما يعلم من كتبهما، ولم يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل.
بقى أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثًا علميًّا لا دينيًّا أشد الاستنكار وهو تصريحه باسم ( النبي محمد ) عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرًا في خبر الوحي. وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحّالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيّ قبل بعثة النبي ﷺ، وفيها يقول المسيح: ( ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )، وذلك موافق لنص القرآن بالحرف، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئًا من هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل، والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل شبهة عن إنجيل برنابا وغيره.
على أنه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم ( محمد ) ترجمة، وأنه في الأصل الذي ترجم هو عنه قد ذكر بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة، كما بيّنه الشيخ ( رحمة الله ) للشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس من كتابه ( إظهار الحق ) وزاده بعد ذلك بيانًا في البشارة الثامنة عشر.
ولا يحسبن القارئ المسلم أن علماء أوربا وبعض علماء بلادنا كالدكتور سعادة، وأصحاب المقتطف والهلال يظهرون الريب في هذا الإنجيل الموافق في أصول تعاليمه للإسلام تعصّبًا للنصرانية؛ فإن الزمن الذي كان التعصب فيه يحمل العلماء على طمس الحقائق التاريخية وغيرها قد مضى.
وقد بحث علماء أوربا مثل هذه المباحث في الأناجيل الأربعة، فبينوا أنه لا يُعْرَف مَتَى كُتِبَتْ، ولا بأيّ لغة أُلّفت، وقال بعضهم: إن مؤلفيهاغير معروفين، واتهم بعضُهم بولصَ بوَضْع أكثرها، كما ترى في دائرة المعارف الفرنسية وغيرها، بل منهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذ من الأديان الوثنية.
أكثر العلماء في هذا العصر أحرار مستقلون في مباحثهم إلا من غلب عليه التقليد الديني أو مصانعة المتدينين؛ ألا ترى أن الدكتور مرجليوث الإنكليزي هو الذي دحض شبهة من قال: إن لهذا الإنجيل أصلا عربيًّا، وإنه من وضْع المسلمين، وإن الدكتور سعادة هو الذي فنّد رأي المستدل على كونه من وضع القرون الوسطى بما فيه من ذكر كون اليوبيل كل مائة سنة، وإن أصحاب المقتطف يجوزون أن يكون له أصل ترجمت عنه النسخة الإيطالية، ويحثون على البحث عنها، فأمثال أولئك العلماء يجب احترام رأيهم، وإن لم يكن دليله واضحًا وتعليله ظاهرًا.
ومن لاحظ أن بعض القسيسين يجعلون العمدة في إثبات الأناجيل الأربعة ما فيها من التعاليم الأدبية العالية، ثم قرأ تعاليم إنجيل برنابا يظهر له مكانه العالي في تعاليمه الإلهية والأدبية. فإذا صرفنا النظر عن فائدته التاريخية، وعن حكمه لنا في المسائل الثلاث الخلافية: التوحيد، وعدم صلب المسيح، ونبوة محمد ﷺ - فحَسْبنا باعثًا على طبعه وراء قيمته التاريخية ما فيه من المواعظ والحكم والآداب وأحاسن التعاليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
القاهرة في21صفر سنة1326
محمد رشيد رضا الحسيني
منشئ المنار
هامش
- ↑ 1ع 9: 27 كما في ص223 من الجزء الأول من قاموس الكتاب المقدس.