( مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي الذي سماه الأناجيل ) (( مجلة المنار - المجلد [ 6 ] الجزء [ 4 ] ص 131 16 صفر 1321 - مايو 1903 )) |
( تمهيد )
ينعق دعاة النصرانية فينا دائمًا: أن القرآن شهد بأن الإنجيل كتاب الله المنزل على المسيح وأنه حق، فإذا لم تكن هذه الأناجيل الأربعة التي في أيدينا هي كتاب المسيح فأين هو كتابه؟ وقد سبق لنا في المنار الجواب عن هذا السؤال وبيان أن إنجيل المسيح - في اعتقاد المسلمين - هو مجموع المواعظ والحكم والأحكام التي جاء بها المسيح وعلمها بني إسرائيل مع تصديقه للتوراة وأن ذلك لم يحفظ كله، وإنما حفظ منه شيء ونسيت أشياء كما قال تعالى في أهله { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظُّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } ( المائدة: 14 ) وما كانوا يعترفون بهذا ولكن الله عرف نبيه الأمي به فعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون.
كانت تعاليم الدين محسوبة في هذه الأمة عند الرؤساء؛ ولكن ما أحدثه البروتستنت من حرية البحث فيه وما كتبه مؤرخو أوربا الأحرار في التاريخ العام قد أظهر لنا تفسير قول الله في الإنجيل فكان ذلك من دلائل نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه ضرب من ضروب إعجاز القرآن وآية من آياته البينات. فإن التواريخ الكنيسية وغير الكنيسية أظهرت لنا أن أتباع المسيح في زمنه كانوا من العوام الجاهلين، وأنهم مُزِّقوا من بعده في الأرض كل ممزق وكانوا مُضطهَدين من اليهود والرومان جميعًا حتى قضت السياسة على الملك قسطنطين بالدخول في النصرانية واتخاذ عصبة جديدة منها. فلما صار لهذه الديانة سلطة طفقت تنشئ المجامع وتجمع الآثار فظهر عندها أناجيل كثيرة تحكَّم فيها الرؤساء كما شاءوا وأقروا منها أربعة وحكموا ببطلان ما عداها. وإن كانت هذه الأربعة إلا تواريخ للمسيح فيها بعض كلامه المأثور عنه منقولا عن آحاد لا يجزم العقل بصحة روايتهم كلها ولا بكذبها كلها؛ فالذي يمكن الوثوق به في الجملة أن فيها حظًّا من كلام المسيح وبقي حظ آخر هو الذي نسوه وليس فيها كلمة تدل على أن أحد مؤلفيها يدعي أنه جمع فأوعى كل ما قال المسيح؛ بل كانت آخر جملة في الرابع منها قول يوحنا مؤلفه: ( وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ) اهـ.
وإننا بغض الطرف عن الغلو في العبارة نقول: إن الأفعال الكثيرة المرادة لا بد أن تكون مصحوبة بأقوال وتعاليم تُركت كتابتها كما تركت كتابة الأفعال، ولعلنا في جزء آخر نورد بعض أقوال مؤرخي أوربا في ذلك. ونقول الآن: إن العقول المطلقة من أسر تقليد الكنيسة قد اهتدت إلى ما حكم به الإسلام في الجملة. ومن أكبر هذه العقول عقل الفيلسوف تولستوى الروسي الشهير فقد ألف كتابًا أرجع فيه الأناجيل الأربعة إلى إنجيل واحد وحذف منها ما لا يوثق به من الأقوال التاريخية والخوارق الكونية، وإن كان بعضه صحيحًا. وإننا ننشر في المنار مقدمة كتابه هذا معربة عن الفرنسية لتكون عبرة للعقلاء وإن كنا لا نسلم بكل ما فيها تسليمًا.
ذكر في أول المقدمة أن كتابه هذا ( واسمه الأناجيل ) ملخص ارتقائه في الفكر الذي أعانه على معرفة الحق والصواب في التعاليم المسيحية كما يعتقد الآن.
وثانيها في خلاصة المذهب المسيحي المعروف عند الكنائس لخصه مما يؤثر عن الحواريين والمجامع وجمهور القسيسين وأضاف إليه شرحًا ( يوضح فساد تلك التعاليم الكنائسية ) وثالثها في خلاصة الأناجيل الأربعة وجعلها إنجيلا واحدًا يحتوي على التعاليم المسيحية الصحيحة - بحسب ما وصل إليه اجتهاده - ورابعها خلاصة عامة للمعنى الحقيقي الذي تدل عليه التعاليم النصرانية وللأسباب التي أوجدتها والنتائج التي تستلزمها.
( قال ): وهذا الكتاب الذي أنشره الآن على رؤوس الأشهاد هو خلاصة القسم الثالث. ثم قال: ( ولقد حاولت في القسم الثالث من مؤلَّفي الكبير الذي سبقت إليه الإشارة أن أترجم وأنشر الأناجيل الأربعة جملة جملة لا أغفل منها سطرًا واحدًا؛ ولكن رأيت من الواجب أن أتعمد في هذه الخلاصة حذف كل العبارات التي ترتبط بهذه الموضوعات وهي: الحمل بالمسيح وميلاد القديس يوحنا المعمدان وسجنه وقطع رقبته وميلاد المسيح ونسبه وهروبه إلى مصر، والمعجزات التي حصلت في كانا وكفر ناحوم والعزائم لإخراج الجن من أجساد الناس والسير على سطح البحر ولعن شجرة التين والقيامة وكل ما يشير إلى النبوات التي جاء مصداقها في حياة المسيح ).
طويت كشحًا عن هذه العبارات لأنها لا تحتوي على شيء مما يتعلق بالتعاليم المسيحية وإنما لها علاقة ببيان الحوادث التي حصلت قبل تصدر المسيح للتعليم وفي أثنائه وبعده فليس فيها فائدة في إيضاح حقيقة التعاليم التي جاء بها المسيح بل يسوغ لنا أن نقول: إنها موجبة للتشويش في فهمها والارتباك في إدراكها ومهما كانت الوسيلة في ترتيب المعاني على هذه الموضوعات فإنها لا تغير تعاليم المسيح نقضًا ولا إثباتًا وإنما الغرض منها إقناع الذين لا يعتقدون بألوهية عيسى المسيح ولذلك لم يكن فيها أقل فائدة لرجل لا يؤثر حكايات الخوارق والعجائب في إقناعه فضلا عن كون في نفس تعاليم المسيح الدلائل الكافية على ثبوت ألوهيته ).
( ثم قال ): ( وأقول بوجه العموم فيما يتعلق بمخالفة ترجمتي في بعض المواضع للنص الرسمي المعتمد في الكنيسة: إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أنه من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها وفي جميع مقاطع كلماتها وإنها مقدسة بحيث يحرم تبديل شيء منها فلا يصح للقارئ أن ينسى أن عيسى لم يؤلف كتابًا قط كما فعل أفلاطون وفيلون ومارك أوريل، وأنه لم يلقِ تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم، كان يصادفهم في طريقه. وإنما جاء بعد مماته بزمان يقارب المئة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر ببالهم أن يدونوها بالكتابة ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن مثل هذه المدونات كانت كثيرة وقد ضاع معظمها وإن منها ما كان محشوًّا بالخطأ والغلط وأن النصارى قد استخدموا كل هذه المدونات في أول الأمر حتى اختاروا منها مع توالي الأيام ما ظهر لهم أنه أقرب للكمال وللصواب - وإن الكنائس حينما اختارت أحسن الأناجيل بين مئات الألوف من المصنفات التي جادت بها قرائح المشتغلين بالعلم في أوائل النصرانية وقعت فيما يقوله المثل الروسي: ( لا يخلو القضيب من العقد ) فأخذت عقدًا كثيرًا من هذه المجامع وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة لاعتبارها محلا للشك والارتياب. وإن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية!. لا ينبغي للقارئ أنه ينسى أن تعاليم المسيح هي المقدسة وأن ذلك التقديس لا يتعدى إلى عبارات مسطورة وكلمات مرقومة وأن اعتبار بعض الكتب مقدسة لا يكفي في إحاطة التقديس بكل ما جاء فيها إلى آخر سطر منها. فليس الآن في عالم المدنية من يجهل أعمال النقد التاريخي منذ مئة عام سوى جمهور الناس في بلادنا الروسية فإنهم لا يزالون يعتقدون بهذا الرأي الساذج وهو أن أناجيل متّى ومرقس وبولس قد كُتبت كما هي الآن وأن المؤلفين المنسوبة إليهم قد كتب كل واحد منهم ما كتبه على حدته دفعة واحدة.
لا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذا الرأي المبني على الجهل بالمباحث العلمية إنما تعادل قيمته اليوم قول أسلافنا في القرن الماضي: إن الشمس تدور حول الأرض.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل المجملة المندمجة في بعضها إنما هي ثمرة المباحث الطويلة ونتيجة سلسلة من أعمال الحذف والزيادة وأنها أثر من آثار ما أوحاه الخيال على آلاف من الرجال وأنها ليست بنتيجة ما نطق به الروح القدس على لسان الإنجيليين كما يزعمون.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل بشكلها الحاضر لا تتضمن ألبتة شهادة الحواريين وتلامذة عيسى مباشرة وأن القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على محك الانتقاد فضلا عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون والناس يدونون الأناجيل ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد وهي مكتوبة على نسق واحد من أولها إلى آخرها أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه وصارت نسخ هذه الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا!
بل يجب على القارئ أن يستحضر في ذهنه كل هاتيك الاعتبارات حتى لا يعول على هذا الرأي السائد فيما بيننا وهو أن الأناجيل وصلت إلينا صادرة مباشرة عن الروح القدس بشكلها الحاضر ويجب عليه أيضا أن يسلم معنا بأنه ليس من المحرم علينا أن نحذف من الأناجيل العبارات التي لا فائدة فيها وأن نستعين ببعض معانيها على بيان معاني البعض الآخر بل إن الحرام والكفر كل الكفر هو عدم التجاسر على فعل ذلك!!! وأن نعتقد بتقديس بعض العبارات، وطائفة من الكلمات، بحيث نرى أنه لا يجوز مساسها على الإطلاق.
هذا، وإنني أسال القارئ الكريم أن يتذكر أنني إذا كنت لا أعتبر الأناجيل كتبًا مقدسة قد نزلت علينا من السماء مباشرة بوحي من الروح القدس الذي جعلها لنا عهدًا ووصية، فإنني لا أذهب أيضا إلى أن هذه الأناجيل ليست إلا آثارًا تاريخية تدل على حالة التأليف في العلوم الدينية بل إنني مصدق بما حوته من التصور الديني والتاريخي؛ ولكنني أتصورها بطريقة أخرى ولذلك أرجو من القارئ الكريم الذي يمعن نظره في ترجمتي بأن لا يترك نفسه في أثناء تلاوتها تسير في طريق الضلال من حيث الوجهة الدينية أو من حيث الوجهة التاريخية اللتين أقر عليهما أرباب الآداب وعنوا بهما في هذه الأيام فلست أذهب إلى واحدة منهما دون الأخرى، فكلاهما في نظري سواء.
لا جرم أنه يستحيل عليَّ أن أعتبر النصرانية وحيًا لا يشوبه شيء أو مظهرًا مجردًا من مظاهر التاريخ في هذا الوجود؛ ولكنني أذهب إلى أن النصرانية هي النحْلَة الوحيدة التي تجعل معنى لهذه الحياة ولم يدفعني اللاهوت ولا التاريخ إلى اعتناق النصرانية! ولكن الأسباب التي حملتني على قبول هذا المذهب هي ما يأتي: (لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش